إذا انقضى شهر رمضان، وفرغ المسلم من صيامه، دخل في عبادة أخرى، وهي نافلة صيام الستة أيام من شوال؛ امتثالاً لما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان).
وهذا التتابع في العبادة يلفت نظرنا إلى محاولة ملاحظة تتابعها في العام كله، في الصيام وغيره من الشعائر الكبرى؛ بحيث لا يكاد المسلم ينفك من عبادة إلا تلبس بعبادة أخرى، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} (الشرح).
تَتَابُعُ العباداتِ في العام كلِّه
ومع تتبُّع هذا التتابع – والتداخل أيضاً – نجد أن الإنسان المسلم مغمور طوال العام في عبادات متتالية ومتداخلة، يخرج من عبادة ليدخل في أخرى، وينتهي من نافلة ليبدأ نافلة، ويودع فريضة ليستقبل نافلة، وهكذا العام كله.
الصلاة فريضة وتطوعاً:
فإذا نظرنا إلى الصلاة وحدها، وجدناها تكفي المسلم لتجديد إيمانه وبنائه الروحي؛ فهي خمس صلوات تتوزع اليوم كله، وتتخلل أوقات اليوم، فعن أبي هريرة أن رسول الله [ قال: وفي حديث بكر أنه سمع رسول الله [ يقول: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» (صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات).
وبالإضافة إلى هذه الفرائض، هناك النوافل التي تحمي حمى الفرائض، وتحوطها، وتجبر خللها، وتكمل نقصها، وترد فقْدَهَا؛ فعن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يَتَسَارُّ إليه، قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله [ يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة» (صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن).
قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله [، وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس.
ومع ذلك تجد نوافل أخرى للصلوات، مثل: صلاة الاستخارة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة سُنة الوضوء، وصلاة الكسوف، وصلاة الضحى يومياً، وصلاة التسابيح – على الخلاف الذي فيها – بالإضافة إلى التطوع المطلق.
هذا هو توزيع فريضة واحدة مع نوافلها في أوقاتها، فكيف نتصور أثرها في البناء الروحي للمسلم، وهل تترك فرصة للمسلم للتلفت إلى مخالفة أو معصية؟
الزكاة فريضة وتطوعاً:
وأما الزكاة، فقد فرضها الله تعالى بشروطها وضوابطها المذكورة في مطولات الفقه الإسلامي، وحبب إلى التطوع فيها بما أسماه الشرع الشريف: الصدقة، والتطوع، قال تعالى: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} (البقرة)، وقال: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} (البقرة).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله [: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع عن ميتة السوء» (سنن الترمذي: كتاب الزكاة عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الصدقة، وقال أبو عيسى: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه).
وإن كانت فريضة الزكاة تؤدى مرة في العام الواحد لتطهير مال المسلم وتزكية نفسه، فإن صدقة التطوع مفتوحة في كل وقت وفي كل حال، لا نصاب لها ولا مقادير، بل هي مفتوحة للمسلم آناء الليل وأطراف النهار.
الصيام فريضة وتطوعاً:
وأما الصيام، فقد فرضه الله تعالى شهراً كاملاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} (البقرة).
ويلاحظ في شهر رمضان التدرج في الحالة الإيمانية والروحية والنفسية للمسلم، فهو يبدأ صيام رمضان مع القيام والتطوع والتنفل من الصلاة والذكر والدعاء والتهليل والتكبير والاستغفار والتوبة، شيئاً فشيئاً؛ حتى تشف نفسُه، وينشرح صدرُه، وتصفو سريرته، وتقترب دمعته، حتى إذا دخل العشر الأواخر – بما فيها ليلة القدر – دخل المسلم في «قُرصٍ» من العبادة مُكثَّف؛ فيَحدُث نوع من التشكيل الجديد، والصفاء العجيب، والنقاء النادر، الذي يقترب به حال المسلم من حال الملائكة؛ حيث إنها تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تقعد، وتذكر وتهلل وتكبر، وتدعو وتبتهل، وتخاف وترجو، وتعبد الله تعالى ولا يفترون.
ثم بالإضافة لهذا الزاد السنوي الكبير والعميق والمؤثر والمغيِّر يفتح النبي [ باب التطوع في الصيام حتى ليكاد صيامُ التطوع يستوعب المسلم أيام السنة كلها.
– فعن شهر الله المحرم – أول شهور السنة – ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، فصل صوم المحرم).
– وعن شهر رجب، جاء عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب – ونحن يومئذ في رجب – فقال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «كان رسول الله [ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب صيام النبي [ في غير رمضان واستحباب ألا يخلي شهراً عن صوم).
– وعن شهر شعبان، ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله [ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله [ استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان» (صحيح مسلم: وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله [ فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً).
– وعن الصيام في شهور السنة كلها جاء عن عبدالله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله [ يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه؛ حتى مضى لسبيله [» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب صيام النبي [ في غير رمضان واستحباب ألا يخلي شهراً عن صوم).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما صام رسول الله [ شهراً كاملاً قط غير رمضان، وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب صيام النبي [ في غير رمضان واستحباب ألا يخلي شهراً عن صوم).
– وعقد الإمام مسلم في كتاب الصيام باباً بعنوان «استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس».
– وهذا صيام يوم وإفطار يوم لمن أطاقه في وصية النبي [ لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله [ قال له: «صم يوماً ولك أجر ما بقي»، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم يومين ولك أجر ما بقي»، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي»، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي»، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم أفضل الصيام عند الله صوم داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم).
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله [: «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم).
– وفي شهر القرآن، تحلو قراءة القرآن بما لا يجد المسلم حلاوته في غيره من الشهور؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله [: «اقرأ القرآن في كل شهر»، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: «فاقرأه في عشرين ليلة»، قال: قلت: إني أجد قوة، قال: «فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» (صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم).
هل يتخيل المسلم حاله مع الصيام والصلاة فقط، إنْ قام بالفريضة منهما والتطوع؟ فماذا عن الحج والعمرة؟
الحج والعمرة فريضة وتطوعاً:
أما الحج والعمرة، فقد فرض الله الحج – هذا المشهد الجامع والأعظم والأكبر للأمة كلها على مر العصور – مرة واحدة في العمر، قال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (البقرة:196).
ولا يخفى ما في شعيرة الحج من مشاعر غامرة وأحاسيس تملأ نفس المسلم، ومعاني تحتشد فتستغرق قلبه وعقله، عبر رؤية الحشود الهائلة بملابسهم الواحدة؛ ذكراً، وتسبيحاً، وتهليلاً، ودعاء، وسعياً، وطوافاً، إلى أن تنتهي الفريضة بطواف الوداع.
فإذا انضاف إلى ذلك العمرة في كل أوقات السنة، وحج التطوع بعد الفريضة، فلا شك أن ذلك يحدث أثراً كبيراً في إيمان المسلم وروحه وقلبه وعقله، فعن عبدالله قال: قال رسول الله [: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة» (مسند الإمام أحمد: مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود. ج 1/ 387، طبعة مؤسسة قرطبة، القاهرة، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن).
دلالات هذا التتابع والتداخل
إننا حين نتأمل هذا التتابع في العبادات – فرائض ونوافل – مع التداخل أيضاً؛ حيث يصوم المسلم، ويصلي، ويزكي في أيام واحدة؛ فإننا نقف على مدى الأثر الهائل الذي يحدثه الإسلام بهذا المنهج القويم في نفس المسلم؛ قرباً من الله، وضياءَ وجهٍ، وصفاءَ نفسٍ، ونقاءَ سريرة، وترشيدَ سلوك، وسموَّ ذوق، وبياضَ قلب، ونورَ وجدان.
وكذلك نقف على مدى الاستيعاب الروحي والإيماني والعبادي الذي يحوطه الإسلام بالمسلم، ومدى قوة السياج الذي يحميه من الانحراف، ويمنعه من الوقوع في براثن المعاصي ومخالفة الإسلام.
إن الإسلام وهو يأخذ بيد المسلم على الطريق القويم إلى بر الأمان يتدرج معه؛ فيُخلِّيه، ويُحلِّيه، ويُنمِّيه، ويرقِّيه، ويُجلِّيه؛ حتى يصل به إلى درجة العبد الرباني، والملَك النوراني الذي إذا أقسم على الله أبرَّه، وإذا دعا الله لبَّاه.
إن المسلم الذي يتأمل في منهجية الإسلام وتشريعاته التي أكرمنا الله بها لا يملك إلا أن يعالج نفسه على هذا الشرع الشريف، ويحمل نفسه حملاً على تكاليفه ومقتضياته؛ ليصل بنفسه إلى أعلى درجات الكمال الإنساني، والصفاء الإيماني، والنقاء الروحاني، كما لا يملك إلا أن يفاخر بأنه مسلم، وأنه ينتمي إلى هذا الدين العظيم: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)} (يوسف)، {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138)} (البقرة).◾