مقالاتمقالات مختارة

السؤال مجددًا عن أسباب الانحطاط والاستبداد

السؤال مجددًا عن أسباب الانحطاط والاستبداد

بقلم إبراهيم البيومي غانم

حتى وقت قريب، ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح الاجتماعي والسياسي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري؛ الذي جثم على أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ما عدا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة بالحصول على الاستقلال، وأن ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية.

وحتى وقت قريب أيضًا، ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان أو أكثر، ومن ذلك: قضية الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والفساد الإداري، وإساءة استعمال السلطة، وتدهور أوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي والسلوكي.

ولكن بدلًا من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر شراسة ألا وهي: قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر في أفغانستان، والعراق، وسوريا، إلى جانب أشكال الاستعمار الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة، وهي التي لا تزال تراوح مكانها، إن لم تكن قد ترسخت وباتت عصية على العلاج.

إن الأحداث الجارية تشير في أغلبها إلى عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف، مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب على الظن أنها قد حسمت بعد جهاد مرير شاركت فيه مختلف قوى الأمة بأشكال ودرجات مختلفة، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو ما يقرب من ذلك عندما نهضت قوى الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد من أجل التحرر والاستقلال. ومن ثم فإن من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان قبل مائة سنة، ولا تزال أغلبية تلك المشكلات والأسئلة الأخرى تحت عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

لقد طُرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين، لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من مئة عام وأكثر كما قلنا. ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر الأسباب كلها فقد كان واحدًا لديهم وهو: أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي تقود إلى النهضة.

وأيًا كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلًا أساسيًا وحساسًا في آن واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عليه سوف تعبر عن مستوى فهم صاحب الإجابة للواقع الذي صار إليه حال عموم شعوب الأمة الإسلامية. ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري، كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح.

وهو تساؤل حساس بالنسبة للمسلمين خاصة؛ لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب للمناقشة حول الإسلام ذاته وما إذا كان سببًا في انحطاط المسلمين أم لا؟ خصوصًا وأن وضع المقارنة يغري بفتح هذا الباب، إذ إن غير المسلمين هم الطرف الآخر في المقارنة، وهم الذين يثيرون مثل هذا السؤال الملغز، ويتبناه أتباعهم من أبناء الأمة.

ويبدو لنا أن من اللازم أن نبين: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضيّ في بيان أسباب انحطاطهم، وأفول نجم حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه وأهملوه، ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا، فوصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.

وإذا كانت العلة هي في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح، فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب أمجادهم؟ هذا واحد من الأسئلة التي تكمن خلف السؤال السابق، ولا مناص من طرحه ومناقشة الإجابات المحتملة عليه.

ليس ثمة بد من طرح القضية ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة. فتعاليم الإسلام كنصوص وقيم ومبادئ لا يمكن لها أن تنشئ حضارة إلا بشروط، هي من صميم تلك التعاليم، قد تتوفر في مرحلة معينة في مجتمع معين، وقد لا تتوفر.

إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم، فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجًا عمليًا ينظم حركتها، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات، وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويتحكم فيها الاستبداد السياسي، ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي والفساد الشامل، ولا تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد، أو قد لا تهيئ لنفسها هذه العوامل فتبيد، وتصبح نهبًا لهيمنة قوى أخرى.

فالبشرية تسير قدمًا نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في محاولتها هذه أحيانًا تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في استلهامها هذا. وأحيانًا تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية الشعوب كثيرًا ما تكون طويلة المدى وكثيرًا ما تنزع بها المعاكسات العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها.

إن سؤال الانحطاط الحضاري يجب النظر إليه برؤية مركبة من عديد من التساؤلات في إطار ارتباطها بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم، ومنها ما أكدته حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعيًا وسياسيًا، حتى فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.

وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في الأزمنة القديمة شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية تمامًا، ثم نقلتها الديانات: اليهودية، والمسيحية، والإسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سُنةُ الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد شرقية قوية يظلها لواء العدل والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.

وهذا ما بدأ بعض مفكري الغرب في إدراكه، ومنهم المفكر الفرنسي المعروف فرانسوا بورجا الذي يرى أن مجتمعات الأمة الإسلامية باتت على وشك الخروج من عصور الاستبداد والتأخر والدخول في عصر الحرية والازدهار، وأن هناك خشية من أن الأمم الغربية باتت على وشك الخروج من عصر الحرية والتقدم والعودة إلى عصر الاستبداد والتأخر بفعل صعود قوى اليمين المتطرف في قلب أوروبا وفي الولايات المتحدة على السواء.

وفي سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا أن هناك ما يمكن تسميته «دور المفسدين والمستبدين في تخريب الحضارات»، وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين، والتحذير من الجهال وأدعياء العلم والغلاة والبغاة والعصاة.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى