إعداد : ياسر المطرفي
مع كل موسم من المواسم الدينية كـ(رمضان/ الحج)، يتدافع الناس نحو الفتوى، ويروج سوق المفتين، بإمكاننا أن نلحظ ذلك في برامج الإفتاء المباشر على القنوات الفضائية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي حيث يخصص المفتون ساعات معينة للاستفتاءات على حساباتهم الشخصية.
هذا التدافع والرواج هو مؤشر يعكس بشكل ما تمسكًا دينيًا عند الناس، ويحيل إلى أنَّ لديهم إحساسًا بأهمية المحافظة على العبادات وأدائها متلافين الأخطاء ما أمكن.
هذا النظر الإيجابي لهذه الظاهرة ينبغي أن لا يحجبنا عن قراءتها من زوايا أخرى تجعلها أكثر رشدًا، وتساهم في تصحيح كثير من التصورات عند الناس حول السؤال الديني؛ فخلافًا لما نظن فإنَّ ظاهرة السؤال الفقهي تعرضت للمراجعة والنقد والتصحيح منذ وقت مبكر عند فقهاء الطبقات الأولى -أي من قبل أن يتحول الفقه إلى مذاهب-، فالتابعي عبدة بن أبي لبابة (ت: 127ه) يقول: “وددت أن أحظى من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون في المسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم”([1]). وابن وهب ينقل عن مالك بن أنس (ت: 179ه) قوله: “أدركت أهل هذه البلاد، وأنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم -يريد المسائل-“([2]).
نعم، كان لهذا النقد سياقاته التاريخية المختلفة، غير أنَّ ما يعنينا هنا هو النقد ذاته؛ لنجعل منه مدخلًا مناسبًا لهذا المقال الذي سنقف فيه مع ظاهرة السؤال الفقهي مقدمين له بـمقولة مفتاحية لمالك بن أنس-إمام المذهب المالكي- عندما عرضت عليه مجموعة من المسائل الفقهية الدقيقة فقال: “لم يكن النَّاس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل النَّاس اليوم، ولم يكن العلماء يقولون: حرام ولا حلال، أدركتهم يقولون: مكروه ومستحب”([3]).
يُرصد الإمام مالك في هذه العبارة تحولًا في تلك اللحظة الزمنية؛ في طبيعة السؤال الفقهي من جهة، وفي طبيعة الجواب الفقهي من جهة أخرى؛ أي: تحولًا عند السائل، وتحولًا آخر عند المجيب، وسنقف في القسم الأول من هذا المقال مع السؤال الفقهي، وفي قسمه الثاني مع جواب الفقيه.
[1]
عن السؤال الفقهي
إذا جئنا لتحليل ما يتعلق بالسؤال الفقهي، فإنَّ أهم ما يكشفه يمكن أن نُرجعه إلى أمرين:
الأول: أنَّه يكشف عن طبيعة الحالة الدينية عند الناس، أي عن طبيعة فهمهم للدين والتدين؛ وذلك أنَّ تصورات الناس تعكسها أسئلتهم كما تعكسها أجوبتهم، فنمط الأسئلة المتداولة في بيئة ما مفتاح لفهم كثير من طبيعة الأفكار التي تدور فيها؛ وبالتالي فهي مؤشر نافع ومهم في فهمنا لواقع التصورات الدينية السائدة وقتها؛ ولذلك فـمن الضروري أن نفكر في الأمور التي يسألون عنها وتلك التي يغفلون عن السؤال عنها: لِم سألوا عن هذه وتركوا السؤال عن تلك؟ وأين تقع تلك المسؤول عنها في سلّم الأولويات في خطاب الوحي إذا ما قارنّاها بـالمسكوت عنها؟ وماذا يعني أن يُظهر لنا السؤال تورع صاحبه عن أشياء في مقابل غفلته بل انتهاكه لأشياء أعظم دون أي تأنيب للضمير؟
إنَّ فحص السؤالات الفقهية وفقًا لهذه المعاني قضية بالغة الأهمية، وهي واحدة من مسؤوليات الفقيه التي عليه أن ينتبه لها وهو منشغل بالإجابة عن سؤالات الناس، وكم كان الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ذكيًا عندما تنبه لذلك لما سأله بعض أهل العراق عن حكم المحرم يقتل الذباب، فقال-كما يروي البخاري-: يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله: هما ريحانتاي من الدنيا.
إنَّ ابن عمر قد تنبه هنا إلى ذهنية السائل الدينية، أي إنَّه رصد مسار السؤال قبل أن يلقي عليه الجواب، فكيف لهذا العقل الذي يتجرأ على قتل ريحانة رسول الله، أن يسأل متورعًا عن قتل الذباب؟! إنَّه لا يمكن أن يفعل ذلك إلا إذا كان لديه خللٌ منهجيٌ عميقٌ في تصوراته لأولويات الدين.
هذا الدور الذي قام به ابن عمر هو دور من الأدوار التي من المهم أن يقوم بها الفقيه، بأن يعتني بتصحيح مسار الأسئلة، لا من جهة منع السؤال في ذاته، وإنما بالكشف عن مساراته وتجاوزاته ومفارقاته.
أما الدور الثاني للسؤال الفقهي -وهو الأهم- فهو على العكس من السابق، فإذا كان الأول الكشف عن حال السائل (المتفقه)، فإنَّ الثاني هو الكشف عن حال المجيب (الفقيه)؛ لأنَّ الأسئلة في حقيقتها هي رجع صدى لما غرسه خطاب الفقيه قبل ذلك في أذهان الناس عن الدين والتدين؛ وبالتالي فهم عندما يعودون للسؤال، يعودون وهم محملين بجميع ما هو مغروس في أذهانهم عن طبيعة الدين وفهمهم له، أي إنهم يسألون من داخل أفق تلك التصورات المغروسة فيهم وليس من خارجها.
فأولئك الذين سفكوا دم الحسين، وسألوا عن دم البعوض؛ يعكسون طبيعة البيئة الدينية والخطاب الذي نشؤوا عليه، والذي كان من نتائجه أن غرس فيهم انقلابـًا رهيبًا في المعادلة.
والخطابات الفقهية والوعظية كذلك تمارس أشكالًا متفاوتة من هذا الإخلال في سلم الأولويات، وبإمكاننا أن نلحظ ذلك إذا ما شخصنا المحددات التي يتم من خلالها تحديد من هو المتدين من غيره.
ففي الخطاب الديني -سواء الفقهي منه أو الوعظي- الذي نتلقاه كانت وما تزال هناك ملاحظة لا تخطئها العين في المحاضرات والخطب وغيرها من المنابر، وهي أنَّ ثمة تركيزًا على المحرمات أكثر من التركيز على الواجبات، وهذا أثر بدوره في تشكيل هوية (التدين)، فأصبح من الممكن أن يصف المجتمع شخصـًا بالتدين وهو لا يقوم بواجبات من مثل: العدل، وحفظ الأمانة، وبر الوالدين أو صلة الرحم، بينما لا يتصور أن يوصف آخر بالتدين وهو مدخن، أو شارب للخمر مثلًا.
بمعنى: كلما كان الانسان أكثر تركًا للمحرمات كلما كان أكثر تدينًا، ولو قصر في بعض الواجبات فهو يعد مجرد تقصير لكنه لا يخرجه من زمرة المتدينين.
بطبيعة الحال، ثمة اتجاهان أصوليان/فقهيان في هذا الموضوع؛ الأول: يغلّب جانب المحرمات، والثاني: يغلّب جانب الواجبات.
الشاطبي في كتابه الموافقات يذهب إلى الأول فيقول: “اجتنباب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه: أحدها أنَّ درء المفاسد أولى من جلب المصالح”([4]).
وعلى العكس من ذلك اختيار ابن تيمية، فهو يرى تغليب المأمور؛ فيقول: “إنَّ جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأنَّ جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأنَّ مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأنَّ عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات”([5]).
الرؤية الشاطبية ترى أنَّ جانب المنهيات (المحرمات) أعظم، والرؤية التيمية ترى أنَّ جانب الأوامر (الواجبات) أعظم. والواقع اليوم أنَّ كثيرًا من فقهائنا في هذا الموضوع شاطبيون أكثر من كونهم تيميين.
وهذا الاختلاف في الزاوية التي يركز عليها الخطاب ستنعكس بدورها على سؤالات الناس حيث ستكون سؤالاتهم عن المحرمات أكثر من سؤالاتهم عن الواجبات.
هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من جهة تقديم المحرمات على الواجبات.
أما إذا نظرنا إليه من جهة ترتيب الأولويات في خطاب الوحي، فغني عن القول إنَّ السمات الأبرز في تحديد ماهية (التدين) اليوم هي تلك التي تتعلق بمسألة الإسبال واللحية والموسيقى بالنسبة إلى الرجل، ومسألة كشف الوجه بالنسبة إلى المرأة، ومواصفات خاصة للبس الحجاب، وما أشبه ذلك من مسائل الزينة كالنمص والشعر ونحوه.
فليس غريبًا أن تجد من يصفه الناس بالمتدين لأنَّه حقق تلك السمات بينما هو في واقع أمره معتدٍ على أموال الناس، وسيئ الخلق، وعاق لوالديه…
وفي مقابل ذلك تجد شخصًا آخر ليس متمسكًا بتلك السمات، لكنه معطاء خيّر، حسن الأخلاق مع الخلق، وبار بوالديه، ومحافظ على الصلاة، فلا يصفه الناس إلا بأنَّ فيه خيرًا، وأحيانًا يتعجبون من فعله كل هذا بالرغم من أنَّه ليس محشورًا في زمرة (المتدينين).
والسؤال هنا فيما يتعلق بالأولويات: لماذا أصبحت مسائل أقل ما يقال فيها إنها خلافية في كثير من تفاصيلها بين الفقهاء حاكمة على (ماهية التدين) ومقدمة على مسائل أخرى أكثر قطعية ومركزية في خطاب الوحي؟! ما الذي صنع هذه المفارقة في عقول الناس؟!
إنَّ الذي صنع هذه المفارقة هو الخطاب الديني (الفقهي/ والوعظي) الذي يتلقاه الناس، وحدد لهم عبر مراحل زمنية طويلة ماهيات معينة للتدين.
ما نحتاج أن ننتبه له، أنَّ هذا النوع من التحديد عادة لا يشتغل بشكل ظاهر وإنما بشكل مستتر وخفي، وذلك عبر تكثيف الأضواء على تلك المسائل وتخفيفها عن مسائل أخرى.
عبر هذا التكثيف تحول مفهوم التدين إلى حقيقة عرفية، يتعارف الناس من خلالها على المتدين وفق مواصفات معينة، بمعنى: أنك لو سألت الفقيه اليوم أو الواعظ، هل التدين محدد بهذه الأشياء؟
فسيكون جوابه الواضح: لا.
وربما لو سألته: أيهما أكثر أولوية في سلم خطاب الوحي.. اللحية أم الأمانة؟ فسيجيبك بأنَّه الثاني.
لكن علينا ونحن نحلل هذه الظاهرة أن لا نكتفي بهذا الجواب المعلن؛ لأنَّ تشكيل تلك السمات إنما تم بشكل غير ظاهر وربما دون أن يعي الفقيه أنَّـه يفعل ذلك.
وبالطريقة ذاتها ينبغي أن ننظر إلى النقاش القديم والجديد حول الموازنة بين أولويات الخطاب الديني في مسألة الحقوق والعدالة وأولوياته في موضوع الاختلاط والمرأة.
هناك من لا يفضل الحديث عن هذه المفارقة، ويرى أنَّ الحديث في شيء لا يلزم منه الحديث عن كل شيء!
لكن هؤلاء لا يتنبهون إلى أنَّ القضية ليست راجعة لمجرد سكوت أو حديث عن قضية معينة، وإنما هي أبعد من ذلك؛ إنها إعادة تشكيل كبير لمفاهيم وتصورات الناس عن الفقه والدين والتدين…
فهي أشبه بلوحة متكاملة، ستصاب بالتشوه عندما يتم تغييب بعض معالمها المهمة.
والمقصود من ذلك الكشف عن تلك الأرضية التي تنطلق منها سؤالات الناس، والتأكيد على أنَّ كثيرًا منها هو عبارة عن مخرجات لمدخلات خطاب الفقيه السابقة بشكل أو بآخر، وهذا ما يجعل الفقيه أحيانًا يواجه صعوبة في الإجابة عن الأسئلة التي تأتيه من بيئة أخرى نشأت على خطاب فقهي آخر غير الخطاب الذي نشأ عليه الناس في بيئته؛ إنَّه يستغرب طبيعة أسئلتهم، والسبب أنَّ المدخلات التي شكلت فهمهم للدين كانت عبر خطاب فقهي آخر مختلف.
[٢]
جواب الفقيه
لا يمكننا أن نتحدث عن السؤال الفقهي دون أن نتحدث عن جواب الفقيه؛ فهو طرف المعادلة الثاني، وقد كان جواب الفقيه أحد الأسباب التي من أجلها نقد الفقهاء الأوائل -أي قبل تحول الفقه إلى مذاهب- ظاهرة كثرة السؤال الفقهي، وكان من أسباب ذلك النقد أنَّ كثرة المسائل ستضطر الفقيه إلى إعمال رأيه في كثير منها مما لم تأتِ النصوص فيها بقول حاسم، وليس الإشكال هنا؛ وإنما في أن لا يأخذ الفقيه احتياطاته تجاه أمرين تنتجهما كثرة المسائل المعروضة عليه:
الأول: أنَّ هذا النوع من المسائل قد يدعو الفقيه بسبب غياب النص الحاسم لأن يقول فيها بلا علم. والثاني: أن يتعامل الفقيه مع رأيه واستنباطه دون أن يضع بينه وبين النص مسافة؛ وبالتالي يتعامل الناس مع رأيه كما لو أنَّه هو النص.
ينبه إلى الإشكال الأول الفقيه القاسم فيقول: “يا أهل العراق إنَّا لا نعلم والله كثيرًا مما تسألونا عنه، ولأن يعيش المرء جاهلًا إلا أنَّه يعلم ما افترضه الله عليه، خير من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم”([6]).
أما الإشكال الثاني فينبه عليه ربيعة عندما يقول لابن شهاب: يا أبا بكر إذا حدثت الناس برأيك فأخبرهم أنَّه رأيك، وإذا حدثتهم بشيء من السنة فأخبرهم أنَّه سنة، لا يظنوا أنَّه رأيك”([7]).
إذا تجاوزنا هذين الإشكالين وانتقلنا إلى تحليل الجواب نفسه، فسنعود مرة أخرى لتلك العبارة التي افتتحنا بها مقالنا عن مالك بن أنس، والتي كان شقها الثاني يتحدث عن جواب الفقيه، عندما قال: “ولم يكن العلماء يقولون: حرام ولا حلال، أدركتهم يقولون: مكروه ومستحب”.
وله عبارة أخرى أكثر تفصيلًا يقول فيها: “لم يكن الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدري أحدًا اقتدى به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترؤون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا أحسن، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، ولا يقولون حلال وحرام، أما سمعت قول الله عز وجل: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حلالًا وحرامًا، قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}، والحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله”([8]).
ويعلق ابن عبد البر على ذلك فيقول: “معنى قول مالك: أنَّ ما أخذه من العلم رأيًا واستحسانًا لم يقل فيه حلال ولا حرام”([9]).
فمالك هنا يشير إلى أنَّ لغة الفقهاء في ذاك الوقت بدأت تنحو منحى الحسم والقطع في الأجوبة أكثر من السابق، حيث كانت اللغة فيما لم تحسمه النصوص أكثر استرخاء وأقل صرامة، (نكره/ لا يعجبني/ لا نرى..)، كان التعبير بالحلال والحرام شديدًا، وهذا ما جعل الربيع بن خيثم يطلق صرخته للمفتين فيقول: “أيها المفتون انظروا كيف تفتون؟ لا يقل أحدكم: إنَّ الله أحل كذا وكذا وأمر به فيقول الله: كذبت لم أحله ولم آمر به. ولا يقل أحدكم: إنَّ الله حرم كذا وكذا ونهى عنه، فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنهَ عنه” ([10]).
هذا التحول الذي لحظه الإمام مالك ونبه له الربيع، أخذ في ينمو في لغة الفقه بشكل تدريجي شيئًا فشيئًا حتى صارت هذه اللغة (الحلال والحرام) هي اللغة الأكثر حضورًا في جوابات الفقهاء، التي لم يُعد من المقبول توجيه النقد لها.
في تلك الحقبة كان ثمة وضوح في التفريق بين الفقه عندما يكون رأيًا وعندما يكون نصًّا، وهو الأمر الذي كان حاضرًا منذ عهد الصحابة؛ فإنَّ ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن شيء فعله: “أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا، أو شيء رأيته، قال: بل شيء رأيته”([11]).
وفي رواية أخرى عنه أنَّه كان إذا سئل عن شيء لم يبلغه فيه شيء قال: إن شئتم أخبرتكم بالظن([12]).
وبكل وضوح كان أبو هريرة إذا قال في الشيء برأيه قال: هذا من كيسي([13]).
وهذا التفريق بين الرأي والنص هو ماجعل ربيعة منذ وقت مبكر يقول لابن شهاب: يا أبا بكر إذا حدثت الناس برأيك فأخبرهم أنَّه رأيك، وإذا حدثتهم بشيء من السنة فأخبرهم أنَّه سنة، لا يظنوا أنَّه رأيك”([14]).
إنَّ الفقه عندما يكون رأيًا هو قول ظني قابل للتغير والتراجع؛ ولذلك فإنَّ ابن سيرين يربط بين هذا القول بالظن (الرأي الفقهي)، وبين عدم استقرار القول؛ فكان إذا سئل عن شيء قال: ليس عندي فيه إلا رأي أتهمه. فيقال له: قل فيه على ذلك رأيك، فيقول: لو أعلم أنَّ رأيي يثبت لقلت فيه، ولكني أخاف أن أرى اليوم رأيًا وأرى غدًا غيره([15]).
أما مالك بن أنس فكان واضحًا لديه أنَّ ما يقوله في كثير من فتاويه هو من قبيل الظن، يقول عنه ابن وهب: قلما سمعت مالكًا يفتي بشيء إلا وتلا هذه الآية : {إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين}([16]).
أما بعد أن تحول الفقه إلى مذاهب، ودخل الفقه في مرحلة ظهر فيها التعصب والالتزام والإلزام بالرأي؛ فقد أصبح التعامل مع تلك الأقوال الظنية كما لو أنَّه تعامل مع نصوص، وهذا ما نبه له ابن حجر الهيثمي في قوله: “فإنَّ كثيرًا من المتعصبين لمذاهبهم لا يرجعون لضروري فضلًا عن يقيني نظري، وهذا عين العناد؛ لما هو مقرر عند الأصوليين: أنَّ الفقه من باب الظنون، وأنَّ المسائل اليقينية التي تذكر فيه دخيلة فيه، خارجة عن موضوعه، وإنما ذكرت توطئة واستطرادًا، وإذا كان الفقه ظنيًا لظنية أدلته = وجب أن يقبل أقوى الظنين، وأن يرجع إليه”.
بل عاد الأمر في تقلص هذه المسافة إلى أن وجدنا بعض فقهاء المذاهب يطابقون بين المذهب والشريعة، يقول الشيخ أبوإسحاق الشيرزاي معلقاً على كتاب صنفه في فروع المذهب: “لو عرض هذا الكتاب الذي صنفته وهو المهذب على النبي صلى الله عليه وسلم لقال: هذه شريعتي التي أمرت بها أمتي”.
[طبقات الشافعية ٤: ٢٢٩]
إذا كان الأمر قد آل إلى هذا في تلك المرحلة الزمنية، حيث أخذت المسافة بين رأي الفقيه والنص في التقلص شيئًا فشيئًا، فما هو ملاحظ اليوم غياب هذه المسافة الفاصلة بينهما، وهو غياب يبدأ من الفقيه نفسه، وينتهي إلى المتلقي لخطاب الفقيه، الذي يظن من خلال تقديم الفقيه رأيه الظني أنَّه يتحدث فيه باسم الله.
هذا التقلص في تلك المسافة أحدث غيابًا آخر، وهو غياب يؤكد هذا التحول في لغة الفقيه إذا ما تمت مقارنتها بلغة الفقه في عهده الأول قبل دخوله مرحلة المذاهب، يتعلق ذلك بمدى حضور (لا أدري) في الخطاب الفقهي الأول، وقلته تدريجيًا كلما ابتعدنا عن تلك المرحلة؛ فلو رجعنا إلى عهد الصحابة، سنجد ابن مسعود يقول: “إنَّ من يفتي في كل ما يستفتونه لمجنون”([17])، أما ابن عمر فينقل عنه عقبة بن مسلم حصيلة صحبته له فيقول: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرًا فكثيرًا ما كان يُسأَل فيقول: لا أدري”([18])، وإذا انتقلنا إلى الجيل الثاني فإنَّ أيوب يقول: تكاثروا على القاسم بن محمد يومًا بمنى، فجعلوا يسألونه، فيقول: لا أدري. ثم قال: إنَّا والله ما نعلم كل ما تسألونا عنه، ولو علمنا ما كتمناكم ولا حل لنا أن نكتمكم([19]).
أما أئمة المذاهب فقد كانوا مدركين لأهمية حضور (لا أدري) في خطابهم الفقهي؛ ففي أثر يتداوله أئمة الفقه الثلاثة يرويه بعضهم عن بعض، أحمد بن حنبل ينقله عن الشافعي، والشافعي ينقله عن مالك: أنَّ ابن عجلان يقول: “إذا أغفل العالم: لا أدري، أصيبت مقاتله”([20]).
وهذا ما تم تجسيده عملياً، فابن وهب يقول عن مالك: “كنت أسمعه كثيرًا ما يقول لا أدري”([21]). والأثرم يقول سَمِعت أحمد بن حنبل يُكْثِر أن يقول: لا أدري([22]).
وزيد بن الحباب، قال رأيت سفيان الثوري إذا سئل عن المسائل، قال: لا أدري. حتى ظنَّ من رآه أنَّه لا يحسن من العلم شيئًا([23]).
هذه اللاأدرية الفقهية بدأت تضمحل تدريجيًا، حيث كانت حاضرة في الخطاب الفقهي الأول نظريًا وعمليًا، ثم بدأ حضورها العملي يتناقص وإن كانت حاضرة نظريًا؛ فلقد وفر المتن الفقهي للفقيه جوابًا في غالب المسائل، وهذا ما جعله يفتي في غالبها،حتى أن السبكي لما تحدث عن تخريجات المزني هل تلحق بالمذهب أم لا ؟
كان من ضمن تعليله لتلك التقسيمات التي تقال في هذا الموضوع قوله: “وقد لا يكون ذلك موجوداً لإحاطة المذهب بالحوادث كلها”. [طبقات الشافعية ٢: ١٠٤]، وإذا كان المذهب قد أحاط بكل الحوادث فإن مجال كلمة (لا أدري) قد تقلص جداً إلى أن وصلنا لهذا العصر الذي غابت فيه عمليًا فلا نكاد نسمع لها حسًّا في خطاب الفقيه اليوم.
بل آل الأمر اليوم إلى أن أصبح الفقيه الأكثر حسمًا هو الأكثر علمًا، بينما لم يكن الأمر كذلك في الخطاب الفقهي الأول؛ فنظرتهم كانت على العكس من ذلك حيث كانوا يعتبرون -كما يقول ابن عيينة- أنَّ: “أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا”([24]).
ونحن لا يمكننا أن نفهم كيف تحولت لغة الفقيه إلى لغة أكثر حسمًا وجزمًا في تلك التفاصيل إلا إذا رصدنا التحول الذي حصل للفقه عمومًا وأدى به إلى تغيير لغته.
فالفقه مر بتحولين كبيرين أديا إلى هذا التطور في لغة الفقيه:
– لأول: انتقاله من (القول الشخصي) إلى (المذهب الفقهي).
– والثاني: انتقاله من الفقه (الشفهي) إلى الفقه (المدون).
أما التحول الأول، فقد كان الفقه في أول أمره قبل أن يترسم في مذاهب محددة هو عبارة عن أقوال منقولة لكثير من الفقهاء، يُسأل فيها الفقيه عن رأيه فيصرح به، ثم إذا بدى له أن يغير رأيه غيره دونما تردد؛ لأنَّ كثيرًا من تلك المسائل عند الفقيه نفسه ليست محسومة -كما سننقل أقوالهم التي تؤكد ذلك بعد قليل-، لكن الفقه بعد ذلك دخل في مرحلة الترسيم التي تحولت فيها الأقوال الشخصية إلى مذاهب مستقرة؛ مما أضفى عليها صفة الثبات والديمومة، فهنا بعد أن كان قولًا شخصيًا لأحمد أو مالك أو أبي حنيفة من الممكن أن يعود عنه ويختار قولًا آخر، تحول إلى مذهب ثابت على مر العصور والأزمان، وهذا ما لاحظه أبو حنيفة في قوله: “إنَّا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا”([25]). والأمر نفسه عند أحمد ففي واقعة ذات دلالة تعكس أثر تحول الرأي لمذهب في الحسم في مسائل كان الفقيه نفسه غير جازم بها، يقول أبو بكر بن الأثرم: سمعت أبا عبد الله وقد عاوده السائل في عشرة دنانير ومائة درهم، فقال أبو عبد الله: برأيٍ أستعفي منها، وأخبرك أنَّ فيها اختلافًا، فإنَّ من الناس من قال: يزكي كل نوع على حدة، ومنهم من يرى أن يجمع بينهما، وتُلحُّ عليّ تقول: فما تقول أنت فيها؟ ما تقول أنت فيها؟ وما عسى أن أقول فيها، وأنا أستعفي منها، كلٌ قد اجتهد، فقال له رجل: لا بدَّ أن نعرف مذهبك في هذه المسألة لحاجتنا إليها، فغضب، وقال: أي شيء بُدٌ إذا هاب الرجل شيئًا يُحمل على أن يقول فيه؟ ثم قال: وإن قلتُ فإنما هو رأي، وإنما العلم ما جاء من فوق، ولعلنا نقول القول ثم نرى بعده غيره”([26]).
فأحمد هنا كان مترددًا في المسألة، لم يحسم اختياره بعد، لكن السائل كان مصرًّا على أن يجيبه أحمد؛ لأنَّه يريد أن يسجل مذهب أحمد، أي يريد أن يأخذ رأيًا مستقرًا يعتبره مذهبًا لأحمد، لكن أحمد لم يستجب له، وأشار إليه من ضمن ما أشار إلى أنَّ ما يقوله إنما هو مجرد رأي، يمكن أن يقول غدًا بخلافه.
أما التحول الثاني فهو انتقال الفقه من الشفهي إلى المدون؛ فالقول الشفهي أكثر قابلية للتغير، والمكتوب يجعله أكثر استقرارًا وثباتًا، وهذا ما لاحظه الفقهاء منذ وقت مبكر، فعمرو بن دينار يقول لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، فيقول: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، يكتبون رأيًا أرجع عنه غدًا”([27]).
والأمر نفسه عند أبي حنيفة الذي يقول لتلميذه أبو يوسف: “ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمع عني؛ فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدًا، وأرى الرأي غدًا وأتركه بعد غدٍ”.
أما مالك بن أنس فيقول عنه تلميذه أشهب: رآني مالك أكتب جوابه في مسألة، فقال: “لا تكتبها، فإني لا أدري أأثبت عليها أم لا؟”([28]).
والأمر كذلك عند أحمد بن حنبل، عندما أصر عليه السائل أن يفتيه في مسألة في اجتهاد للفقهاء، قال أبو بكر بن الأثرم: فذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد أنَّه قيل له: يكتبون رأيك. قال: يكتبون ما عسى أن أرجع عنه غدًا([29]).
إنَّ تلك الأقوال تشير إلى أنَّ تحول الفقه إلى التدوين سيجعله أكثر استقرارًا مما لو كان فتوى شفهية قابلة للتغير.
وهذا الملحظ أحد الملاحظ التي لا يُنتبه لها في أثناء تحليل سبب تعدد الأقوال عند أحمد بن حنبل.
وتزداد المفارقة وضوحًا -مما يوضح آثار هذا التحول- إذا ما قارنا بين مواقف الأئمة تجاه الإلزام بأقوالهم، وبين مواقف كثير من أتباعهم فبينما تتجه أقوال الأئمة إلى عدم الإلزام، تتجه أقوال أتباعهم في اتجاه آخر وهو الإلزام بها، فأبو حنيفة يقول: “لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما يعلم من أين أخذناه”([30]).
ومالك يقول: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”([31]).
والشافعي أيضًا يقول: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قاب رسول الله وهو قولي”([32]).
وأحمد يختصر رأيه بوضوح فيقول: “لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا”([33]). بل ينقل المروذي عن أحمد قوله: “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم”([34]).
هذه أقوال هؤلاء الأئمة قبل أن تستقر اختياراتهم الفقهية وتتحول إلى مذاهب، أما بعد أن تحولت إلى مذاهب، فسنجد المواقف التالية عند أتباعهم التي تعبر عن اتجاه آخر:
فابن هبيرة الحنبلي يلزم بأقوالهم فيقول: “الإجماع منعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأنَّ الحق لا يخرج عنهم”([35]).
والزركشي الشافعي يوافقه الرأي بقوله: “وقع الاتفاق بين المسلمين على أنَّ الحق منحصر في هذه المذاهب، وحينئذ فلا يجوز العمل بغيرها”([36])
والأمر نفسه نجده عند ابن نجيم الحنفي الذي يقول: “وما خالف الأئمة الأربعة مخالف للإجماع، وإن كان فيه خلاف لغيرهم”([37]).
وكذلك النفراوي المالكي في قوله: “وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربعة … وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم” ([38]).
إنَّ هذه المقارنات تكشف لنا أثر التحولات التي وقعت في مسيرة الفقه، في الفقه أولًا وفي الفقيه ثانيًا.
إنها تجعلنا نتساءل لماذا أصبحت لغة الفقيه: (هذا حلال وهذا حرام) هي (الأصل) بعد أن كانت هي (الاستثناء)؟
وهي تجعلنا قبل ذلك كله عوضًا أن نسأل: ماذا يقول الفقهاء عن أسئلة الناس؟ = نسأل: ماذا تقول أسئلة الناس عن الفقهاء؟
——————————————————–
([1]) جامع بيان العلم وفضله (ص1096).
([2]) جامع بيان العلم وفضله (ص1066)، الفقيه والمتفقه (2/15).
([3]) الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول، لأبي شامة (ص163).
([4]) الموافقات (5/ 301).
([5]) مجموع الفتاوى (20/85).
([6]) جامع بيان العلم وفضله (ص837).
([7]) السابق (ص1071).
([8]) السابق (ص 1075).
([9]) نفسه.
([10]) الفقيه والمتفقه (1/ 529).
([11]) جامع ييان العلم وفضله (ص851).
([12]) السابق (ص777).
([13]) جامع بيان العلم وفضله (ص851).
([14]) السابق (ص1071).
([15]) السابق (ص777).
([16]) سير أعلام النبلاء (8/ 91)، جامع بيان العلم وفضله ( ص778).
([17]) جامع بيان العلم وفضله (ص843).
([18]) السابق (ص841).
([19]) السابق (ص836).
([20]) السابق (ص841)
([21]) السابق (839).
([22]) فتاوى ومسائل، ابن الصلاح (1/ 13).
([23]) سير أعلام النبلاء (4/ 114)
([24]) جامع بيان العلم وفضله (ص843).
([25]) حاشية البحر الرائق، ابن عابدين (6/ 293).
([26]) جامع بيان العلم وفضله (ص774-775).
([27]) السابق (ص1069).
([28]) الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون (1/ 12).
([29]) جامع بيان العلم (ص774-775).
([30]) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ابن عبد البر (ص145).
([31]) جامع بيان العلم وفضله (ص222).
([32]) تاريخ دمشق لابن عساكر رقم (55324).
([33]) إعلام الموقعين (2/ 211).
([34]) الاداب الشرعية لابن مفلح (2: 59)، شرح منظومة ابن عبد القوي، الحجاوي (ص79)
([35]) الفروع لابن مفلح (12/ 202).
([36]) البحر المحيط (4/ 498).
([37]) الأشباه والنظائر (1/ 131).
([38]) الفواكه الدواني (2/356).
*المصدر : مركز نماء للبحوث والدراسات