مقالات مختارة

الزواج في زمن الضياع

بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

مع سيطرة العولمة على الكثير من دوائر الحياة، راحت الكثير من القيم تسقط تباعا من حياة المسلمين؛ بسبب الصبغة المادية الاستهلاكية التي تتسم بها العولمة، والتي تنعكس بالضرورة على المجتمعات التي تسيطر عليها، خاصة المجتمعات الضعيفة ثقافيا، والمنهزمة نفسيا في ميدان الصراع الحضاري، وقد كانت الدائرة الاجتماعية أحد أبرز دوائر الحياة تضررا، حيث ظهرت عليها آثار الانحراف والإعياء الحضاري بصورة واضحة؛ لأنها تشمل كل فئات المجتمع، عكس الدوائر الأخرى التي قد تختص بفئة معينة من فئات المجتمع.

وإذا تحدثنا عن الحياة الاجتماعية فلابد من ذكر الأسرة؛ التي تشكل نواة المجتمع البشري، والحديث حولها يثير مواضيع كثيرة، من بينها موضوع كيفية تأسيس ونشوء الأسر، والمعايير التي تُبنى عليها.

وقد تعرض مشروع الزواج في العالم الإسلامي إلى تغيرات عديدة، مسّت الكثير من جوانبه، وأسقطت العديد من قيمه المعروفة، حتّى وصل الأمر إلى تسيُّد القيم المادية عالم الزواج، ودخلت عليه دواخل تكاد تخرجه عن المقاصد التي من أجلها وجد.

وقد كان لهذا الأمر ما بعده، حيث ظهرت أسر ضعيفة التماسك، سريعة التفكك، نتاجها أجيال ضعيفة دينيا وثقافيا واجتماعيا وحتّى علميا، وسنكتفي بإلقاء الضوء على المعايير المسيطرة على مشروع الزواج، باعتبارها حجر الزاوية، وأساس بنائه.

الزواج بين المال والجمال:

هل يستطيع مال الرجل أن يغطي على عيوبه عند المرأة؟ وهل يغطي جمال المرأة على عيوبها عند الرجل؟

أردت أن أبدا هذه الفقرة بهذين السؤالين الهامين، فأسئلة الحاضر، والبحث عن إجابتها اليوم، هي التي تحدد معالم المستقبل غالبا، ومع الاعتراف أن الأسئلة التي تحيط بمشروع الارتباط كثيرة، إلا أن السؤالين السابقين من أكثر الأسئلة غيابا وتغييبا عن أذهان الراغبين في تكوين أسرة صالحة وسليمة.

لقد صار من المعروف لدى  العام والخاص أننا نعيش زمنا ماديا بامتياز، يتميز بتوجه الإرادة الجماعية نحو محاولة الخروج السريع من قاع الفقر، أو القفز من الطبقة المتوسطة نحو طبقة الأثرياء، بعقلية صعود السلم بخطوة واحدة، وحرق المراحل دون الاهتمام باجتيازها وفق مسارات معروفة ومعقولة، الأمر الذي أثّر على ذهنية الكثير من الناس، وجعل تعاملهم مع الكثير من الأمور الهامّة والخطيرة والشريفة يأخذ منحىً ماديا ابتداءً وانتهاءً، ولعلّ مشروع الزواج من أبرز المشاريع الاجتماعية التي صارت تدور في عالم الأشياء، فقد صار الأساس في اختيار الشريك عند عدد لابأس به من النساء ينبني على الإجابة على التساؤل الآتي: كم يملك هذا الرجل؟ وما مدى قدرته على تحريك الأموال بسحرية بنانه، من رصيد نحو آخر ليحقق لمن تقدم لها حياة هواءها من الأمازون، وأرضها من هايتي، وشواطئها جزر سليمان، وأثاثها من ماليزيا ومصر، وتجهيزاتها المنزلية من اليابان، وملابسها وعطورها من فرنسا، وغذاؤها من السويد، وتكنولوجيتها من أمريكا، وأحذيتها من إيطاليا، وتسوقها في دبي، وإجازتها بإسبانيا .. إنه واقع مرير؛ جعل الكثير من الشباب المقدم على هذا الأمر الجلل؛ يشعر عندما تطأ قدماه بيت المخطوبة أنّه مقبل على تحقيق رهيب، فقد يُسأل عن ساعات العمل، وعن الراتب، والمنح والامتيازات، وأين يقضي عطلته، ونوع سيارته، وسنتها، ونوع المنزل: شقة أم فيلا، وقد يسأل حتى عن رصيده في البنك، وغير ذلك من الأسئلة التي بتنا نسمع عنها كل يوم، فيتصبب الشاب عرقا، ويضيق نفسه، وتكون أقصى أمانيه الخروج والنجاة من هذا التحقيق الذي أتعب أعصابه، واستنزف قواه، وأشعره بالخيبة من بيت المخطوبة الذي تحول إلى مخفر شرطة بقدرة قادر، وقد لا يكون ذلك في مجلس واحد، وإنما في خضم التواصل الأسري بين أفراد العائلتين.

ماذا عن معيار العلم والصلاح؟

لم يعد من الهام عند الكثير من الأسر المسلمة قدرات الإنسان العلمية، أو سلوكاته الاجتماعية الراقية، أو أخلاقه المشهودة، وغدت الكثير من الأسر تُهمل السؤال عن حسب الرجل ونداوة أصله، وأصالة معشره، وشهامته ونبله وشرفه، بل لم يعد من المؤثر سلبا ما تسمع عن المتقدم من تهم الاختلاس والرشاوى، والتعامل الربوي، وسوء الأخلاق، فتلك من لوازم الحياة العصرية. بل أهم شيء عندهم هو ما يملكه من ماديات، أمّا غير ذلك فلا يهمهم، فهم يريدون تأمين حياة ابنتهم وفقط، وتحقيق التفاخر الاجتماعي، بعد أن صار الزواج سبيلا للتنافس على الافتخار الاجتماعي، ولو كان الأمر بيدهم لتمنوا وسعوا إلى أن تأكل ابنتهم: ذهبا وتشرب ماسا، ولا يهمهم حين يفصلون عن القضية البعد الآخر لهذه الحياة.

وبالمقابل نجد أن السفيه الغني والغبي الثري، صاحب حظ ومكانة لدى الكثير من الناس، فيكفي أن تُشاهد سيارته الفارهة المركونة بالشارع، وانتفاخ جيبه من سماكة المبالغ التي حشا بها جيبه، ونفاسة هداياه ، وبريق ساعته؛ حتى تقبل به الفتاة المغبونة بتصورها السطحي لقضايا الحياة.

حين يغلب المال الأخلاق:

فعلا لقد صار المال أقوى من الأخلاق، وغلبت سطوته المبادئ والقيم لدى مجتمعاتنا، فصارت الكثير من العائلات لا تهتم حقا وفعلا بصلاة الرجل وأخلاقه، فالأمر صار حسابات رياضية، تبتديء بحساب الأرصدة المرصودة، وتنتهي بعرفة مقدار الغنى والترف الذي ستستفيد منه أسرة الفتاة.

هل ضيّع عالم الجسد مروءة الرجال؟

أما الرجال فَهَمُّ الكثير منهم جمال المظهر والجسد، وأول شيء يؤكد عليه ويصر عليه جمالها ورشاقتها، بل إن الكثير ممن يكلف غيره في البحث عنها يضع لها سيرة ذاتية افتراضية، تبدأ بالجمال وتنتهي بالجمال، ولم يعد يهم الكثير منهم أخلاق المرأة ومعدنها الأصيل، ومنبتها الكريم وشرفها الشامخ، وسمعتها الباهرة.

المرأة بين جمالها وعيوبها:

لقد صار الجمال يغطي عيوب المرأة الجميلة الغبية؛ التي تنطلق وتنتهي في كل تعاملاتها في الحياة انطلاقا من نعومة شعرها، وطراوة خدها، ورشاقة قامتها، وجمال عيونها، لا تعرف معنى للثقافة، ولا سببا يجعلها تعترف بالعلم والمعرفة ونظريات الأخلاق، فكيف تهتم لذلك، والكل يجري وراءها، ويخطب ودها ويبغي وصالها.

الفتاة المستقيمة وسوق الأخلاق الراكدة:

أما الفتاة التي قضت حياتها في طلب العلم، وفي خدمة أمتها ونصرة دينها، وتجاهد لأجل حجابها، وتسأل ربها أن يرزقها فارس الحضارة والتقدم، فارس الأخلاق الحسنة، والشمائل المحمودة، فإنها فتاة غير محظوظة؛ لأنها لا تتوفر على المواصفات التي طبعتها مذيعات القنوات وراقصات المسارح، وبطلات المسلسلات، وعارضات الأزياء، وملكات الجمال في مخيال شباب اليوم.

بل لم يعد لمتوسطة الجمال أو مقبولة الشكل نصيب لدى  الكثيرين؛ لأنهم صاروا يضعون مقاييس خاصة، استجلبوها من تافهات يقدمهن ” الفن” على أنهن قدوات ومعايير في الاختيار، لم يعد يهمهم دين الفتاة وشرفها وأخلاقها..بل إن الوقاحة الجماعية بلغت حد الاستهتار بالشريفات، فيقولون إنها لا تحقق لنا العفة بتدينها، بل إن الجميلة وإن قلّ حياؤها، فإنها الأجدر بغمسنا في بحر العفة كما يزعمون، وقد كذبوا.

إلى أين يمضي قطار الزواج في العالم الإسلامي؟

لقد كانت نتيجة هذا الانقلاب الرهيب في عالم القيم، تكدس الملايين من الشريفات اللاتي ينتظرن فرصة بناء أسرة صالحة سعيدة دون زواج؛ خاصة أنّ قطار الزمن السريع لا يرحمهن؛ لأنه لا يتوقف في محطاتهن؛ لعدم توفرهن على المطلوب عند ركابه، ولأن رجل اليوم يدرك أن أمامه سيلا بشريا هائلا من المسلمات المغبونات، فإنّه يطلب الأصغر فالأصغر، ما يعني توسيع رقعة العنوسة في حق عدد هائل من النساء، وكلما مر عام إلّا وتضاءلت فرص الملايين منهن في الظفر بفرصة تأسيس حياة أسرية لطالما حلمن بها وعشن لأجلها.

وماذا بعد؟

إن هذه الكلمات هي صرخة اختنق بكتمانها الكثيرون والكثيرات، ممن أرادوا البوح بها  في وجه المجتمع، لعله يغير دفة السفينة نحو بحار مرساها الاستقرار والسعادة، بعد أن توجهت إلى شواطئ الوهم والتعاسة، وما لم يتدارك المسلمون هذا الواقع البئيس التعيس الذي بات يردح فيه مشروع الزواج في العالم العربي والإسلامي، فإن العجز عن احتوائه والتخفيف من وطأته سيكون سمة السنوات العشر القادمة، وما معدلات الطلاق المرتفعة، والخراب الأسري المطرد، وسوء تربية الأسر، وانهيار القيم في المجتمع بشكل عمودي وأفقي لم يسبق له مثيل، إلا مؤشر من المؤشرات على أن سياسة التمادي في محاربة القيم الإسلامية لأجل عادات راكدة أو وافدة سوف تجعل المجتمعات المسلمة محلا لمشاكل كثيرة، لن تنجو منها أي دائرة من دوائر الحياة، وستنخرم الكليات الخمس الذي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها؛ لأنّ انهيار القمة يبدأ من انهيار القاعدة التي تقف عليها، .. فهلا رشادُ يغمس مجتمعاتنا في بحاره؟ وهلّا شمّر المصلحون عن سواعد الجدّ لإصلاح ما خربته يد العولمة في عالم الأسرة والزواج قبل أن تغرق بنا السفينة؟

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى