الزكاة بين التعجيل والتأجيل والتقسيط
بقلم د. فضل مراد
هل يجوز صرف الزكاة بشكل شهري للأسر الفقيرة؟ ..
نظرات مقاصدية بين منهج فقه الموازنات ، ومعركة تزيين التحريف..
سأتكلم هنا عن هذه المسألة أصلا واستثناء ومنهجا وتحريفا، فأقول مستعينا بالحق سبحانه: الأصل..
الأصل في الزكاة أنها مؤقتة بوقت معين إذا حضر تعين إخراجها فورا لأنها حق للمساكين ويحرم تأخير الحقوق مع القدرة ، وإنما جعلها الشرع على رأس الحول مراعاة لمصلحة الغني والفقير.
– أما الغني فلأن المال في السنة آيل للنمو كان تجارة أو نعما أو زرعا أو ثمرا أو نقدا وحركة النمو السوقية تحصل عادة خلال العام والشريعة تعلق الأحكام على طبائع العادات الغالبة.
– أما الفقير فينتفع بها على رأس السنة لأنه يتسلمها دفعة واحدة في وقت معين فتحصل بها الكفاية وينتفع بها في إنشاء مشروع تجاري أو منزل أو غيره.
بخلاف تقسيطها وتمزيقها وتأخيرها فهذه الاعتبارات الشرعية والمقاصدية ناسب جعلها رأس الحول ، وتأخيرها عن ذلك ضرر ومطل فحرم.
ولهذا أطبقت المدارس الفقهية الشافعية والمالكية والحنابلة وقول لإصحاب أبي حنيفة عليه الفتوى إلى الفور الاستثناء..
ومن أخرها لمصلحة راجحة أو دفع ضرر متوقع فإن الموازنة الفقهية المقاصدية بين مقاصد النصوص الجزية ومقاصد الشريعة المصلحية الكلية يدل على الجواز بيان ذلك:
أن دليل استثناء الجواز هنا هو المصلحة أو دفع الضرر وهو دليل كلي ومقصد عام مقطوع به في الشرع.
ودليل إخراج الزكاة الجزئي مقطوع به ومصلحته مقطوعة وهي نفع الفقير وأصناف الزكاة، وهذه المصلحة تتحقق بفورية الإخراج وتتخلف أو تختل بتأخيره لأن دعوى وجودها بتأخير معين ليس مقطوعا به لأن التقديرات تختلف وقد تكون المصلحة موهمة أو الضرر موهوما لكن كذلك قد تكون مصلحة حقيقية في التأخير أو دفع ضرر معتبر..
لهذا التنازع بين العمل بمقتضى النص المصلحي على الفورية وبين التأخير واحتمال المصلحة فيه كان الأصل هو التمسك بفورية الإخراج ، وكان التأخير استثناء مشروطا بتحقق المصلحة أو دفع الضرر وعلى هذا يتنزل كلام الفقهاء أصلا واستثناء تأصيلا وتنزيلا.
1- فنجد الشافعية راعوا هذه المصلحة الراجحة فجوزا التأخير لأجلها بشروط مشددة ومثلوا لذلك كأن «أخر لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج» وشرط إمام الحرمين «أن لا يستفحل ضرر الحاضرين وفاقتهم فإن تضرروا بالجوع ونحوه لم يجز التأخير للقريب وشبهه بلا خلاف».
2- ونحا المالكية إلى المدرسة المصالحية كذلك أصلا واستثناء فالأصل الفور سفرا وحضرا لأن العمل بالنص على الفور هو في ذاته تحقيق لمصلحته.. ولا يتسامح في تأخيرها إلا لمن كان في سفر فخشي الحاجة فله أن يصرفها في نفقته ويؤخرها.
3- وهكذا أجاز الحنابلة تأخيرها يسيرا للمصلحة لإعطاء قريب أما كثيرا كأن يعطيه شهريا فيحرم ولحظ الحنابلة دفع الضرر في القول بتأخير الزكاة نظرا لتحقق ضرر على المزكي في نفسه أو ماله.
لأن من قواعد الشرع لا ضرر ولا ضرر وهو عام كلي قطعي ولأن مقصود الزكاة نفع الفقير والغني فإن حصل ضرر على جانب في نفسه أو ماله جاز له تأخيرها يسيرا حتى تسنح الفرصة بإخراجها ويشترط أن يكون الضرر محققا كما قدمنا.
ومن أراد تقسيط الزكاة على مستحقها كمصروف شهري لقريب أو نحوه فإن في الشرع معالجة لهذه الحالة نجدها في مسألة تعجيل الزكاة لعام آت كما هو ثابت في السنن الصحيحة،،
وعليه المذاهب الأربعة إلا أن المالكية أجازوا ذلك قبل وقتها بمدة يسيرة كشهر مثلا على تفصيل عندهم
بل صرح بهذه المسألة بعينها الحنابلة «قال أحمد: لا يجزئ على أقاربه من الزكاة في كل شهر. يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم مفرقة ، في كل شهر شيئا، فأما إن عجلها فدفعها إليهم، أو إلى غيرهم مفرقة أو مجموعة، جاز، لأنه لم يؤخرها عن وقتها».
منهجية فقه الموازنة المقاصدية وعلى ما تقدم نرى جليا فقه الموازنات المصالحية
وكيف يكون ذلك وأن التكليف هو العمل بالأصل لأن العمل به يحقق مقصود النص على وجه مؤكد.
وأن الاستثناء من الأصول يجب دراسة عللها وحكمها وأهدافها ومقاصدها دراسة حقيقية للوصول إلى مدى تحقق المصلحة ودفع الضرر
فإن تبين أن ذلك الضرر حقيقي وأن المصلحة بينة واضحة حقيقية لا موهومة.
وجب هنا النظر في تعارضها مع مقاصد الأصول الجزئية ومقاصد الأصول الكلية
ووجب النظر في تنزيلها الواقعي حالا ومآلا هل يحقق المصلحة أم أن الواقع والمتوقع خلاف التنظير
فهنا نظرنا إلى مقاصد النصوص الجزئية في فرض الزكاة وأن الفورية هو المحقق لها
ونظرنا في مقاصد الشرع الكلية المحكمة التي تحكم مسائل الشرع في كل باب.
فأحدثنا موازنة بين المصالح والمقاصد
وتحققنا من خلال التنزيل على مسائل بعينها في الواقع
أن الاستثناء المبني على المصلحة لا يعود بالإخلال أو الإبطال على الأصول حينئذ تصح الفتوى التحريف المزخرف ومعركة التزيين..
أما الهجوم على الاستثناء واتخاذه سبيلا ومنهجا بدعوى المصالح بدون دراسة لكل ما قدمنا فهو نوع من التجاسر على الشرع ونوع من الجهل الحقيقي بالفقه وتنزيله
وهذا ما نراه في أطروحات معاصرة كثيرة بدعوى المصلحة.
ويجب أن نعلم علم اليقين أن المصلحة المقطوعة لا تعارض النص لأن العمل بالنص هو المحقق لها قطعا لذلك حرم قطعا مخالفة صرائح النصوص بدعوى المصلحة لأن المصلحة حينئذ وهمية ، ولهذا نجد في غير المتضلعين والمختصين في الشرع وعلومه ممارسة التخريب للشرع وتحريفه بدعاوى مصلحية.
فالنصوص وظواهرها هي التكليف ومن خالفها بدعوى المصلحة فقد ادعى أن النص قائم على غير ذلك.
وهذا ما وقع فيه بعض الهواة الغواة في الكلام على مسائل كثيرة كمسائل الميراث وغيرها
فأرادوا ترك النصوص المقطوعة ثبوتا ودلالة إلى تحليلاتهم المتخيلة وزينوا ذلك بلفظ المصلحة ليحصل نوع من القبول المبني على التضليل وهذا نوع من التزيين الذي حذر الله منه
فرق الكافرين الحاملين لواء التزيين (كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) [الأنعام: 122].
لقد مارس هؤلاء أكبر المنكرات بدعوى مزينة مصلحية حتى قتلوا أبنائهم حفاظا على اقتصاد الأسرة من الانهيار خشية الفقر والإملاق (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ قَتۡلَ أَوۡلَٰدِهِمۡ) [الأنعام: 137].
وقد حذر الله في مسألة التحليل والتحريم من هذا التلاعب الخطير الذي يزينه الجهلة بأنه مصلحة واضحة لكنها في الحقيقة ليست كذلك بل سماها الله سوء أعمالهم..
(فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٧) [التوبة: 37-38].
وهذه الصراحة والوضوح في تسمية الأمور بحقيقتها هي منهج القرآن ومصدر هذا التزيين الجهول والمنحرف الشيطان الذي صرح بهذا مبكرا في بداءة المعركة (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٣٩ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ) [الحجر: 39-40].
وفي النص القرآني أن هذا التزيين للفساد والضلال والانحراف مقصور على نوع معين من البشر لا يطال المخلصين لذلك استثناهم من حيله وزخرفه وانحرافه المزين بتلبيسات ولافتات عديدة.
والمخلصون بالفتح هم الصفوة في الإيمان والإخلاص والصفوة في النظر في الكتاب والسنة ومقاصدها فهؤلاء إن نظروا وأفتوا وبحثوا كان ذلك كله خاليا من الهوى والضلال والتزيين والزخرفة له. فهم مع الله ونهجه الذي أراد يبينونه للعام كما أراد الله لما كما يريدون هم أو غيرهم
وهذا يكشف لنا أن معركة تزيين التحريف والانحراف معركة يقودها الشيطان ومن تبعه من شياطين الإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، إنه تزيين مزخرف وليس تزيينا فقط.
ولهذا وجب الوقوف أمام هذا القطيع الإبليسي المحارب بالوكالة عن قضية إبليس ومنهجه..
ببناء منهجي مرصوص محكم من حملة الكتاب والسنة وفي نفس الوقت بدحض مستمر متواتر لمعركة للشهوات والشبهات التي تنتج في معامل إبليسية وتسوق بزينة وزخرف وغرور…
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)