بقلم محمد هنيد
لا شك أن أحد الروافد الأساسية التي مكنت للنظام الاستبدادي العربي إنما تتمثل في المنظومة الفكرية والثقافية التي أرساها طيلة عقود من الزمن فشكلت حزاما منيعا يقيه كل أنواع الثورات والهزات. لكن تآكل المنظومات الاستبدادية العربية ورفضها للتجديد هو الذي خلق هذه الفجوة السحيقة التي تفصل بين التصورات الفكرية للنظام وبين البني الفكرية الشعبية القاعدية خاصة فيما يتعلق بشروط الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والتفكير وحرية الإعلام والتنظّم.
يشمل هذا الحزام كل الأشكال الثقافية والتعليمية والفنية التي تعبر المجتمع وتتشكل داخله ويولي النظام السياسي أهمية قصوى لهذا الحزام وخاصة منه الأشكال الأقرب إلى الوعي القاعدي أو تلك التي تسمح بمداخل بسيطة للوعي مثل القطاع الإعلامي.
يشكل هذا القطاع مدخلا يوميا مباشرا للتواصل مع الفرد والمجموعة ويساهم بشكل محوري في صياغة وعيهم وتحديد ردود أفعالهم وهو ما يفسر سيطرة الدولة الاستبدادية بشكل كلي تقريبا على وسائل الإعلام السمعية والبصرية. لكنه في الحقيقة لا يمثل إلا الحلقة الأخيرة في البناء الفكري للمجتمع ولا يشكل إلا الواجهة السطحية للفكرة وللخبر.إن الجامعات والمدارس والمسارح ودور الثقافة وكذا المساجد ودور العبادة إنما تمثل امتداد طبيعيا لفكر الاستبداد. فهو يوليها أهمية قصوى لأنها تمثل في الحقيقة البنية العميقة لتشكل الوعي الجمعي وتتحكم في ردود أفعاله.
ورثت الدولة الاستبدادية العربية حقلا فكريا وثقافيا سليما نسبيا من المرحلة الاستعمارية أي أن الدولة الاستعمارية التي استوطنت مختلف الأرض العربية خلال القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين لم تنجح في تدمير النسيج الفكري والثقافي للأمة. إن الإقرار بسلامة البناء الفكري للأمة بشكل عام إنما يتأسس على قدرة هذا البناء على مقاومة الاحتلال وعلى طرد المستعمر من أجزاء كثيرة من المنطقة.
صحيح أن ما سمي بموجة التحرر والاستقلال التي عرفتها الأقطار العربية إنما تدخل في سياق النتائج المباشرة لمخرجات الحرب العالمية الثانية ونهاية عصر الامبراطوريات الكلاسيكية. صحيح أيضا أن مرحلة التحرر هذه إنما تدخل في إطار ما سمي بالاستعمار الجديد أو النيوكلونيالية أي مرحلة الاستعمار غير المباشر. صحيح كذلك أن الدول العربية لم تعرف استقلالا حقيقيا وأن القوى الاستعمارية القديمة لا تزال تتحكم في مصير هذه الدول وفي خياراتها.
فبقطع النظر عن صحة هذه الإقرارات فإنه يمكن القول بأن النظام الفكري والثقافي بقي سليما إلى حدّ كبير جدا خلال مرحلة الخمسينات. إن العودة إلى النظام الثقافي خلال هذه الفترة وإلى طبيعة المجتمعات تؤكد أن الفعل الاستعماري الثقافي رغم كل نجاحاته إلا أنه لم يصل إلى مرحلة القضاء على البنية الفكرية واللسانية والثقافية للمجتمعات المستعمرة.
لقد عرفت فترة الخمسينات والستينات أوج العطاء الفكري والثقافي العربي والإسلامي على مستوى الانتاج المعرفي والفني. لكن مع بداية تشكل ما سمي بالدولة الوطنية عرف الحزام الفكري أكبر انتكاساته عندما ارتبط بالنظام السياسي وأصبح رهينة له حيث طوّعت السلطة المركزية كل الفضاء الفكري لصالحها ومنعت تطور الأبنية الفكرية بأن فخخت قواعدها الصلبة وجففت كل المنابع التي تزودها بالحياة وبشروط التجدد.
اليوم يبلغ البناء الثقافي والفكري العربي حالة متقدمة من التصدع التي تهدد بانهيار البناء كاملا بعد أن حولته الأنظمة السياسية إلى ذراع سياسية يقتصر وجودها على خدمة النظام بمنع كل الأشكال التعبيرية التي تتعارض مع منظوماته الفكرية. لا يقتصر هذا الإنذار على انحدار الأنظمة التعليمية وتراجع ترتيب الجامعات وجدب البحث العلمي بل يتجاوز ذلك إلى غياب الإبداع الثقافي عامة وإلى الانهيار اللساني والسلوكي شبه الكامل.
ليست الأشكال الثقافية الهابطة والمتردية التي تخترق النسيج الاجتماعي والثقافي للدول العربية إلا تعبيرا عن حالة الجدب التي وصلت إليها الأمة بعد أن نجح الاستبداد العربي في تجفيف منابع الإبداع وفي قتل ملكة الفكر وفي إفراغ الأشكال الثقافية من كل قدرة على التجدد.
لقد ربط العقل السياسي العربي النظام الثقافي والتعليم بالغرب وبالمؤسسات الغربية وبالمنظومة الفكرية الغربية بشكل أصاب الأنظمة الفكرية العربية بالشلل. هذا الربط لم يكن لاستنباط المناهج الغربية أو للمقارنة بينها وبين المناهج المحلية بل هي جاءت تعويضا للفعل الثقافي العربي برمته بشكل ألغى حضوره إلغاء تاما.
إن سقوط الأنظمة الاستبدادية العربية التي طالتها ثورات الربيع لم يطل كثيرا حيث نجحت هذه الأنظمة في العودة من جديد إلى السلطة بشكل أو بآخر بفضل الحزام الفكري والثقافي الذي أسسته. أي أن عودة الاستبداد على أكتاف الدولة العميقة إنما تم بفضل المنظومة الفكرية للسلطة وعلى رأسها المنظومة الإعلامية.
بناء عليه فإن القضاء على الاستبداد لن يكون ممكنا إلا باستئصال نظامه الفكري والثقافي ولن يكون ذلك ممكنا إلا بإنتاج الشروط الحضارية والسياسية التي تسمح بإفراز بدائل له وبتطوير الظروف التي تمنع أطروحات الفكر الاستبدادي العربي من النشوء ومن التطور والتجدد.
(المصدر: عربي21)