مقالاتمقالات مختارة

الردُّ على أحد المتطاولين على علم التفسير بخصوصِ زوجةِ نوحٍ عليه السلام وابنِهِ والحورِ العينِ

الردُّ على أحد المتطاولين على علم التفسير بخصوصِ زوجةِ نوحٍ عليه السلام وابنِهِ والحورِ العينِ

بقلم جهاد بن عبد الوهاب خيتي

ابتليت الأمّة في الآونة الأخيرة بعددٌ ممن يتجرّؤون على تفسير كتاب الله –تعالى- بآرائهم المنفردة التي لم يُسبقوا إليها، معتمدين في ذلك على اللغة العربية حسب فهمهم المجرّد لها، أو باستخدام علومٍ وأدواتٍ لا علاقة لها بالتفسير!!

 وغالبًا ما ينتهي بهم الأمر في تفسيرهم هذا إلى تأويلاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأقوالٍ ليس لها من الحقّ نصيب، واختياراتٍ مرجوحة نبذها علماء الأمّة في القديم والحديث.

يأتي هذا كلّه في ظلّ إقصاءٍ متعمّد للسنّة النبوية، إنكارًا منهم لحجيتها وأهميتها في الدين، صرّحوا بذلك أم لم يصرّحوا، وتهميشٍ معيب لأقوال سلف الأمّة من الصحابة ومن تبعهم، وكأنّه لا وجود لهم ولا لأقوالهم ولا لكتبهم التي أفنوا أعمارهم في تأليفها، وتناقلتها الأجيال عبر العصور واعتنت بها وحققتها.

ومن هؤلاء: شاعرٌ استضافته إحدى القنوات، فأخذ يفسّر آياتٍ من كتاب الله وفق هذا المنهج المنحرف، ليخرج بنتيجة مفادها أنّ زوجة نوح -عليه السلام- قد خانته، ووقعت في الزنا، وأنّ الذي غرق في الطوفان ليس ابنه من صلبه. وتحدّث كذلك عن الحور العين؛ ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ الحور العين اسم جنس يشمل الرجال والنساء، فهناك حور عين رجال كما أنّ هناك حور عين نساء!!

 وسوف أردّ على ما جاء في هذا الفيديو بشكل علمي منهجي مختصر.

 أولًا: المتحدّث شيعي المذهب، أسأل الله أن يردّه إلى الحق. ومن المعروف أنّ مذهب الشيعة مخالف لمذهب أهل السنّة في الأصول والفروع؛ لذا فمن غير المقبول جملة وتفصيلًا أن نأخذ تفسير كلام ربنا ممن يقوم مذهبه على ادّعاء تحريف القرآن، وتكفير معظم الصحابة، والطعن في عِرْض النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار السنّة الثابتة.

ولدينا -نحن أهل السنّة- من الكتب والروايات الموثوقة والمنهج الصحيح الموافق للكتاب وسنّة الرسول -صلى الله عليه وسلّم- وصحابته -رضوان الله عليهم- في تفسير القرآن الكريم ما يغني عن الأخذ عنهم.

وهذا المنهج في عدم الأخذ عن أهل البدع: هو المنهج الذي رسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- لنا، وسار عليه سلف هذه الأمّة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، قال رسول الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)[1].

وقال مُبَيّنًا المنهجَ الذي يجب أن نسير عليه بأنّه: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَاِبي)[2].

فالصحابة هم أعلم الأمّة بعد النبي صلى الله عليه وسلّم، ولذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عندما ذهب لمناقشة الخوارج: “جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ”[3].

فمن سار على هذا النهج فَعَنْهُ يُؤخذ العلم، قال محمد بن سيرين رحمه الله: “لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ”[4].

وعنه -رحمه الله- أنّه قال: “إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ”[5].

  ثانيًا: المتحدّث “شاعر”، هكذا جاء التعريف به على شاشة القناة أثناء إجراء اللقاء، وهو إضافة إلى ذلك باحث في اللغة العربية وأديب، ولكنّه ليس من أهل التفسير؛ حتى يُؤخذ تفسير القرآن عنه! 

فقد وضع العلماء شروطًا للمفسِّر حتى يكون مؤهّلًا للخوض في تفسير القرآن، ويكون تفسيره مقبولًا، منها:

1- صحة العقيدة: لأنّ صحة العقيدة لها أثر كبير في نفس صاحبها، وما يتأثر به الإنسان يظهر في كلامه منطوقًا ومكتوبًا.

2- التجرّد عن الهوى، فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذاهبهم، ولو كانت على غير حق.

3- أن يطلب تفسير القرآن بالقرآن، فإنّ بعض القرآن يفسّر بعضه … ثمّ بالسنة النبوية؛ وذلك لأنّ السنة شارحة للقرآن وموضحة له … ثمّ بأقوال الصحابة؛ لأنّهم أدرى بذلك من مشاهدتهم للعديد من القرائن والأحوال والحوادث عند نزول القرآن الكريم، ولما لهم من خصوصية الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، مع الإخلاص الكامل لله ولرسوله، ولأنّهم هم الأمناء الأُوَل على الرسالة … ثم بأقوال التابعين؛ فقد تلقّوا التفسير عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

4- أن يكون عالمًا باللغة العربية وفروعها؛ لأنّ القرآن نزل بلغة العرب، ولا بدّ للمفسر من معرفة مفردات الألفاظ عند الشرح، حتى لا يقول في كلام الله تعالى ما لا يجوز ولا يليق.

5- أن يكون عالمًا بأصول العلوم المتصلة بالقرآن وعلم التوحيد، حتى لا يؤوّل آيات الكتاب العزيز التي في حق الله تعالى وصفاته تأويلًا يتجاوز به الحق والصواب. كما يجب عليه أن يكون عالمًا بعلم الأصول، وأصول التفسير، والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك من العلوم التي تتعلق بالقرآن الكريم.

6- دقّة الفهم … وهو الذي به يتمكن المفسر من ترجيح معنى على معنى آخر[6].

 ثالثًا: من المتفق عليه بين علماء التفسير أنّ الاعتماد على اللغة العربية وحدها لا يكفي لتفسير القرآن بشكل صحيح، وقد عدّ شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك أحد أسباب الخطأ في التفسير[7].

“فكما أنّ اللغة العربية من أهمّ مصادر التفسير، ولا يصح لمفسّر أن يفسّر القرآن وهو جاهل بلغة العرب، إلا أنّ اللغة لا تستقل بفهم القرآن، والاعتماد عليها دون غيرها من المصادر الأخرى يوقع في الغلط. ومن أهم هذه المصادر:

1- القرآن نفسه؛ لأنه قد يفسر بعضه بعضًا.

2- ومعرفة السنّة النبوية والتفسير النبوي.

3- ومعرفة المصطلحات الشرعية.

4- وأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم.

5- وأسباب النزول، وقصص الآي، وغيرها مما قد يحف بآية دون غيرها، فإذا استوعب المفسّر هذه المعلومات وغيرها من العلوم التي يحتاجها: أمكنه أن يجتهد في التفسير، ويرجّح فيه بين الأقاويل”[8].

ولذا فإنّ الذين يفتقرون إلى الشروط اللازم توفرها في المفسّر، ويعتمدون على اللغة فقط في تفسير القرآن يقعون في أغلاط فاحشة.

يقول د. مساعد الطيار: “وقد ظهر انحراف المبتدعة في التفسير اللغوي في ثلاثة أمور هي:

1- ما يتعلق بالله تعالى وصفاته.

2- ما يتعلق ببعض المغيبات كبعض أمور الآخرة، وما نسب للمخلوقات الغيبية والجمادات من إحساس أو غيره من الأمور التي وصف بها العقلاء.

3- ما يتعلق بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام”[9].

ونلاحظ أنّ ما أخطأ فيه هذا المتحدّث يتعلّق بالأنبياء والغيبيات!!

والآن نأتي للتفسير الصحيح للآيات التي أخطأ في تفسيرها

 رابعًا: ما التفسير الصحيح لقوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} في آية: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم: 10].

1- لفظ الخيانة لا يعني الزنا بكل الأحوال، فمن معاني الخيانة في القرآن:

‌أ. الكفر والنِّفاق: ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: ٧١].

‌ب. المعصية: ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٨٧].

‌ج. نقض العهد: ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: ٥٨]

‌د. نقص الأمانة: سواء كان ذلك بالسرقة، أو جحد الحق، أو إفشاء السرّ، أو غير ذلك، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥]، وفي الحديث: (آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)[10].

‌ه. أما قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: ٥٢] فمن قال إنّ هذا الكلام من قول امرأة العزيز -وهو الأقرب بحسب السياق- فقد فسّر الخيانة بالكذب، ومن قال إنها من قول يوسف -عليه السلام- فقد فسَّر الخيانة بالزنى[11].

2- اتفق المفسّرون على أنّ نساء الأنبياء معصومات عن الزنا ولو كنّ كافرات؛ رعاية لحرمة الأنبياء[12].

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “مَا بَغَتْ امرَأةُ نَبِيٍّ قَط، إنّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا في الدِّيْنِ”.

وقال الشعبي رحمه الله: “ما زنت امرأة نبي قطُّ”، وكذا قال غيره من أئمة التفسير من التابعين كعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك[13].

3- فُسّرت الخيانة في الآية بالكفر والنفاق أي المخالفة في الدين، وفسّرت بمخالفة هدي النبي –عليه السلام- والكذب عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “مَا زَنَتَا، أَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ نُوحٍ فَكَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ، فَكَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الضَّيْفِ”[14].

 خامسًا: ما التفسير الصحيح لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} في آية: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود: 46]؟ وهل الذي غرق هو ابن نوح -عليه السلام- من صلبه؟

1- مما تقدّم يتبيّن أن زوجة نوح -عليه السلام- لم تقع في الزنا، وبالتالي فالذي غرق وناداه نوح {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} هو ابنه حقيقة، ومن قال بخلاف ذلك من المفسّرين فقد أخطأ خطأً بيّنًا؛ فالله جل شأنه نسب ابن نوح إليه فقال: {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ}[هود: 42]، وهذا لا يحتمل أيّ تفسير أو تأويل مخالف.

وقد روى الطبري بسنده عن الضحاك رحمه الله، وقد سأله رجل عن ابن نوح، فقال: “ألا تعجبون إلى هذا الأحمق! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح، كما قال الله: قال نوح لابنه”[15].

2- أمّا قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} فمعناه: إنّه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجّيهم؛ لأنّه كان كافرًا، وقد قال الله -تعالى- له قبل ذلك: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود: 40]، فابن نوح سبق عليه القول بسبب عدم إيمانه.

قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله: “وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنّه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجّيهم؛ لأنّه كان لدينك مخالفًا، وبي كافرًا، وكان ابنه؛ لأنّ الله -تعالى ذكره- قد أخبر نبيّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أنّه ابنه فقال: (ونادى نوح ابنه)؛ وغير جائز أن يُخبر أنّه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر، وليس في قوله: (إنّه ليس من أهلك) دلالةٌ على أنّه ليس بابنه، إذ كان قوله: (ليس من أهلك) محتملًا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملًا أنّه ليس من أهل دينك، ثم يحذف “الدين” فيقال: (إنّه ليس من أهلك)، كما قيل: (واسأل القرية التي كنا فيها)”[16].

 سادسًا: المتحدّث لم يخالف أهل السنّة في هذا التفسير فحسب، بل خالف أشهر علماء مذهبه الذين لا يقولون بما زعم أنّه تفسير للآية. بل فسّروا الخيانة بتفسيرات أخرى كالكفر والنفاق والنميمة.

فهذا المجلسي أحد أكبر علمائهم يقول في تفسير الآية: “فخانتاهما: قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وكانت امرأة لوط تدلّ على أضيافه، وكان ذلك خيانتهما لهما، وما بغت امرأة نبي قط، وإنّما كانت خيانتهما في الدين، وقال السدّي: كانت خيانتهما أنّهما كانتا كافرتين، وقيل: كانتا منافقتين، وقال الضحاك: خيانتهما النميمة، إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين”[17].

وذكر أحد شيوخ الشيعة الذي يشرف على موقع “مركز الإشعاع الإسلامي”: أنّ ما جاء في تفسير “القمّي” من تفسير الخيانة بالزنا “لا يمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه، ولا يصحّ الاحتجاج بجزئيات مضامينه؛ لأنّ الظاهر هو أنّ هذا التفسير قد اختلط بتفسير لرجل آخر اسمه أبو الجارود، لسبب ما قد يكون هو تصدّي بعضهم للجمع بين التفسيرين، وقد يكون غير ذلك، وأبو الجارود مطعون فيه ومذموم، ولا يمكن الاعتماد على روايته”.

 سابعًا: أما الزعم بأنّ الحور العين في الجنّة رجالٌ ونساءٌ فإنّه قول باطل، ومنقوض بالأمور التالية:

1- أنّ الحور العين من عالم الغيب الذي لا ندركه إلا بالوحي، ولا مجال للعقل فيه، ولذا لا يكفي لإدراكه مجرّد العلم باللغة العربية. إذ لا بدّ معها من توفّر شروط التفسير الأخرى، والتي من أهمّها الرجوع إلى القرآن السنّة لمعرفة ما فيهما من بيان مراد الله تعالى.

2- الذي ورد في القرآن والسنّة أنّ الحورَ العين نساءُ المؤمنين في الجنّة، يدلّ لذلك عدد من الأدلّة، من أهمّها:

‌أ. أنّ الله –تعالى- ذكر الحور العين في معرض بيان نعيم أهل الجنّة من الرجال، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]، وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً … وَأَزْوَاجُهُمُ الحُورُ العِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ)[18].

وقال صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنَ الحُورِ العِينِ)[19].

‌ب. أنّ الله وصف الحور العين بأوصاف لا تكون إلا للنساء:

قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25].

وقال سبحانه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].

وقال جلّ شأنه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57].

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: “والأزواج جمع زوج، وهي امرأة الرجل، يقال‏:‏ فلانة زوج فلان، وزوجته‏. وأما قوله:‏ {مُّطَهَّرَةٌ} فإنّ تأويله أنّهن طُهِّرن من كل أذى وقذى وريبة مما يكون في نساء أهل الدنيا من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمني وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره‏”[20].

وقال الماوردي في تفسيره: “وهذا قول جميع أهل التفسير”[21].

ومن هذه الصفات أنّهن قاصرات الطرف، وهنّ النساء اللاتي قد قُصِرَ طرفهنّ على أزواجهنّ، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال:

قال تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ  كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 48-49]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ  فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ  كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 56-58] .

ومنها أنّهن كواعب قد برزت نهودهنّ، قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا  حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا  وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 31-33].

3- ذكر نعيم أهل الجنّة من الرجال بالزواج من الحور العين لا يعني نقص نعيم أهل الجنّة من النساء، وبيان ذلك كما يلي:

‌أ. أنّ المرأة المؤمنة في الجنّة هي سيدة قصرها، وهي أفضل من الحور العين بلا شكّ؛ فشتّان بين من أعدّ الله الجنة بما فيها لتُنَعّم، ووعدها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وبين من خلقها الله لتكون من نعيم الرجل، وقد روي في حديثِ أم سلمة رضي الله عنها: (نِساءُ الدُّنياُ أفضلُ من الحورِ العينِ كفضلِ الظِّهارةِ على البِطانةِ)[22]. لكنّه حديث ضعيف.

‌ب. أنّ المرأة المؤمنة إن لم يكن لها زوج في الدنيا، أو كان زوجها كافرًا فإنّها لا تبقى دون زوج، فليس في الجنة أعزب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[23]، ويزوجها الله تعالى بمن يليق بها من رجال أهل الجنة.

فإن قيل: إن هذا يُنقص من نعيمها، فالجواب: أنّ الرجل من أهل الدنيا لا يبقى على ما كان عليه في الدنيا، فعن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً)[24].

فلن تكون المؤمنة في الجنة إلا راضية هانئة، منعّمة مع زوجها، لا تفكر في غيره، ولا تتطلع إلى سواه، ولا تشعر ببخس ولا ظلم ولا حزن، بل سرور وحبور، ونعيم لا ينقضي.

‌ج. لم يذكر الله -تعالى- نعيم المرأة بالزواج بخلاف الرجال، لأنّ ذلك يتوافق مع فطرتها وحيائها.

“فالمرأة من طبيعتها الحياء، ولذلك لم يذكر الله في تشويقهن للجنة ما يستحيين منه … ومثال ذلك في الدنيا: أنّ الابن إذا كان شديد البرّ بأبيه، فإنّ والده لا يرى حرجًا في أن يتحبب إليه ويعده بتزويجه من أجمل الفتيات، ويذكر له من صفاتهن ما يحب، لكنّ الأمر ذاته لا يحدث عندما يكون الخطاب موجّهًا للبنت البارّة، فهو لا يقول لها: أريد أن أزوجك رجلًا من صفته كذا وكذا؛ لأنّ البنت تتحرج بفطرتها من الإصغاء إلى هذا الكلام.

وعدم ذكره لا يدل على عدم وجوده.

ومسائل الشهوة واللذة للنساء في الجنّة: كلها موجودة وافرة تامّة، ألم يقل الله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق: 35]؟ فما تشاؤه المرأة وما تهواه موجود ومهيّأ، لكن من غير تصريح مراعاةً لحيائها”[25].

‌د. أنّ تعدد الأزواج لا يتناسب مع فطرة المرأة، لذا حرّمه الله في الدنيا، ولا يكون كذلك في الجنة.

وإذا مات زوج المرأة في الدنيا فتزوجت بعده آخر؛ فإنّها تكون لآخرهم في الجنّة، لما رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا)[26].

أفيقال بعد هذا كلّه أنّ من نعيم المرأة في الجنّة أن يكون لها حور عين رجل!!!

 هذا والله أعلم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا

والحمد لله رب العالمين

الهوامش:

[1] رواه أبو داود (3991)، والترمذي (2600) وقال هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (42) و (43)، وأحمد (17112) و (17114) و(17115)، والدارمي (95).

[2] رواه الترمذي (2641)، والطبراني في الأوسط (4886)، والصغير (724)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (532)، والآجري في الشريعة (111)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (250)، وغيرهم.

[3] رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله، (1834).

[4] رواه مسلم في مقدّمة صحيحه.

[5] رواه مسلم في مقدّمة صحيحه.

[6] نفحات من علوم القرآن، أحمد محمد معبد عبدالكريم، ص(125) وما بعدها، باختصار.

[7]مقدمة في أصول التفسير، ص (79-81).

[8] التفسير اللغوي للقرآن الكريم، د. مساعد الطيار، ص (633).

[9] المرجع السابق، ص (525).

[10] متفق عليه: البخاري(33)، ومسلم (107-59).

[11] قال ابن كثير رحمه الله: “تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإنّ النفس تتحدث وتتمنى; ولهذا رَاوَدْتُه … وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصّة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- فأفرده بتصنيف على حدة.

وقد قيل: إنّ ذلك من كلام يوسف عليه السلام … وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وابن أبي الهذيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي. والقول الأول أقوى وأظهر; لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف -عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك”. تفسير القرآن العظيم (4/338).

[12] تفسير القرطبي (18/202).

[13] ينظر: تفسير الطبري (15/343)، تفسير الماوردي (6/46)، الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي (4/322)، زاد المسير في علم التفسير (4/311)، تفسير ابن كثير (8/193).

[14] ينظر: تفسير الطبري (23/498)، تفسير القرطبي (18/202)، تفسير ابن كثير (8/193).

[15] تفسير الطبري (15/345).

[16] تفسير الطبري (15/346).

[17] بحار الأنوار (11/308).

[18] متفق عليه ، البخاري (3327)، مسلم (15-2834).

[19] رواه البخاري (3254).

[20] جامع البيان (1/419).

[21] تفسير الماوردي (1/87).

[22] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3141) والكبير (870). وهو ضعيف، ضعّفه البخاري وأحمد وابن حبان والأزدي والدرقطني وغيرهم، والظهارة هي ظاهر الثوب، والبطانة هي ما يكون مما يلي الجسد من الثوب.

[23] عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَأ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ) رواه مسلم (14-2834).

[24] رواه الترمذي (2545) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ رَوَوْا هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، مُرْسَلًا وَلَمْ يُسْنِدُوهُ، وحسنه الألباني.

[25] الشيخ محمد صالح المنجد على موقعه الرسمي، من مقال بعنوان: وصف الجنة ونعيمها (النعيم رؤية من الداخل)، رقم 4، بتصرّف واختصار.

[26] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3130) من حديث أم الدرداء رضي الله عنها، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2704)، وفي السلسلة الصحيحة (1281). “وله شاهدان موقوفان: الأول يرويه ابن عساكر عن عكرمة “أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري، فإنّ المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة”. ورجاله ثقات إلا أنّ فيه إرسالًا؛ لأنّ عكرمة لم يدرك أبا بكر إلا أن يكون تلقّاه عن أسماء.

والآخر أخرجه البيهقي في السنن أنّ حذيفة قال لزوجته: “إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي، فإنّ المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا؛ فلذلك حرّم الله على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينكحن من بعده؛ لأنّهنّ أزواجه في الآخرة”. انتهى من كتاب الجنة والنار للأشقر، ص (246).

وفي المسألة قولان آخران:

الأول: أنّها تكون مع أحسنهم خلقًا. والحديث فيه ضعيف جدًا

والثاني: أنّها تُخيَّر بينهم. وليس له دليل.

والله أعلم.

لتحميل المقال بصيغة PDF هنا

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى