مقالاتمقالات مختارة

الراسخون في العلم قوام أمة محمد

بقلم د. أسعد بن أحمد السعود

بعد وفاة الرسولِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتوسُّع رقعة الإسلام، وتخطِّي أرض العرب – دخلَتْ أقوامٌ غيرُ عربية في الإسلام، وأصبحَتْ أمة الإسلام جامعةً شاملة، والأرض كل الأرض لا وعد لتمكين عِرقٍ أو جنس معين، بل لكل مؤمن مهما كان، وفي أي أرض كان، بل الوعد كان بائنًا لكل مَن يُطبِّق إيمانه أكثر من غيره، وعلى أي أرض كانت، بعيدة أو قريبة، صغيرة أم كبيرة، هكذا كان وعد الله، ولنتأمل الآية الكريمة (55) من سورة النور، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 555].

هذا وعدٌ مِن رب الأمم، إلى الذين آمنوا به وبكتابه وبنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعدٌ يقرؤه كلُّ مسلمٍ في مشارق الأرض ومغاربها، ليلَ نهارَ، وصبح مساء، وفي القائم وفي القائل، ويقرؤه كل حافظٍ وكل مسلم، صغيرًا كان أم كبيرًا، عربيًّا كان أم عجميًّا، وفي هذا الإيمان المتجدِّد يتنافس المتنافسون، وكلٌّ يريد أن يكون هو المَعْنِيَّ بأولئك الذين خاطبهم المولى عز وجل في قرآنه المجيد: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾ [النور: 55]، يتنافسون بإيمانِهم المتجدد الراسخ في قلوبهم وفي أعمالهم؛ حتى يأخذوا براية الخلافة خلافةِ الله في الأرض التي وعدهم بها ربُّهم.

وباعتبار أن الآية الكريمة هذه قد بدأت الوعد بوضع ووصف ميدان المنافسة، فيمكن أن نقول: إن هذا الميدان هو (القوة الأولى الحاضنة)، وهذه القوة هي كما بدأت وختمت بها الآية، هي اقترانُ الإيمان قولًا بالعمل الصالح نهجًا وعملًا، وقد أوجزَتْها الآيةُ في نهايتِها في قوله تعالى: ﴿ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وهذه العبادة هي – كما أوردَتْها الآية (41) من سورة الحج – إقامةُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإن إركان الإيمان تكمل بالحج والصيام، وإن جانب العمل في هذه العبادة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اكتملت صورةُ القوة على أكمل وجه قولًا وفعلًا، فإن الله عز وجل يُسهِّل لأي قوم الاستخلاف في الأرض.

والآية الكريمة (177) من سورة البقرة تُوجِز هذا الاكتمالَ بقول الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

ولا عجب أولًا إذ رأينا آيات سورة البقرة اعتبارًا من بعد هذه الآية العظيمة (177)، إلى نهاية السورة، وهي تمر بنا رويدًا آيةً آيةً، شارحة مفصلة ومبيِّنة معانيَ كل جزء من هذه الآية (177)، وضاربة المثل تلو المثل، وتُدلِّل على كيفية الثبات على هذه (القوة الحاضنة).

ولهذا لا عجب ثانيًا أن نعرِفَ نحن المؤمنين أن سورة البقرة هي السورة المتفرِّدة في القرآن الكريم، والشاملة بعدد آياتها على ضرب الأمثلة من أغزرها علمًا بالإيمان والتفقه به بكل ثناياه وحباياه، ونقول أيضًا: إن كل مَن ذكر في هذه السورة – سواء كان نبيًّا، أم رجلًا صالحًا، فردًا أم أمة، أم ملَكًا – كان يُضرَب به المثل باختبار إيمانه، وكيف يجتاز ميدان القوة الحاضنة بطريقة إلى ما بعد ذلك.

وما قول الله عز وجل في الآية (30) من هذه السورة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… ﴾ [البقرة: 30] إلا خيرَ صدقٍ، وخير معين على ما استدلَلْنا عليه، وهو أول ضرب مثل لاختبار قوة إيمان الملائكة، والله سبحانه هو الذي بدأ بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 266].

ولا عجب كذلك ثالثًا إذا رأينا خاتمةَ السورة دعاءً يدعوه المؤمن الراسخ فيما علِم، في السراء والضراء؛ ليضيف وليثبت قوة إيمانه في التنافس بميدان القوة الحاضنة هذه.

إذًا ومن هذه النتيجة العظيمة يمكن لنا أن نقول: إن آيات سورة البقرة كلها جاءت لتكون ميدان التنافس بين المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن مَن يجتازها قولًا وعملًا فقد نال وسام القوة الحاضنة في طريقه إلى الاستخلاف، ونحن نستمر في القول والتساؤل، أما الذين اهتدوا ومضَوا في هَدْيهم هذا إلى ما بعد، فهل يستمرون في الهدى؟!

وليمكنن لهم دينهم:

إن التمكين كان لفردٍ (نبي) فيما مضى، ومن ثَم كان لأمةٍ، ومن ثَم لجماعة المؤمنين، ومن ثَم لدين هؤلاء المؤمنين، ويكفي قولًا أن تدرُّج نزول التمكين هذا يكفي أن نضربه مثلًا على الاستدلال على ما ذكرناه؛ ليثبت ويستمر في قدر معلوم، وهو الزمن المقدر ابتداءً من تكوُّن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة نهاية ذلك (بتمكين دين هذه الأمة) على الأرض بذات الزمن، وهو القدر المعلوم.

والاقتران جاء بائنًا في المعادلة وهي: أن الشدة = ليمكنن لهم دينهم.

فكيف يكون هذا التمكين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

والخطاب جاء في الآية ﴿ لَهُمْ دِينَهُمُ ﴾ [النور: 55] حرفيًّا، فمَن هؤلاء؟

والأمر الثالث الذي نتساءل عنه: لماذا جاء التوكيد (بالنون) لدينِ هؤلاء، وليس لهم كعرق أو جنس أو قوم، أو كمجموعة، أو أمة معينة ذات اسم وحسب ونسب، تتبوأ سلطانًا أو حكمًا أو أرضًا معينة ذات خصوصية؟ وللحديث عن هذه التساؤلات نقول: إنه لا يعنينا الترتيب أو الأولوية بين ذاك التساؤل أو هذا، فأهمية الموضوع وجديَّته وضخامته وحساسيته تجعل الكل على خطٍّ واحد أمام المقدِّر للتمكين، وهو الله المانح الراعي للتمكين.

ونبدأ بالتساؤل:

أولًا: مَن هؤلاء؟

وللإجابة المباشرة عن هذا التساؤل يمكننا القول: إن هؤلاء لم تَذْكُرهم آيات الله في القرآن العظيم لا بالاسم، ولا بالمكانة، ولا بالأرض، ولا بحسبهم ولا بنسبهم مطلقًا، لا من قريب ولا من بعيد، ولم تُحدِّدهم الآيات أيضًا لا أفرادًا ولا مجموعات، ولا كيانات ولا أقوامًا.

وأما الإجابة الشرعية تحديدًا – كما أشارت إليها الآيات على مدى رحاب السور القرآنية – فإنه يجب علينا تتبع الدقة؛ حتى لا تختلط المقاصد والمعاني؛ وذلك لعدة أسباب نعتبرها تنويرات وتحذيراتٍ لنا، ولمن أخذ يقرأ هذه المقالة، ولما سوف يسمع به لاحقًا إن شاء الله تعالى؛ وذلك من أجل ألا يصدر منه حكم مسبق:

1- إن هؤلاء الذين ذكرَتْهم الآية هم مؤمنون مثل بقية المؤمنين بالإطلاق.

2- إن هؤلاء هم جزء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حصرًا، كما مر معنا وعرَفنا، وليسوا كل الأمة.

3- إن هؤلاء بشرٌ عباد الله قد وُلِدوا أو سوف يُولَدون، وسيعيشون أو هم عاشوا، ثم ماتوا أو سوف يموتون، مثل بقية أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم المستمرة في الحياة على الأرض إلى قدر معلوم.

4- إن هؤلاء ربما كانوا أو سوف يكونون، أو هم بين أظهرنا أفرادًا عاديين، وربما كانوا شيوخًا، أو ربما كانوا قادةً، وربما كانوا حكماء وسلاطين، وربما مساكين، وربما فقراء، أو ربما هم أغنياء اشتهروا كرجالٍ صالحين، أم لم يشتهروا كذلك، فالآية تعني أي واحد من هؤلاء أو لا تعني، بالرغم من كون كل هؤلاء مسلمين أو مؤمنين.

ونكتفي بهذا القدر من التنويرات لعلَّها أوجزت ما نحن بصدد الحديث عنه، ونذهب إلى آيات الله تعالى لنقفَ ونتعرَّف إلى هؤلاء الذين خصَّتهم آيات الله ولم تخصَّ غيرهم.

وأول الوقفات: صفاتهم العامة:

وقد جئنا على ذكرهم في مقالة سابقة، قال تعالى عنهم في سورة آل عمران آية (17): ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].

ولو تمعنا في كلمات هذه الآية العظيمة، لوجدنا فيها صفات لعباد مجهولين بين الناس، لا ترتبط أيُّ صفة منها بأسماء أو خاصية أو خُلُق معين، وإنما نجد إطلاقةً غير مربوطة بأجر أو ثواب محدَّد بنهاية الآية، وكذلك لا ترتبط هذه الصفات بظلم أو مغفرة أو توبة، ولا ترتبط أيضًا بزمن محدَّد ينتهي بانتهاء فعل الصفة، أو حياة فرد معين، وهو إيمان مقترنٌ بفعل أو عمل مطلب غير محدد ولا مقدَّر.

وسوف نأتي على بعض الآيات التي جاءت بذكر أصحاب بعض هذه الصفات، وليس كلها، كما رأينا، وكيف يُبدِّل الله عز وجل خوفهم أمنًا كما وعدهم في الآية (55) من سورة النور، قال تعالى في البقرة آية (262): ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262].

ثم قال تعالى عن الصابرين والمُنفِقين في سورة الرعد آية (21 – 22): ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 21، 22].

وعن أصحاب الصفات الأخرى قال عنهم تعالى في الذاريات (الآيات 17 – 18 – 19): ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 17 – 19].

وعنهم جميعًا قال عنهم رب العزة في سورة النور آية (37): ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].

وبالإضافة لهذه الآيات التي ذكرت الصفات كلًّا على حدةٍ، فإن آيات أخريات جاءَتْ بذكر لهؤلاء بصفات عامة لهم، تشمل كل هذه الأعمال الخمسة، ولكن ليس بذات المفردات، وإنما بمفردات جامعة شاملة، كما أوضحت كتب التفاسير، ومثال ذلك كما جاء بالآية (13) من سورة الأحقاف قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13]، وكلمة (استقاموا) هنا جاءت التفاسير عنها بإجماعٍ على أنها جملة الأعمال الصالحة التي تشقُّ على أي مؤمن، وخاصة الصدق والصبر والاستغفار.

وكذلك كما جاء في الآية (112) من سورة طه، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

وأي أمان وأي اطمئنان في الدنيا والآخرة حينما يقدمُ هذا العبد أو الزمرة، أو هذه الفئة من الناس، على ربهم، وقد عاشوا باستقرار الجوارح في الحياة الدنيا، ويوم القيامة لا يخافون ظلمًا ولا نقصًا في ميزانهم، وهم على يقين أن ربهم ليس بظلَّام للعبيد.

وتعود آيات سورة الفرقان في أواخرها لتُؤكِّد عزم هؤلاء العباد في تمكين دينهم وإيمانهم في داخل نفوسهم، ويُشكِّلون بهذا العزم حلقاتٍ كحلقات السلاسل، كل عبد من هؤلاء كحلقة متينة قوية مغلقة، لا تنفك أبدًا، بل تقبض على الحلقة بجوارها، آخذة بعضدها، وتمسك الواحدة بأختها لا تنفك عنها ما دامت هي متمكِّنة من الثبات، تمسك الواحدة مع الأخرى لتشكل سلسلة قوية ثابتة بمتانتها وقوتها، وهكذا هم أولئك، وبهذا المثل الأعلى ضرَبَ الله بهم، فقال عنهم: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ [الفرقان: 63 – 688].

﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 72 – 74].

وهكذا نخلص إلى أن هؤلاء قد عزفوا عن جوانبَ كثيرةٍ مِن جوانب الحياة الدنيا ومتاعها، بدليل أن الشارع هنا قد أبرَز الوازع المتمكن بالدين مِن كل أركانه، ولم يبرز ولم يُشِرْ لا من قريب ولا من بعيد إلى حب الدنيا وسلطانها، وبذات الوقت نُؤكِّد على القول: إن التمكين الذي ذكرَتْه الآية (55) دون هؤلاء ﴿ الَّذِينَ ﴾ بدأت بهم كل آية، وكأن هذه الآية الكريمة المباركة قد أعدت الدليل القاطع على تمكين الدين في نفوس هذه الزُّمَر، هو عينه كان ترجمةً لقول الرحمن في آيات أخرى: ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وبما أن هذه الزُّمَر – كما أوضحنا – ليسوا أو لم يكونوا بعصر بعينه، وإنما بأي عهد أو قرن، وهم بمنطق وبدليل الآيات مستمرُّون وغير منقطعين؛ فإن هذا ينسحب على كلمة ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 99]، وإلى أن ينتهي الزمان أو الحياة الدنيا بقيام الساعة، هذا والله أعلم.

ثانيًا: سلطانهم:

وخير ما نبدأُ حديثَنا هنا عن سلطانِ هؤلاء الذين مكَّن الله لهم دينهم في الحياة الدنيا: ما قال عنهم تعالى في البقرة آية (207): ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، وقد شرحت آياتُ الله في كتابه العزيز وبيَّنت أن هناك ثلاثَ زُمَر من هؤلاء الذين يشْرُون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله:

الزمرة الأولى: وهم الذين يُنفِقون أموالَهم بدون حساب، ولا يبذرون ولا يقتُرون، وقد أدرجتهم آيات الإيمان تحت مسمى (تُنفق أيمانُهم ولا تعلم شمائلُهم، وتعطي شمائلهم ولا تعلم أيمانهم، وهم أصحاب الفضل والسبق، وقد تغدو أموالهم وتروح ولا يعرف أصحابها أبدًا).

ولقد ذكرنا هذه الزمرة من الناس كما ذكرناها سابقًا، ومن أجل ألا يظن أننا نكرر المثال، فإننا نشير إلى دقة الاصطفاء، وذلك أن المولى عز وجل ذكر بسورة آل عمران الآية (14): ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ… ﴾ إلى آخر الآية [آل عمران: 14]؛ وذلك لتعظيم خلق الله في هذا العبد الإنسان، وما مدى دقة الجوارح والشهوات وكثرتها وتشعُّبها في الرغبات، وحب متاع الحياة الدنيا، ثم أكمل تعالى في الآية (15) التي تليها: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ… ﴾ [آل عمران: 155]، والمعنى المشترك والهدف الجامع هو ما أردنا الإشارة إليه، وهو أن كل هذه الشهوات وحبها لها مصادر وأبواب تأتي وتكثر من خلالها:

أولها: ونعني به السلطان الدنيوي، وحكم الناس والقرى والبلاد.

وثانيهما: الضرب في الأرض؛ أي: السعي والتجارة، فيتولد عن هذا الأخير السلطان الثاني، وربما يجتمع لكثيرٍ من الناس السلطانان الدنيويان: سلطان الحكم وسلطان المال، وكلاهما يُصبِحان فتنةً، وقد يتوافر أحد السلطانينِ أو كلاهما عند المؤمن، والله عز وجل لا يُنهِي ضرب المثل حتى يضع الموازين القسط، ويقول في الآية ذاتها (15): ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ [آل عمران: 15]، وهو بهذا يضعُ السلطانين في كِفَّة مِن الميزان، وتقوى الله بالكفة الثانية؛ أي سلطان حب الشهوات وسلطان تقوى الله، فأيهما يثبت في الحياة الدنيا أولًا حتى يعرف وينبأ بالثاني يوم الحساب.

الزمرة الثانية: وهذه الزمرةُ التي عمَّم الله وصفَها، وأطلق مقاييس إيمانها وأعمالها، وجعلهم كالجنود المجهولين الذين لا يعلمهم إلا القلة القليلة، وهم الكثر المنتشرون على وجه الأرض وبكل البقاع، قال تعالى في سورة النساء آية (125): ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، وقال أيضًا في البقرة آية (112): ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 1122]، والاصطفاء المختصَر لهذه الزمرة هو الإتقان قولًا وعملًا في التوجُّه إلى الله وعبادته، ولا يرتبط هذا الإحسان في زمان أو مكان أبدًا، بل إن الذي يُسلِم وجهه لله لعبوديته لا يجدُ مِن أدائه موقع أو عمل هذا العابد مهما كان، حاكمًا أو محكومًا، صغيرًا أم كبيرًا، ليلًا أو نهارًا، صبحًا أو مساءً، فقيرًا أم غنيًّا، فالإحسان بالعبادة هو الإتيان بها على أكمل وجهها، وقد حذر الله تعالى بعدة آيات، ووضح بعضَ جوانب عدم الاكتمال أو التنقيص من هذا الإحسان، ففي الأنعام آية (82) قال عز وجل: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وكذلك: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 20 – 222].

وتكثر الآيات هنا وهناك في القرآن العظيم التي تضرب المثل بهذه الزُّمرة، ولقد كان المثل الأعلى لها تلك التي صاحبت واهتدت بشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذكر أعمالها وأفعالها في بَدْء زمان الهجرة وما بعده، بعدما توضح ثبوت إيمانهم المطلق إلى أن غاب الرسول صلى الله عليه وسلم عنها بوفاته، وتوقف الوحي بعدها، ولم يَعُد بالإمكان ذكر جرائرها علانيةً، وقد تغيَّرت أحوال الأمة وحكمها، فأصبح الاتِّباع لا يشهد عليه إلا بالقلة المعدودة، أو يكاد، وعلى هذا أصبحت الشهادة تُبنَى على ديمومة ظهور الإسلام بشكل عام، وتأرجح قوته بين الناس والأمم، بين النصرة والهزيمة، ورباط زمر متفرقة منها.

الزمرة الثالثة: وهذه الزمرةُ من المؤمنين من الناس لا تجد ما تشتري به لقاء مرضاة الله سوى نفسها بنفسها، وهذه هي الزمرة المقاتلة المجاهدة بالنفس والبدن، وقد ذكرتها آيات الله بعدة مواطن من القرآن العظيم، ضابطة موازينها ومسبباتها وشرعيتها؛ حيث يجدر الذكر هنا – وللأهمية البالغة – أن هذه التجارة هي الوحيدة التي يأتي أذانها من الله عز وجل مباشرة إلى صدور أهل هذه الزمرة النادرة، في أي زمان أو مكان، ووجود هذه الزمرة من الندرة بمكان؛ حيث تظهر مع ظهور شرعيتها، ولا أحد من الناس، حاكمًا كان أو محكومًا، يستطيع أن يصنعها أو يوفرها وقت ما شاء لا عدة ولا عددًا.

ونشير للأهمية العظمى أيضًا هنا أن هذه الزمرة إن ظهرت، فإنه لا يَعرِف عددَها ولا قوَّتَها – وبالتالي نتائج قتالها وجهادها – أحدٌ من العالمين إلا الله عز وجل وحدَه، وهو المتفرد المتصرف بها، وهذا القول الذي نذكره هو ما جاء نصًّا في قول الله عز وجل في آيات القرآن العظيم، ونبدأ الذكر بقول الله في سورة النساء آية (74): ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 744].

وكان أول أولئك الذين يَشْرُون الحياة الدنيا بالآخرة هم أول المُنفِقين، وهم أول المتعبِّدين، وهم أول المقاتِلين، وهم المكلَّفون من الله مباشرة، وهم الأنبياء المكلفون تكليفًا إلهيًّا لمقاتلة المشركين بالله، قال تعالى في النساء آية (84): ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ… ﴾ الآية [النساء: 84]، وأما مَن تبِعهم من المؤمنين، فهم دائمًا القلة من الناس، والزمرة المقاتلة تكون قلة من القلة، ويتم ظهورها وتكوينها بتحريضِ عامة المؤمنين، ومن ثَم يقع التحريض في الصدور، فينقسم المؤمنون إلى زُمَر؛ كما جاء في آيات الله في سورة النساء آية (72): ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 72، 733].

وأول إشارات التكليف في صدر المؤمن هو التفقُّه في عظة الموت؛ حيث إن الله سبحانه قد كتب قتل النفس بأمر مباشرٍ منه، إلى بعض الأقوام السابقة، وذلك كان كجزء من اختبار قوة الإيمان في الصدور، وطاعة الأنبياء، وقد أخبرَتْنا آيات الله في القرآن العظيم أن بعضًا مِن هؤلاء قد قَتَل نفسَه وأدى هذه العبادة بدون إبطاءٍ أو تردُّد، وبعضًا منهم تردَّد وتبطأ ورفض ولم يقتُل نفسه، وبالتالي رفض هذه العبادة، وإنه لَمَّا توالى نزول الشرائع السماوية، وكان محور الموت مهمًّا في كل شريعة، فإن عظة الموت اكتملت في شريعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث حرم قتل النفس نصٌّ قطعيٌّ إلا بشروطه وضوابطه، كما نزلت وكما جاء في تشريع الإيمان أن الموت حق لا محالة، فإن وقته وزمانه مكتوبٌ بعلم الغيب، وإن المؤمن لا يعرف ولا يصل إلى ذهنه هذا الزمان وهذا التوقيت، ولا مكان ولا كيف ولا سبب موته، فإن درجة الإيمان وقوته ترتقي بقوة التسليم بالغيب، وإن رهبة الموتِ والخشية منه تقلُّ وتقلُّ، وتتضاءل مع قوة ارتقاء الإيمان به، ومِن هنا ومن هذا الميزان الدقيق، يصل المؤمن إلى أمر التكليف نفسه بنفسه بالقتال، والقتال كما قلنا مقدَّر بالغيب مسبقًا، إما أن يَقْتُلَ – بفتح الياء وضم التاء – أو يُقتَل، بضم الياء وفتح التاء.

وتعود سورة النساء في تشريعها لعظة الموت، قال تعالى فيها: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77]، وأكمل اللهُ عز وجل تشريعَه في الآية التي تليها (78): ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 788].

وفقه الحديث هذا يجبُ أن يختم بأنه التجارةُ مع الله بيعًا وشراءً، والمادة أو البضاعة هي النفس التي لا يملكها إلا خالقها وبارئها، فأي شكل من أشكال البيع أو الشراء يجب أن يؤخذ الإذن مِن صاحبها الأوحد، ولا أحد له الحق من قريب أو بعيد في التصرف بها مهما كان الثمن، والثمن في الحياة الدنيا كما رأينا هو كلُّ أنواع المتاع، وهي لا تقاس ولا تثمن بما عند صاحب النفس وبارئها، فهي عظيمة عِظم ثمنها، وثمينة بثمن سكنها في الآخرة، ومن هنا فإن عقد أي بيع أو عقد أي شراء، يجب أن يكون اسم الله على رأسه.

والله سبحانه وتعالى يضرب المثل الأعلى بأنه إذا كان هو بذاته العليا المشتري، فيا لَحظِّ البائع الفائز بالثمن، قال تعالى في سورة التوبة آية (111): ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].

ثالثًا: ديمومتهم:

والحديثُ عن ديمومة هذه الزُّمَر الثلاث بين أظهر أممهم – حديث يشيب له الرأس؛ وذلك لأن الحديث عن كل واحدة منفردة منها، كان مِن اليسر بمكان كما رأينا، ولكن عندما ننظُر إلى أحوال الناس المتقلِّبة المتداولة، منذ أن بدأ النزول على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن توفَّاه الله، ومنذ ذلك الحين وإلى هذه الساعة، ومن هذه الساعة إلى يوم الحساب، والمؤمنون ودينهم وحكم شريعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بين مدٍّ وجزر، والزمر الثلاث كانت في كل تلك الأحوال (القلب النابض الحي) الذي لا يفتأ يحمل العروة الوثقى ويستمسك بها، ففي عهد النبوة كانت هذه الزُّمَر الثلاث لا يمكن التفريق والفصل بينها؛ إذ كانت تُشكِّل طائفةً واحدة تستذكر النزول وتعمل به، وتوصل الليل بالنهار بالعبادة، وتكون على رأس الجيوش المقاتلة في حربِها ضد الشرك والمشركين، وتَقتُل وتُقتَل، وظلت متماسكةً بطائفةٍ واحدة، إلى أن ترامَتِ الأرضُ تحت أقدامِهم، ولزم لحياة الناس ما لزم من تفقُّه بالدينِ وعلومه، وما لزم مِن علماء وحكماء، وتجارة وتجَّار، وجيوش مقاتلة محترفة قوية متماسكة متفقهة بالدين، عالمة بما لها وما عليها، ودخلت أمم وبشرٌ بأجناس مختلفةِ المشارب باللغة، وبحروفِ الحياة والألوان في دين الإسلام، ومع انتشار الأمن والأمان، وتوطُّدِ أركان الحكم بشريعة الله، عادت وتفرق أفراد زمر هذه الطائفة، وانتشروا بين أممها وناسها، يعمل كل واحدٍ ويجتهد بطاقة الله، وتحت إمرةِ أوليائه، كلٌّ كما عرَفنا عنها بما جادت وتجودُ، حتى إذا اضطربت أحوال الناس ودولهم، سواء بغياب الأمن أو الأمان، أو سواء بغزو أعداء الله لها، أو سواء بانتشار الجدب والفقر، أو سواء بانتشار الفساد وابتعاد الناس عن دينهم بمعاملاتهم وبتجاراتهم، انبرى جنود هذه الزمر كلٌّ بما لديه وبما أفاض الله عليه، يسد الحاجة هنا وهناك بصبر وعزم، لا تستطيعه الجبال الشامخات، وقد سجَّل التاريخ لأمةِ محمدٍ في حاضرنا وماضينا كلَّ هذه الأعمال لجنود هذه الطائفة المرابطة، وستظلُّ هذه الأعمال قائمةً مستنفرة ما دامت السماوات والأرض، ولا يَسَعُ الحديث عن كثرة الشيب في الرأس؛ إذ سبقتنا سورةُ هود بكل هذه الإرهاصات والتنبُّؤات والأحداث، وأوجزت كل تلك الأحداث ببضعِ آيات كانت نبراسًا في كل زمان ومكان لهذه الطائفة، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 111 – 1177].

هذه آيات مدرسة هذه الطائفة بزُمَرها الثلاث، في كل زمان ومكان، وهذه آيات الشيب التي تذهب بسَواد الشَّعر، إن أراد المؤمن لقاءَ ربِّه وهو راضٍ عنه، وذلك هو الرباط، وهذا هو وعد الله بتمكين دين هذه الطائفة من أمة محمد المؤمنة ما دامت السماوات والأرض.

هذا، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى