الدين وانتشار الظلم في العالم
بقلم شفاء منديلي
سهُل على البعض اللعب بعقول أكثر الناس والعبث بفطرتهم للوصول إلى أهدافهم ومصالحهم مستغلين الدين والإله منذ الأزل، ولايزال الأمر جاريا حتى عصرنا الحالي بنشر ثقافة الخوف والعقاب، باعتبار التفكير خارج الصندوق الموضوع خيانة وترويجا للفتنة وذنبا يجب التكفير عنه بالحد أو بالقوانين المفترضة، ناسين أن عبثهم لن يجدي نفعا مع الأحرار والشرفاء، وأنهم لن يُأثِّروا إلا على سفلة قومهم ممن لا يهتمون بمصيرهم ومآلهم كما وصفهم الله في كتابه حين استغل فرعون القداسة للتأثير على قومه “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”، فربط طاعتهم له بالجهل وسوء الخلق!
بعد أن خلق الله البشر وجعلهم خليفة في الأرض لعمارتها، هداهم عن طريق الرسل إلى اتباع العلم والحجة لبلوغ اليقين، فجعل لهم قلوبا يعقلون بها، وعلمهم أن لا حق لأحد عليهم بالطاعة والخضوع، وحثهم على البحث والتفكر والتدبر، على عكس بعض ممن يحكمون باسمه، حيث يتجنبون النهوض بالتعليم والإعلام خوفا من انتشار الوعي الذي سيهدد حكمهم معتبرين السؤال والنقاش أو حتى التفكير جريمة، ما يفسر حال العلم والتعبير عندنا، والله الذي أعز مكانة العلماء وقبِل أسئلة ملاكته وأنبياءه وشكوكهم، فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وقال موسى أرني أنظر إليك، وقال إبراهيم أرني كيف تحيي الموتى ليطمئن قلبي، فلأننا فُطرنا على الشك والتساؤل.
أمرنا الله باجتناب كل ما لا يناسب العقل والفطرة، وباجتناب الطغاة المستضعِفين وعدم الإنصياع لهم فقال “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ”، ولنا أن نتأمل الحاضر والتاريخ لنعلم أحوال من ركنوا إلى الظالمين.
إن الهداية تتحقق حين يصبح كل فرد مسؤولا عن اتخاد قراراته وتحديد مصيره بما يعود بالنفع عليه وعلى محيطه، بجداله بالحكمة والموعظة الحسنة، والإيمان بأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأن الاجتهاد واجب على الجميع، وأن ليس من حق أي أحد السيطرة والتسلط على غيره حتى الرسول بقوله “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”، لأن الهدف هو تأسيس فكر ومنهج حياة قائم على الحجة والإقناع، فلا حاكم ولا والٍ يملك حق قتل أو اعتقال أو عقاب من يختلف معه بالقول أو الفعل، وإلا علا في الأرض وأفسد فيها، فتطبيق الدين أو السعي إلى ضمان الأمن يُلزِمه مواجهة تهديده بسلاحه كما أمِر.
يدعو الله إلى عدم الغلو بقوله “فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ”، فالفكر يواجه بالفكر والحجة بالحجة والدليل بالدليل وليس القانون والبطش، وإن تمادى أي حاكم أو ذو سلطة فهو ظالم مفسد في الأرض لا يجوز لأحد اتباعه كون الرضى بأحكامه و طاعته جريمة وبداية للقهر والاضطهاد، فالله وحده من يملك حق الحساب يوم القيامة ولا أحد غيره، وأمر الناس شورى بينهم وقراراتهم تهمهم وهم المسؤولون عنها، وباختيارهم يحددون الأجير الذي يتولى شؤونهم ويحاسبونه، فالدين يحفظ لكل امرئ حق العيش والتفكير ولو كفر بالله وبالمقدسات!
القمع بإسم المعتقد والإصلاح جريمة في حق الشعوب وتعطيل للتطور والإصلاح نفسه، فيسبب حالة من اليأس أو الخضوع والرضا بالجور، فالتطور يكمن في عدم تقييد الفكر، والإيمان بالله وباليوم الآخر يستدعي الثبات وقت الفتن وعدم بيع القضايا الحساسة أو التعامل معها بحيادية، فهذا ما يميز المؤمن الصادق الذي يؤْثِر العدالة على مصالحه من المؤمن الكاذب المتقلب كما ميز بينهم القرآن فقال “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”، فبعض من الذين آمنوا برسالات الأنبياء أو من الذين ادعَوا الإيمان اختاروا الحياد أو الوقوف في صف الظلم وفضلوا أمنهم على قول الحقيقة بينما كان هذا ابتلاء من الله لاختبار صدقهم و أمانتهم.
وكما عبر دانتي أليغييري، الذي تعتبر أعماله من الأعمال الرئيسية لعملية الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الفكرية في أوروبا، فإن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين حافظوا على حيادهم أوقات الأزمات الأخلاقية، كونه يمهد الطريق للباطل ويضع صاحبه موضع المتفرج، بل إن بعضهم ادعَا حرصه على المصلحة العامة وأنه كان يحاول الإبتعاد عن الفتنة فقال الله عن فئته “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ”، وهل هناك فتنة أكبر من السماح باستضعاف الشعوب والاستخفاف بها وأكل حقوقها؟
السعي إلى تحقيق العدل بين الناس والدفاع عن أي مخلوق مظلوم مهمة ومسؤولية كل إنسان واع وحر، فالله أتى بدينه لضمان حياة كريمة للناس كافة ويجب الدفاع عنه مهما كانت النتائج، فليس من الطبيعي أن يسمح شخص أيا كان وضعه بظلم أو قهر لحماية وضعه أو أملاكه، بل إنها أنانية ولا تتناسب مع القيم البشرية، ولا يعتبر حرا من يرى إنسانا يهان ولا يشعر بالإهانة كما عبر عن ذلك نلسون مانديلا.
قال الله في كتابه للذين فضلوا الميل إلى كفة مصالحهم وتركوا الحق والدفاع عنه “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”، فالعدالة ستظهر حتما بوعد من الله، لكن من اختُبروا وفضلوا أن يكونوا من الذين خُلِّفوا هم الخاسرون، فهم يعبرون عن إيمانهم بالله وقت الرخاء وينقلبون في الأزمات فخسروا دنياهم وآخرتهم بسوء صنيعهم، وذلك هو الخسران المبين.
ليس من المعقول أن يُقبل ببطش سلطان جائر أو أن يُنصاع لأحكامه وإن ادعى الحكمة والإصلاح، فإن هابته أمة فقد تودع منها كما قال ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالشعوب هي من تقرر مصيرها وهي من تدافع عن فكرها ومصالحها، وأمانته تكمن في الاستماع لشعبه، وأن يطيعوه ما أطاع الله فيهم، فإن رأوا منه ظلما أو جورا فلا طاعة له عليهم وإن كان أعظم خليفة، فالظلم مؤذن بخراب العمران كما أكد ابن خلدون.
الرضى بالظلم والقهر بسبب الخوف هو من علامات ضياع الأخلاق وضعف الإيمان واليقين، فنجد أمما أخرى رغم تركها للدين بعد أن شُوه مفهومه، وبعد أن استُغلت هيبته لتخدير الشعوب، ثبتت على مبادئ مكنتها من ضمان حرية شعوبها بعد أن تخلصت من السلط الجائرة والاستبداد، فهدف كل الملل والديانات هو إقامة العدل وحماية البشرية وفطرتها، فصاروا أمما تضرب بهم الأمثال بتحضرهم بعد أن كنا خير أمة أخرجت للناس، فكما خاطبنا الله في كتابه “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم”.
(المصدر: مدونات الجزيرة)