بقلم نور الدين الرفاعي
سؤال قديم أسال حبراً ودماءً عبر القرون، حتى بدا للبعض أنهما خصمان لا يلتقيان، وكأنهما نقيضان لا بقاء لأحدهما إلا بإلغاء الآخر، مع أن العلم له مجال والدين له مجال آخر، وكلاهما لا يتعارضان! فمجال العلم هو عالم المادة، وهدفه يتمحور حول تقديم تفسير مادي لمظاهر الكون، واكتشاف قوانينه وصوغها بمعادلات رياضية، وهو ما أنتج للبشرية اختراعات شتى وذلل لها طاقات الأرض.
إلا أن العلم مع كل إنجازاته المادية لا يقدم لنا أجوبة لأسئلة تقع خارج مجال المادة، كتلك الأسئلة المتعلقة بمصير الإنسان والغاية من وجوده. لا يقدم العلم أيضاً وصفة لعلاقة الفرد بالمجتمع ولا تفسيراً مقنعاً لمشاعر إنسانية كالحب والتضحية، وبكلمة أخرى لا يقدم لنا العلم فلسفة أخلاقية. هناك الكثير من الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، ببساطة لأنها لا تقع في مجال عمله، وتقع خارج حدود قدرته، وهذا لا يقلل من قيمة العلم. وفي المقابل لا يعطينا الدين معادلات رياضية تفسر مظاهر الكون المادي، ولا أبحاث تتناول جزئيات المعرفة المادية وحقائقها الدقيقة، فهذه الأبحاث لا تقع في مجال اختصاص الدين، الذي يتناول حقائق الوجود الكلية لا تفاصيله الجزئية التي يتغير فهمنا لها بتطور أدواتنا المعرفية.
إنما يقدم الدين أجوبة لأسئلة جوهرية متعلقة بمصير الإنسان والغاية من وجوده، وهي تساؤلات ما فتئ الإنسان يطرحها مذ سكن الكهوف إلى يومنا هذا، ولطالما شعر بالقلق حيالها. يتناول الدين في طرحه الجوانب الروحية والأخلاقية والاجتماعية للإنسان، وفي بعض الأحيان قد يضع إطاراً أو مبادئ عامة لنظام اقتصادي أو سياسي كما هو الحال في الإسلام. ومن نافل القول أن العلم المادي لا يستطيع تقديم برنامج واضح لهذه القضايا، لأنها وببساطة ليست من مجال اختصاصه، بل هي داخلة في نطاق الدين والفلسفة.
لن يوصيني العلم ببر الوالدين أو مساعدة الفقير أو رفع الظلم عن المستضعفين، فهذا لا يدخل في نطاق اهتماماته. لكن سيقول لنا العلم أن انشطار ذرة من اليورانيوم ينتج طاقة هائلة يحسبها بمعادلة دقيقة |
لن يخبرنا العلم عن الهدف من الحياة وعن الغاية من وجودنا. سيشرح لنا العلم ألية عمل الجسد وسيمكننا من علاج الكثير من آفاته، وسيقول لنا بأن الجسد بعد الموت سيتحلل إلى عناصر أولية تسيح في أرجاء التربة، لكنه لن يخبرنا إن كان ذلك نهاية مطاف النفس، وإن كانت شعلة الوعي ستنطفئ ببلاء الجسد، أم أن لنا حضوراً آخر وحياة أخرى، لن يجيب العلم عن هذه الأسئلة بالإثبات أو النفي فذلك يقع خارج مجال اختصاصه. والعلم مهما تقدم لن يستطيع أن يقيم نصاً أدبيا، ولا قصيدة شعرية، ولن يعطي رأياً بسيمفونية موسيقية، كما لن يحكم على جمال لوحة فنية!
لن يوصيني العلم ببر الوالدين أو مساعدة الفقير أو رفع الظلم عن المستضعفين، فهذا لا يدخل في نطاق اهتماماته. سيقول لنا العلم أن انشطار ذرة من اليورانيوم ينتج طاقة هائلة يحسبها بمعادلة دقيقة، لكنه سيكون محايداً إذا استخدمنا هذه المعادلة في إنتاج طاقة نووية تعمر الأرض، أو في إنتاج قنبلة نووية تدمر الأرض، وظيفة العلم إذن تنتهي عند حدود النظريات والمعادلات وليس من شأنه أن يطلق حكما قيمياً أو أخلاقياً، فهذا يدخل في مجال الدين والفلسفة اللذان يتناولان إرادة الإنسان الحرة.
أما الفلسفة التي تتقاطع مع الدين في مجال واحد واهتمامات مشتركة، فإنها تتميز بكونها تخاطب العقل والمنطق، إلا أنها لا تؤثر في العاطفة ولا تحرك الوجدان، مع أن الإنسان عاطفة وعقل، وحركة التاريخ تنبئنا بذلك. لذلك فالفلسفات لم تنتشر كما انتشرت الأديان، لأنها لا تشبع الجانب العاطفي والروحي في الإنسان، ولذلك كان أتباع الأنبياء أكثر من أتباع الفلاسفة على مر العصور.
بل إن شطراً كبيراً من الفلاسفة حافظ على إيمانه رغم تفلسفه، فسقراط وأفلاطون وإيمانويل كانت ولايبنتز وحتى ديكارت كانوا مؤمنين، ناهيك عن فلاسفة الإسلام كابن رشد وابن سينا والكندي وابن طفيل. وكذلك الحال مع العلماء الذين آمن شطر كبير منهم بوجود الله كباستور ونيوتن وهايزنبرغ وأينشتين. وحتى في أوروبا التي انكمش فيها موقع الدين، نجد الإنسان في حالة خواء روحي، لا ترويه الفلسفة، لذلك نجده يستجدي ما يشبع حاجاته الروحية في الأدب والفنون.
في الغرب حصل صراع عنيف بين العلم المادي والدين، لأن رجال الدين المسيحيين اختاروا الوقوف في وجه العلم وقمعه، لتضاربه مع تفسيرهم الحرفي لنصوص مقدسة، فنصبت الكنيسة محاكم التفتيش وأحرقت العلماء وكتبهم، ولم يتمكن العلماء من كسب المعركة إلا بعد تحررهم من سلطة الكنيسة ونبذ كهنوتها وراء ظهورهم. في الحضارة الإسلامية، كان الأمر مختلفاً تماما، لأنه ما من تضارب بين روح القرآن وروح العلم، إذ يتميز القرآن الكريم عن باقي الكتب الدينية بروح علمية لا تخفى على قارئه، فهنالك 1300 آية قرآنية تتحدث عن مظاهر الكون المادي، بل إن في بعض الآيات إشارات لأسرار كونية عجيبة اكتشفها العلم مؤخرا بعد جهود حثيثة.
لقد أعلى القرآن من منزلة العقل الذي لا تخفى أهميته في بناء صرح العلم، وخاطب الناس في أكثر من موضع بصيغة “أَفَلَا يَعْقِلُونَ“، “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ“، “أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ“. بل إن القرآن وضع أسس منهج علمي عندما حث قارئيه على المشاهدة والملاحظة، ودعانا في أكثر من موضع إلى التأمل واكتشاف سنن الكون (قوانينه) والعمل بها كيلا يكون مصيرنا كمصير الأمم السالفة.
وجعل القرآن للعلماء مرتبة تميزهم عن غيرهم، قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ“. وحث نبي الإسلام على طلب العلم فقال فيما روي عنه: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” وقال في حديث آخر:” من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة”. كما حثنا على أخذ العلم عن الأمم الأخرى فقال: “الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها”. ورفع نبي الإسلام منزلة العالم فقال: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”. وقال فيما روي عنه: “العلماء ورثة الأنبياء” فاختتم بنبوته عصر الوحي ليدشن عصر العلم الذي ورث آثار النبوة.
أبدع العلماء المسلمون علوماً جديدة كعلم الصيدلة وعلم الجبر، الذي استنبط الخوارزمي قواعده من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الميراث وكيفية توزيعه
لقد فجر الإسلام الطاقات العلمية بنظرته المتحررة من أشكال الخرافة، ومن الأفكار التقليدية وبدعوته الصريحة إلى البحث والمشاهدة والتأمل واستكناه سنن الكون (قوانينه). لذلك لم يكن غريباً في الحضارة الإسلامية أن تجد أعلاماً اشتهروا بتفقههم في الدين وتبحرهم في علوم أخرى كالكيمياء أو الرياضيات أو الفلك، والأمثلة على ذلك كثيرة. فالإمام جعفر الصادق وهو من أوائل الفقهاء الكبار في تاريخ الإسلام، كان عالماً ضليعاً في الكيمياء وألف كتاباً جمع فيه خبرة ذلك العصر، ونقل أسرار هذا العلم لتلميذه المبدع جابر بن حيان الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لعلم الكيمياء الحديثة باعتراف علماء الغرب.
والفيلسوف الأندلسي الكبير ابن رشد، الذي أيقظت أفكاره أوروبا من سباتها العميق ومثلت فلسفته تحدياً كبيراً لخرافات الكنيسة، كان فقيهاً وقاضياً بارزاً، ألف كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” وشرح فيه الفقه المالكي وأحكامه بصورة سهلة. وإضافة إلى ذلك اشتهر هذا الفقيه الفيلسوف بخبرته في مجال علم الفلك، فقد نقد نظريات العلماء الذين سبقوه، واكتشف نجماً جديداً، ووضع تفسيرات مبتكرة وملاحظات فلكية قيمة، وكان فوق ذلك طبيباً بارعاً صنف رسائل طبية جمع فيها خبرته في هذا المجال.
لقد شيدت أوروبا صرحها العلمي على إرث الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية. فكوبرنيكوس-على سبيل المثال- بنى نظريته الفلكية التي أحدثت ثورة علمية في أوروبا على الجداول والحسابات الفلكية التي وضعها علماء الفلك المسلمون قبله بعدة قرون كالبتاني والزرقالي وابن الشاطر. واستفاد نيوتن فائدة عظيمة من مؤلفات ابن الهيثم عالم الفيزياء المسلم، خصوصاً في مجال الضوء والبصريات. وكان كتاب “القانون في الطب” لابن سينا المرجع الطبي المعتمد في جامعات أوروبا لقرون طويلة، ونفذ الزهراوي عمليات جراحية معقدة قبل جراحي أوروبا بقرون طويلة. وأبدع العلماء المسلمون علوماً جديدة كعلم الصيدلة وعلم الجبر، الذي استنبط الخوارزمي قواعده من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الميراث وكيفية توزيعه، وأحدث هذا العلم طفرة عظيمة في علوم الفيزياء أوصلتنا إلى عصر الكمبيوتر والثورة الرقمية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)