الدين.. والعلاقات الدولية
لا يجوز لأي باحث أن يتجاهل الدين والأيديولوجيا في علمي التاريخ والعلاقات الدولية؛ لأن النظام العالمي المعاصر الذي انبثق من بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، قام على أنقاض الصراعات العرقية والدينية القديمة، ومن يقرأ للآباء المؤسسين للاستشراق ودراسات الشرق الأوسط من المستشرقين الكبار والمشاهير أمثال ماسينيون وكراتشكوفسكي وبارتولد وهاملتون جب وجولدتسيهر وحتى خبراء الأمن القومي الأمريكي والبريطاني ممن جمعوا بين الاستشراق والعلاقات الدولية أمثال برنارد لويس وبريجنسكي وحتى فوكوياما وغيرهم سيجد أن الدين والمعرفة الدينية هي أحد أهم البواعث التي تصنع الإستراتيجيات السياسية والاقتصادية، فضلا عن مفاهيم الأحلاف والعلاقات الدولية.
وإذا كان المستشرقون الأولون، والخبراء الأقدمون في شئون الشرق الأوسط قد توغلوا في معرفة العلوم الإسلامية حتى الاهتمام بقصائد الشعر الجاهلي، والنحو العربي، وعلوم التراث كلها، وأخذ المخطوطات ودراساتها وإنشاء أقسام الاستشراق والعلوم العربية والإسلامية في كل أوروبا وروسيا وأمريكا، فإن أساطين العلاقات الدولية المعاصرين لم يتركوا دراسة الإسلام، وأصبح لديهم هاجس بتطور «الجماعات الإسلامية» وتوجهاتها وأهدافها لا سيما بعد سقوط الدولة العثمانية، ونرى ذلك في كتاب «وجهة الإسلام» لماسينون وجب وشارك في تأليفه أحد ضباط الجيش الإنجليزي وقتها الكولونيل فرار، وهو صادر سنة 1933م، وهي الوظيفة نفسها التي نراها عند وحدات ومراكز وباحثي الجماعات الإسلامية في الغرب اليوم، وعلى رأسهم الفرنسي أوليفه روا والأسبانية آنا بلين سواج وهي في الأصل أستاذة علوم سياسية ومئات غيرهم يضيق المقام عن حصرهم، هذا غير العاملين في المخابرات الغربية.
والغرض من هذا الكلام، أن الدين في العلاقات الدولية راسخ وعامل أساسي من عوامل التحليل الموضوعي بل وأكثر من ذلك عامل من عوامل التخطيط الإستراتيجي لكل هذه الدول الغربية والأمريكية وروسيا، فحين يقولون يجب مواجهة «الإرهاب الإسلامي» أو «الإسلام المتشدد» وحينما يتساهلون مع «الجماعات الصوفية»، وحين يحاربون فصيلا ويقرّبون آخر، فهذا مثال صارخ على تطبيق ما يؤمنون به «دينيا» و«أيديولجيا»، وما يدرسونه منذ قرون في علوم الاستشراق والسياسة والعلاقات الدولية فيما بعد.
ولا شك أن الدين والأيديولوجيا في العلاقات الدولية أصبحت تأخذ حيزًا كبيرًا جدًا منذ السبعينيات من القرن الماضي مع الحرب الروسية الأفغانية، ومع صعود نظام ولاية الفقيه في إيران، ومع «الصحوة الإسلامية» السنية في العالم العربية، إخوانًا كانوا أم جماعات سلفية، ومع وجود إسرائيل، ومع حرب البلقان والقوقاز، وصراعات أفريقيا وآسيا، ثم ما حدث منذ 2001 وحتى يومنا هذا.
لذا من الغلط الكبير تجاهل هذا المكون أي «الدين» في معرفة الخريطة الذهنية السياسية والفكرية والإستراتيجية للعالم الغربي تجاه «الشرق» أو «الإسلام»، فضلا عن «الاجتماع» بعلومه الواسعة.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)