بقلم الشيخ علاء عبد الحميد
مقدمة
هذه مقدمة تأخرت عن موضعها، ومقالة انقطعت عن أخواتها.
وللانقطاع قصة، وللانعطاف سبب، فمنذ أن بدأت في هذه المقالات كانت الرؤية واضحة بالنسبة لي، أنني أشرح الدين من خلال رحلتي، كيف فهمته منذ أن تفتحت عيناي على كتبه ودروسه ومناقشاته وقضاياه، إلى أن انشغلت به حتى صار محور حياتي ومنطلق نظرتي للحياة، وأحاول جاهدًا أن يكون نهج سلوكي وعملي.
الأمر واضح إذًا، سأرحل مع القارئ في أفكاري، أشرح له المفاهيم التي فهمتها كما فهمتها وأنتقلُ معه من الأصول إلى الفروع، ومن المفاهيم حتى القضايا.
ولكن ما تظنه واضحًا مرتسمًا في ذهنك إن شرعت في تأليف كتاب، يختلف عن كتابتك لمقال، تُقسم فيه الأفكار، وتُباعِد بين أجزائه – المتصلة في ذهنك – الأيامُ، فجاءت الرسائل غاضبة – ورُبَّ رسالة غاضبة واحدة طمست ألف مديح – تقول: طمعنا أن نقرأ عن الدين، وأن نرى كيف ارتَبَطْتَّ به وعشت به، فإذا بك تحدثنا عن مصطلح الحديث! هلا سميته «مقالات في علم الحديث»؟
وطلب بعض الفضلاء أن أتخلص من المصطلحات العلمية قدر الإمكان، ليكون المقال شبابيًا عصريًا، لا أزهريًا معممًا.
وإذا كانت اللغة طيعة يمكن توظيفها لتخرج في أنساق شتى وأساليب متنوعة، فإن السرد الذي يعتمد على نقل خبرتك ووصف حياتك يأبى – ليكون صادقًا وليكون خروجه مسترسلًا – إلا أن يخرج مصطبغًا بلغتك وطريقتك، مرتديًا لعمامتك ومتلفحًا بجُبتك.
ربما لو كان الغرض الأكبر التبسيط والتدريس والتفهيم لكان الكلام أكثر اختلافًا، ولكنه حينها سيكون أقرب للتأليف والتصنيف منه للمقال الحي الذي تمتزج فيه أفكارك مع لغتك فيعبر عما «أفهمه».
وقفت إذًا لألتقط الأنفاس وأصحح المسار وأوضح المقصود، ولكننا في زمان إن وقفت فيه سرت لوجهة أخرى، وإن تعطلت فيه شُغِلت، وقد كان.
لهذا كان هذا المقال، لنشرح ما لم نشرحه ونُبيّن ما خفي من العنوان.
كان عنوان هذه السلسلة «الدين كما أفهمه» وغرضها هو شرح «الدين»، وهو معنى واسع جدًا يشمل المفاهيم الأولية المكوّنة لنظرية المعرفة ويفهم التصورات الحاكمة في الكثير من القضايا ويشمل التشريعات التي أؤمن بها، بل ويشمل الحركة الفكرية والعلمية التي قامت فيه واستنبطت من أصوله فروعًا تنسب إليه، نسبة الوليد إلى أبيه.
هذا الكم الهائل من المعاني والقضايا المقدس منها والبشري والمطلق والنسبي والعملي والغيبي، الذي نعبر عن مجموعه بالدين، كيف أفهمه وكيف أقدمه؟
وقع الرأي على أن تكون هذه المقالات «رحلة فكرية» أسير فيها مع القارئ من الأصول إلى الفروع ومن الفروع إلى الثمار.
ولكن كيف يكون السرد؟ وما هو تسلسل الأفكار؟
في السرد – عندما نحكي قصة حياتنا أو تطور أفكارنا – لابد للراوي من خيط يسير عليه، ففي السِّيَر الذاتية – مثلًا – المعظم يؤثر الأحداث لتكون هي محور التسلسل، يحكي الأحداث تباعًا فتتصل الصورة وتجتمع المشاهد فتتعرف على حياته من خلال الأحداث، في حين يؤثر البعض الآخر أن تكون الأيام والمذكرات هي خيط السير الذي يسرد على وفقه الأحداث، فالأحداث وقعت في الزمان على ترتيب الزمان، فليكن الزمان هو الإطار.
هذا بالنسبة لمن يحكي لك قصة حياته وسيرته الشخصية، ولكن من ينقل إليك أفكاره ماذا يفعل؟
وإن امتزجت هذه الأفكار مع الأحداث، وتشابكت حتى صارت الأحداث ظلًا للفكرة، ونشأت الفكرة من رحم الوقائع، إنه تمازج يجعل الاثنين واحدًا ويمتزج فيه المادي بالمعنوي فلا يكاد يظهر فيه إلا الإنسان، ذلك المركب الذي نختزله في وقائع فنسميها سيرة ذاتية، أو أفكار فنسميها فلسفة شخصية.
كيف يمكن لهذا الإنسان أن ينقل لك أفكاره التي تشابكت مع الأحداث؟ كيف يتسلسل السرد؟ وكيف يلقي عليك الموجود الآن وأنت لم تشهد ميلاده ولم تعرف جذوره؟
هل يأخذك في الإطار الزمني فيلقي عليك أفكاره الأولى الساذجة التي أنضجتها أو غيرتها الأيام، وهل يمكن للإنسان أن تسعفه ذاكرته حتى يقف على بداية كل فكرة وما اعتراها من شكوك ويقين وزيادة ونقصان؟ هذا كالمستحيل.
أم يلقي عليك آخر ما انتهى إليه وخلاصة أفكاره؟ وهل ستتقبلها وتفهمها ما لم تفهم كيف فهمها هو؟ وهل ستفهم كيف فهمها إذا لم تفهم كيف يفكر هو؟
لذا كان الخط الذي رسمته لنفسي في هذه المقالات – لكي تفهم عني وتشاركني هذه الرحلة – أن أطوي الزمان وأبسط الأفكار، فأجعلُ الفكرة الماثلة الآن بصورتها الناضجة عندي خطًا زمنيًا، فأحللها من بدايتها لتكون بدايتها هي بداية السرد بدلا من الزمان والأحداث.
فيكون تسلسل الأفكار هو الخط الذي أسير عليه، لا تسلسلها الزمني بتتبع تاريخ نشأتها في ذهني ودخولها على حياتي، بل تشريحها لأقف على منبتها وأصلها فأرجع إلى حقيقتها وأوليتها، كرحلة الجغرافيين الأوائل إلى منبع النيل، فهم لم يرحلوا عبر الزمان ليتعرفوا على هذا النهر، بل رحلوا عبر النهر نفسه ليتعرفوا على منابعه وفروعه وأصوله، فكانت الفكرة هي الحكاية، وكان أصلها هو البداية.
لذا فلكي تعرف وجهة نظري عن الأسرة في الإسلام وعن التجديد والتراث وعن الحرية والعدل وعن التدين والتعبد وعن الاختلاف والمذاهب والتقليد وعن سائر «قضايا الدين»، لابد أن ترحل معي أولًا لتفهم كيف أفهم الدين وكيف تتجذر أصوله في نفسي، فإن فهمت الأصول فهمت الفروع، ومن الفروع تتأتى الثمار.
لذا كانت الرحلة في «أصول الدين» الأولى التي يعبر عنها البعض بـ «نظرية المعرفة»، كيف عرفت الدين وكيف توثقت منه وكيف حصّلتُ معارفي أصلًا، فبدأت بالثلاثية الأولى النقل والعقل والتعارض بينهما، فهي أصول المعرفة وبدايات الأفكار.
وهذه الأصول بدورها مركبة متشعبة، فكان لابد من تشريحها بدورها لأشرح كيف تسكن في مكانها وكيف أعتمد عليها، وكيف تعمل معي، فكان في شرح الأفكار شرح للعلوم التي كونتها، وفي شرح العلوم شرح للأفكار، وفيهما تتشعب التصورات شيئًا فشيئًا حتى تتضح الصورة الكبيرة ثم نجني ثمارها فيما بعد في صورة قضايا، سمها إن شئت تبسيطًا للعلوم أو سمها عرضًا للمفاهيم الشرعية، أما أنا فأسميها «البدايات» حيث أقص عليك كيف أحصل على المعرفة من مصادرها الأولى، فإن فهمت ذلك انتقلت معي للمولود الكبير «الدين كما أفهمه».
حتى نستكمل الكلام
مضى من هذه السلسلة 4 مقالات، بدأنا في الأول منها التمهيد للمفاهيم التي سنتكلم عنها تباعًا، وهي المفاهيم التي سترسم الخطوات اللاحقة وهي: النقل والعقل والنصّ والتعارض.
وفي المقال الثاني بدأت الكلام على القضية الأولى التي تمثل المصدر الأول للمعرفة، وهي قضية النقل وكان هذا المقال بمثابة تمهيد للمشاكل التي تعتري عملية النقل وضعنا أهمها بين أقواس.
وفي المقال الثالث بدأت أشرح كيفية معالجة الخطأ في النقل من خلال تقسيم عملية النقل لأقسام ثلاثة «الناقل، عملية الانتقال، الخبر المنقول» وبدأت بالكلام على الناقل في عملية النقل وكيف يمكن التوثق من نقله تمهيدًا، ولكن الكلام لم ينته عليه بل سيمتد لمقالين لاحقين.
ولكن جاء المقال الرابع كالمعترض بين تسلسل المقالات للتنبيه على قضية مهمة يتناسها الكثير من المتدينين المتحمسين للدفاع عن السنة والنقل، وهي أنهم ينسون أن العلوم الإسلامية كلها هي عبارة عن مجهود بشري يحاول التحرز قدر الإمكان من الوقوع في الخطأ في عملية المعرفة، لذا فكانت عمليات التوثق والمناهج والجدال تهدف لمعالجة الخطأ الإنساني في المعرفة، فجاء هذا المقال تنبيهًا على هذا المعنى وإعلامًا للناس بأن العلوم الدينية لم تَدَّعِ التعالي عن الخطأ الإنساني، بل هي في جوهرها نشأت لتحترس من الوقوع في الخطأ البشري في معرفة الحقائق.
وفي ختامه وعدنا بمقالين يرجعان بنا للعنصر الثاني من عناصر عملية النقل الثلاثية وهو «عملية الانتقال» الذي سنتحدث فيه عن التواتر في مقالين، ثم نتبعه بالعنصر الثالث وهو «الخبر المنقول نفسه» في مقال لاحق بإذن الله.. فإلى لقاء.
(المصدر: موقع إضاءات)