مقالاتمقالات مختارة

الدين كما أفهمه – النقل

بقلم الشيخ علاء عبد الحميد

دعاني صديق لمنزله لمشاهدة مكتبة والده – كنت حينها في مرحلة الدراسة الإعدادية الأزهرية – راقني كتاب لابن كثير [ت: 774هـ] اسمه «اختصار علوم الحديث»، وقد كنت أحب الرجل من معايشتي الطويلة مع كتابه الضخم «البداية والنهاية». استعرت الكتاب ورحت أقرأ فيه، وأنا لا أعلم في أي موضوع يتكلم. شدتني تعليقات المحقق أكثر من كلام ابن كثير حتى أتيت عليها كلها.

وحين رددت له الكتاب سألته: من هذا المحقق؟ يبدو صاحب علم غزير.

قال لي: ألا تعرفه؟! إنه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، شيخ أهل الحديث في مصر [ت: 1377هـ].

كانت أول مرة أعرف عن علم «مصطلح الحديث» وعن الشيخ أحمد شاكر.

من خلال هذا العلم – الذي يظهر من اسمه أنه مجرد تعريف لمعاني مصطلحات مجهولة – تعرفت على نظرة طائفة كبيرة من الباحثين في تاريخ الإسلام اشتهروا باسم «المحدِّثين». فيم يبحثون؟ وكيف يبحثون؟ قبل الجواب أريد أن أبدأ ببعض القصص القصيرة.


منذ أيام اتصل بي صديق يسألني عن كتاب باعه لي ويريد تصوير أوراق منه، قلت له: أنا لم آخذ منك هذا الكتاب ولم تبعه لي!

قال أنا متأكد تمامًا أنني بعته لك، وصفته كيت وشكله كيت، ولا شك أني بعته لك، لأنه كتاب نادر وأنا أخصك بمثل هذه الكتب النادرة لأرجع إليك وقتما شئت.. فهو لا شك عندك، أنا متأكد مما أقول!

وسط هذه التأكيدات الكثيرة بدأ الشك يدخلني، فرُحت – في يأس – أبحث وسط كتبي، فلم أجد ما يحكي عنه، ولكنني وجدت نسخة أخرى اشتريتها منذ زمن من نفس الكتاب!

قلت له، لقد اشتريت هذا الكتاب قبل أن أعرفك، فمما لا شك فيه أني لم آخذه منك لأنه عندي!

وافق الصديق على كلامي، ثم جاء لزيارتي لتصوير الورقات من نسختي، وفي أثناء الزيارة قال: كتاب كذا – لكتاب آخر – بعته لك منذ فترة وأريد تصوير بعض الورقات منه أيضًا.

قلت – وقد صرت أكثر ثقة – هذا الكتاب لم يدخل مكتبتي ولم أره.

قال: بل أنا متأكد، حتى بأمارة أني قلت كذا وحصل كذا  – لأمور حصلت بالفعل – عندما بعته لك.

وبعد بعض التأكيدات، بدأنا في البحث عنه حتى اكتشفنا أنه (أخطأ) في اسم الكتاب وأنه كان يقصد كتابًا آخر عندي بالفعل.


في فترة اللجان الشعبية، في أوّلها، حيث شاع الذعر بين الناس، نزل الجيران للشارع لحماية البيوت، فنزلت معهم، فاجتمع الناس ولا أحد يعرف على وجه التحديد مما نخاف.

جلس إلى جوارنا البواب، فجاءه اتصال هاتفي. يقول المتصل: هناك خمسمائة رجل مسلح هجموا على المتجر الفلاني – متجر قريب – وهم في طريقهم إلينا. فما إن انتهت المكالمة، حتى اتصل البوَّاب على زميله يقول له: يا فلان، هناك ألف رجل مسلح هجموا على المتجر الفلاني وهم في طريقهم إلينا!

تبسّمت وتخيلت صورة المكالمة الأولى التي يخبر فيها رجل صديقه أن هناك لصًا مسلحًا بمطواة حاول سرقة قطعة حلوى من هذا المتجر، حتى وصل إلينا الخبر بأن جيش التتار في طريقه إلينا. قلت لجيراني: لو كان القادمون ألف رجل، فلنصعد إلى بيوتنا، فهو أكرم لنا!


في أيام والدي رحمه الله الأخيرة، أصيب بالألزهايمر وبعض الهلاوس، فربما كنت أستيقظ في الثالثة صباحًا لأجده يرتدي ملابسه كأنه سيخرج. أسأله: إلى أين؟ فيقول في ثقة: إلى صلاة الجمعة! أخبره أن اليوم الثلاثاء، فيقول: إذن أنزل لشراء بعض الحاجيات.

نزلت معه، ودخلنا أحد المخابز، فأخذ في شراء العديد من الطعام بكميات هائلة، فأشرت للرجل في خفاء أن يترك كل ما أخذه سوى شيء يسير، ثم قمت بحساب الرجل … عندما عدنا للبيت كان قد (نسي) ما الذي اشتراه.


كان لنا صديق إذا أخبرته بأنك مرهق قليلا، ربما تجد أصدقاءك يتصلون بك ليلا، يقولون: فلان أخبرنا أنك دخلت المستشفى وحالتك حرجة!

كان صديقي لا يكذب ولا يفكر في الكذب ولو على سبيل المزاح، ولكنه كان شديد العاطفة، ينفعل أشد الانفعال بالأخبار، حتى تتضاعف مدلولات الكلمات عنده بشكل غريب، فمتضايق تتحول لمكتئب، ومتعب تتحول لمريض، وأحب تتحول لعاشق ولهان.

لا يقصد المبالغة، ولكنه هكذا يستقبل المعاني، (فيرسلها كما فهمها)، فصرنا نتعامل مع أخباره بالقسمة على اثنين.


القصص كثيرة ، ولكن يجمعها أمر هام.. فهذه الأحداث كانت تعتمد على (النقل) أو (الذاكرة)، فهي ليست بأخبار مكتوبة أو استدلالات رياضية يمكن مراجعة خطوات الحساب للتأكد من صوابها من عدمه. ولكن كيف قمت بالحكم بالخطأ على كل واحد من هؤلاء؟ وكيف أخطأوا؟

في القصة الأولى: كان منشأ الوهم – في ظني – الخلط بين الأشخاص، فهو باع الكتاب لغيري ولكنه – لأمر ما – ارتبط في ذهنه أنه باعه لي، ربما كان ينوي بالفعل أن يبيعه لي ثم رفضت لأنه عندي، فثبتت في ذهنه نيته القديمة، ونسي ما حدث بعدها.

كان تشككي في نفسي في المرة الأولى – مع تأكيداته القوية الواثقة – كبيرًا، ثم كان القاطع لشكي أمران:

الأول: أن الكتاب عندي منه ثلاث نسخ مختلفة جاءت كل واحدة في ظروف غريبة، وهو كتاب مهم جدا بحثت عنه لسنوات طويلة، فيصعب جدا أن آخذ منه نسخة رابعة مكررة، ولا أذكر هذا.

الثاني: أني فتشت عن الكتاب الذي يصفه فلم أجده، ولا أذكره.

أما في المرة الثانية فما إن بدأ في التأكيد حتى تبسّمت، لقد جربت من قبل أنه ينسى، ثم جاء الدليل مؤكدًا على ما ظننت سريعًا.

أما في القصة الثانية: فالرقم مبالغ فيه، فرقم خمسمائة من اللصوص رقم ضخم أظن أن قراصنة البحار في أيام مجدهم وقطاع الطريق في عز قوتهم لم يصلوا إليه، إنه رقم يقترب من الجيوش الصغيرة ، فالعادة تحيل مثل هذا.

ثم تأكدت المبالغة بأمرين:

الأول: أن الزمان زمان شائعات والنفوس متوترة تواجه المجهول، والنفس مولعة بالأخبار المثيرة.

والثاني: أنها تأكدت أمامي بالرقم الذي تضاعف في ثانية، أن الناقل يصنع هذا ويكذب متعمدا. وما جاز عليه جاز على صاحبه الذي نقل إليه الخبر.

أما في القصة الثالثة: فالمرض واضح، وعلامات الاضطراب والاختلاط واضحة ولا تحتاج لتعليق.

والقصة الرابعة يظهر فيها أثر نفسية وعقلية الناقل في نقل الخبر.


أليست هذه مجموعة من «الأخبار المنقولة» التي يختلط فيها الحق بالباطل؟ ولكن هل هذا يعني أن نفقد الثقة تماما بذاكرتنا وأخبارنا؟! إننا نحفظ سورة الفاتحة – مثلا – غيبًا كما نحفظ أسماءنا، حتى أننا يمكننا أن نتلوها حفظًا ونحن نفكر في الصلاة في عدة أمور، ومع ذلك لا ننسى منها كلمة واحدة. وفي حياتنا اليومية، نستقبل كل يوم رسالة أو مكالمة من صديق أو مدير يحدد لنا موعد الاجتماع القادم، ونتصرف على هذا الأساس، وغالبًا ما تكون المعلومة صحيحة. فحياتنا مليئة بالأخبار، والأخبار منها الكاذب ومنها الصادق، فهي تحتمل الأمرين، فهل نستغنى عن الاعتماد عليها لاحتمالها للصدق والكذب؟!

إن هذا سيكون أقرب للجنون، فعندما يخبرك مديرك بموعد فلا تصدقه لاحتمال الكذب، وتطلب من النادل أن يعد لك الطعام الفلاني، فلا يصدقه الطباخ لاحتمال الخطأ أو الكذب، والمدرّس في المدرسة لا يمكنك تصديقه في كل معلومة يقولها لاحتمال الكذب والتزوير، ويخبرك أبوك بأنه أبوك فلا تصدقه لاحتمال الكذب… إلخ، هذه حياة أقرب للجنون.

وكذلك تصديق كل ما يقال لك هو نوع آخر من الجنون لايقل شناعة عن سابقه.

لذا فإن قلنا أن الخبر المنقول هو كل خبر يعتمد على الذاكرة في نقله حتى يصل إلى المُخبَر، وإن اعترفنا بأهميته في حياتنا للوصول إلى معرفة مجهولات كثيرة، فإن هذا الخبر «المنقول» هو أحد مصادر الوصول إلى المعرفة، ولكنه يفتقر إلى أمرين لتكون المعرفة الحاصلة به صحيحة في ذاتها:

الأول: أن نثق في (عملية الانتقال) التي وصل بها الخبر إلينا.

والثاني: أن نتأكد من (مضمون الخبر) نفسه.

في مرحلة مبكرة من حياتي علمت أن أهل الحديث والفقهاء والمؤرخين يشتركون في البحث في هذين الأمرين، ولكنهم يسلكون طرقًا مختلفة  في البحث، وكان أول طريق رأيته من هذه الطرق هو طريق المحدثين.

فلنلق نظرة عليه كما فهمته، ولكن خذ معك من هذا المقال هذه الكلمات المظللة بالأسود، فسنحتاجها في مقالنا القادم بإذن الله.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى