مقالاتمقالات مختارة

الدين كما أفهمه – التوثق في النقليات

بقلم الشيخ علاء عبد الحميد

 

دائرة الإدراك التي تعمل فيها حواسنا محدودة ، وما أكثر المعلومات والأحداث والأخبار التي تقع بعيدا عنا ونحتاج لكي نعرفها أن نعتمد على حواس غيرنا ممن رأوها أو سمعوها ؛ فـ (ينقلوا) لنا ما أدركوه .

وانتقال الخبر أشبه بـ (عملية إجرائية) تشبه إذاعة نشرة الأخبار المسجلة ، فلابد في الأخيرة من إعداد وتصوير وأدوات تسجيل وإرسال ..إلخ.

والخطأ قد يقع في أحد أجزاء هذه العملية فتفسد بالكلية ، إذا فلابد من إجراءات السلامة والجودة في كل خطوة من خطوات العمل .

يمكننا أن نقسّم عملية النقل إلى الأقسام التالية :الناقل ، عملية الانتقال ، الخبر المنقول .

في القصص التي حكيتها في المقال السابق ، حكيت عن صديقي الذي (يبالغ)، والبواب الذي (يزيد)، وصديقي الذي (يهم)، ووالدي الذي (اختلط)، هذه بعض العوارض المختلفة التي هي عبارة عن صفات صارت ملازمة للناقل.

إذا فتشريح كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة يكشف لنا عن احتمالات ومشاكل مختلفة في كل قسم، فتسهيلا على القارئ، أبدأ في الحديث عن الناقل ثم أتبعه بباقي الأقسام في مقالات متتابعة.

1. الناقل

بين الحسّ والسمع قد يقف الناقل، فهو قد رأى ولم تر، وسمع ولم تسمع، ثم ينقل إليك ما أدركته حواسه..

إذا فمن أهم الأمور أن نتأكد من هذا الذي وقف وسيطا بيننا وبين الحدث، ولكن كيف نتأكد؟ ومم نتأكد؟

كانت معرفتي الأولى بالطريقة التي يسلكها المحدثون في التوثيق فيما حكيته من قبل عن الكلام الذي قرأته لابن كثير والشيخ أحمد شاكر رحمهما الله ، تكشّف لي حينها وجود (شروط) يلاحظها المحدثون ليحكموا على الحديث بالقبول أو الرد..ولكن كيف يتحققون من هذه الشروط ؟

كانت الإجابة المشهورة أن هناك كتب (الجرح والتعديل) التي سجلت أسماء الرواة وأحوالهم ؛ ليتمكن المحدث من الكشف عن حال النقلة، الأمر يشبه ذهابك للحصول على نتيجة الامتحانات، حيث يفتح الموظف كشافا باسم الطلاب ، فيبحث في الراسبين أولاً ، ثم يبحث عن الناجحين ثم يخبرك بالدرجة التي حصلت عليها!

مع تقدم العمر تقدمت الأسئلة وكثـُرت: كيف يتم الحكم على الرجال؟ وعلى أي أساس يحصلون على الدرجات؟ وما مقدار الثقة في هؤلاء الحكّام الذين حكموا على غيرهم بهذه السجلّات التي نرجع إليها لنعرف (حال الرواة)؟

تزداد الأسئلة صعوبة كلما حاولنا أن نفهم ، فتتشعب الإجابات بتشعب التساؤلات، فلا سبيل سوى أن نسير معهم – كما سرت – خطوة بخطوة لنعرف كيف كانوا يعملون قديما، الأمر أشبه بإعادة بناء مدينة متهدمة بقيت لك أطلالها تطرح في ذهنك ألف سؤال

في المقال السابق حكيت بعض القصص عن أخطاء الذاكرة والوهم، واستخدمت عدة عبارات طلبت منك اصطحابها إلى هنا، إن كنت نسيتها فقد أحضرتها معي، ولكني سأجعلها على قسمين، ولكن كل قسم يحتاج إلى وضع عنوان يدل عليه، سنسمي القسم الأول بـ : «الاحتمالات التي تطرأ على عملية نقل الخبر فتؤدي إلى الخطأ فيه».

عنوان طويل ولكنه أحب إليّ من العناوين المختصرة التي لا تفيدك بشيء.

هذه الاحتمالات يمكن حصرها في أمور بالتتبع لخبراتنا الحياتية، مثل: الكذب، الوهم، النسيان، الخلط، المبالغة، الزيادة والنقصان المتعمدينإلخ. (لقد استخدمنا بعض هذه المصطلحات في المقال السابق لو تذكر).

بالطبع يمكنك الزيادة على هذا، كما يمكنك ردّ بعض هذه الأسباب إلى بعض، فمثلًا يمكن أن تضم القسم الأخير (الزيادة والنقصان المتعمدين) إلى القسم الأول (الكذب)، ويمكنك أن تجعل (الوهم) و(النسيان) و(الخلط) قسمًا واحدًا.. الأمر سهل، المهم أن نرصد الأسباب ونستوعبها حصرا قدر الإمكان.

في مقابل هذه الاحتمالات نسلك مسالك نقدية معتادة نتوثق منها من وجود هذه الاحتمالات أم لا، فمجرد الاحتمال لا يعني الوجود، فالحائط القريب منك يحتمل أن يسقط، ولكنك لا تنحني أو تبتعد عنه ما لم يكن مائلا بالفعل.. هذا الذي نسميه الفرق بين الاحتمال الناشئ عن دليل والاحتمال المطلق، أو بعبارة أكثر تكثيفا: الفرق بين «التجويز العقلي» وبين «الاحتمال العقلي».. فليس كل ممكن واقع.

هذه المسالك النقدية المعتادة هي التي ستمثل القسم الثاني من المصطلحات التي سنأخذها من المقال السابق، ولنسم هذا القسم: «طرق البحث عن وجود احتمالات الخطأ في عملية النقل».

هذه الطرق كثيرة أيضا، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: عادة الناقل في الكذب أو الخلط (التجارب السابقة)، القرائن المحيطة بعملية النقل، الحالة الصحية والعقلية للناقل، مضمون الخبر نفسه ومدى معقوليته، مدى مطابقته للواقع، معارضته لغيره من الأخبارإلخ.

هل يمكن أن نحوّل هذه الاحتمالات لمعايير اختبار تخضع للقوانين الرياضية والرسوم البيانية لتدلنا لغة الأرقام على مقدار وجود هذه الاحتمالات في عملية النقل؟

الإجابة تكشفها لك هذه القصة القصيرة ..

في زمان متقدم كان هناك أحد هؤلاء الباحثين اسمه «يحيى بن معين» [ت 233هـ].

يحيى بن معين يريد التأكد من أحاديث ناقل يسمى «حماد بن سلمة» [ت 167هـ].

فذهب يحيى بن معين إلى أحد الرواة عن حماد بن سلمة يطلب منه أن يخبره بما سمعه منه، هذا الراوي يسمى «عفّان» [ت 220هـ].

سأل عفانُ يحيى بن معين: هل سمعت هذا الحديث من غيري؟

فقال يحيى: نعم سمعته من سبعة عشر رجلا ، يعني أن عفان هو رقم 18 الذي سيخبره بنفس الحديث عن نفس الراوي.

فأبي عفان ذلك، فذهب يحيى إلى البصرة لتلميذ آخر من تلاميذ «حماد بن سلمة» هو «التبوذكي» [ت 223هـ].  فطلب من «التبوذكي» مثل ما طلبه من عفان، وأفصح عن سببه الذي يجعله يحرص على سماع حديث حماد بن سلمة من ثمانية عشر رجلا!

فقال : «أريد أن أميّز خطأ حماد بن سلمة من خطأ من روى عنه، فإذا اتفق لي الجميع على خطإ،عرفت أنه من حماد بن سلمة، وإذا انفرد به بعض الرواة عنه عرفت أنه منه». [من كتاب التعديل والجرح لأبي الوليد الباجي 1/ 253 ط. المملكة المغربية، وزارة الأوقاف].
السبب ببساطة أنه يختبر احتمالات الخطأ في حديث حماد عن طريق عملية رياضية عملية:

1. فعند يحيى حديث يرويه أقران حمادالذين شاركوه في السماع من شيخه عن شيخ حماد.

2. وحماد يروي هذا الحديث لتلاميذه.

3. سنسمع روايات أقران حماد عن شيخ حماد.

4. ونسمع روايات تلاميذ حماد عن حماد عن شيخه.

5. ثم نقارن رويات تلاميذ حماد ببعضها، فلو اتفقوا جميعا على صيغة ما عنه، لم نشك في أنه أخبرهم بها هكذا، ولكن إن اختلفوا في بعض الألفاظ فربما يكون الاختلاف وقع من أحدهم سهوا أو خطأً.

6. فإن اتفق التلاميذ على نقل الخبر بصيغة معينة عن حماد لم نشك أنه عنه انتقل هكذا، فنصعد درجة للتأكد من حماد نفسه.

7. فنفعل مع شيخه كما فعلنا معه، فنقارن اللفظ المنسوب لحماد الذي ينسبه هو لشيخه، بما يرويه أقرانه (الذين يشاركونه في شيخه) عن شيخه.

8. فإن اتفقوا في الرواية عنه على نفس اللفظ انتقلنا لشيخه وهكذا..

9. وإن اختلفوا عنه علمنا أن الوهم جاء منه، حيث تكون نسبة الأكثر أرجح من الأقل ، فنسبة 17 : 1 أقوى بكثير من أن نصدق هذا الواحد.

ثم ماذا نستفيد بعد هذا؟ .. نستفيد عدة أمور:

الأول: أننا علمنا الخطأ في هذه الرواية هل هو من حماد أم من غيره؟

الثاني: أن الخطأ الذي ظهر من حماد أو من غيره هو نقطة سالبة في حقه، فإن تكررت هذه النقاط السالبة، أفادت بالتجربة أن الرجل كثير الخطأ أو كثير الوهم.

الثالث: أن الخطأ هو مفتاح الحكم على الشخص، فهو يظهر نسبة ضبطه بشكل رياضي واضح.

الرابع: أن هذا الخطأ لا يظهر إلا بعملية إحصائية تعتمد على المقارنات، فتظهر النسب والاحتمالات.

رسم

يلخص لنا الإمام أبو الوليد الباجي القصة بهذه العبارات الواضحة، يقول: «أحوال المُحَدِّثين –يعني الرواة– في الجرح والتعديل، مما يُدرك بالاجتهاد ويُعلم بضرب من النظر، ووجه ذلك أن الإنسان إذا جالس الرجل، وتكررت محادثته له وإخباره إياه بمثل ما يخبر الناسُ عن المعاني التي يخبر عنها، تحقق صدقه، وحكمَ بتصديقه، فإن اتفق له أن يخبر في يوم من الأيام أو وقت من الأوقات بخلاف ما يخبر الناسُ عن ذلك المعنى، أو بخلاف ما علِمَ المُخبَرُ عنه، اعتقد فيه الوهم والغلط، ولم يخرجه ذلك عن رتبة الصدق الذي ثبت من حاله وعهِد من خبره. [يعني أن نسبة الخطأ في روايته ستكون قليلة فنحكم بالغلط فيها ولا نحكم عليه بعدم الصدق إجمالا، ما دام لم يكثر هذا منه]..
فإذا أكثرت مجالسة آخر، وكثرت محادثته لك، فلا يكاد يخبرك بشيء إلا ويخبرك أهل الثقة والعدالة عن ذلك المعنى بخلاف ما أخبرك به، غلب على ظنك كثرة غلطه، وقلة استثباته واضطراب أقواله وقلة صدقه، ثم بعد ذلك قد يتبين لك من حاله العمد أو الغلط، وبحسب ذلك تحكم في أمره، فمن كان في أحد هذين الطرفين [يعني استمرار الصدق أو استمرار الكذب] لا يُختلف في جرحه وتعديله، وما كان بين الأمرين، مثل أن يوجد منه الخطأ والإصابة، وقع الترجيح فيه، وعلى حسب قلة أحد الأمرين منه وكثرة الآخر، يكون الحكمُ فيه» انتهى كلامه [ المرجع السابق1/ 251].

إذا فالحكم الذي يحصل عليه الراوي ، هو عبارة عن إحصائية رقمية للاختلافات الواقعة في روايته في كل حديث على حدة ، ثم يضم كل حكم في كل حديث لتخرج لنا إحصائية كاملة عن مرويات هذا الراوي ، وهكذا نفعل مع كل ناقل يقف بيننا وبين الخبر المسموع من مصدره الأول..

كانت هذه إجابة أول سؤال، وما تزال الأسئلة كثيرة ….

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى