مقالاتمقالات مختارة

الدين سبب تخلف المجتمعات .. الحضارة الإسلامية نموذجاً!

بقلم يونس نظيف

من الأمور التي صارت منتشرة جداً في حاضرنا هذا أنّ الدين هو سبب التخلف والانحطاط الذي تعيشه المجتمعات العربية، حتى أنّ هذا الاعتقاد صار متداولاً على لسان مجموعة من الأيدولوجيات المعادية للدين كالإلحاد والعَالمانية، فالثانية تدعو لفصله عن الدولة وجعله حبيساً في المساجد، والأولى تُريد استئصال شأفته من على هذه البسيطة، بل إنّ هذا الاعتقاد صار عند القوم دليلاً يُستخدم على عدم صلاحية الدين- حسب زعمهم، فهو بالنسبة لهم سبب التخلف العلمي لأي مجتمع يدين به، بل إنك تجدهم يضربون بالمغرب – وعموماً دول شمال إفريقيا والشرق – نموذجاً حياً للتخلف العلمي والتكنولوجي الذي يساهم فيه الدين، ودعوني هنا أوضح شيئاً مهماً بخصوص هذه الدول والمغرب على وجه الخصوص، قبل الخوض في هشاشة هذه الدعوى.

الذي يساهم في بزوغ أمة أو انحطاطها هو التعليم وكذا مدى انشغالها بالعلم نفسه، فدولة ميزانية البحث العلمي عندها معدومة كيف نُريدها أن تكون رائدة في المجال العلمي؟!! وهنا أتحدث عن الدول العربية اﻹسلامية والمغرب على وجه الخصوص، فنحن قبل كل شيء أبناء المغرب، وكلنا يعرف أنّ ميزانية البحث العلمي في جامعاتنا معدومة، بل حتى أنّ مُتطلبات الأنشطة التطبيقية معدومة، وإني لأذكر أن أستاذ الفيزياء النووية بكلية العلوم أخبرنا بالحرف أن سبب قيامنا بمحاكاة للأنشطة التطبيقية – لا الأنشطة نفسها – هو انعدام وجود مختبر بسبب الميزانية المعدومة، وهذا الأمر تعاني منه كل جامعات المغرب وباقي الدول العربية للأسف، فإذا كانت المتطلبات نفسها غير موجودة فكيف إذن بحالة ميزانية البحث؟ وكيف نريد أن نكون إذن رائدين في مجال البحث العلمي؟!!

فالدين اﻹسلامي بعيداً عن هذه البروباغاندا ليس عدواً للعلم ولم يكن يوماً كذلك، بل لطالما كان داعياً للعلم حافظاً لمكانته الخاصة عند أتباعه، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) [1] وحتى أنّ تعلم العلوم – الدنيوية – عند العلماء هو فرض كفاية، فكيف يكون إذن معادياً له؟!

ودعونا لا نستغرق في هذه التنظيرات ونضرب مثالاً تطبيقياً حيّاً على هشاشة هذه الدعوى التي يُروج لها اليوم، ولنتحدث قليلاً عن الحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي كان فيها اﻹسلام مفهوماً مركزياً، كدستور دولة ومنهج حياة، كمعلم يدعوا أتباعه للتعلم في مختلف المجالات، الشرعية منها والدنيوية، وإنه لمن الغريب أن تجد مُستشرقةً تعترف بفضل اﻹسلام على الحضارة اﻹسلامية في حين تجد أبناء جلدتنا يتنكرون له، فهذه المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في معرض كلامها عن سبب الازدهار الحضاري والمدني الذي عرفه العرب مُسمية إياه بالبعث الجديد، تقول:
(وبهذا الروح القوي الفتي – اﻹسلام – شقّ العرب طريقهم بعزيمة قوية تحت قيادة حكيمة وضع أساسها الرسول بنفسه، وظلت دائماً مسؤولة أمام الحكومة المركزية مباشرةً، فكان النصر للعرب على أعدائهم المتفوقين عليهم في العدد والعتاد. أوليس في انتصاراتهم السريعة المتلاحقة أكبر دليل على أثر ذلك الروح الجديد الذي سرى بينهم؟ أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد؟) [2].

فالقوة التي دفعت الحضارة اﻹسلامية وجعلت منها حضارة تتفوق على كل الحضارات الأخرى، بل وأن تحقق في سنين ما لم يُحقق قرون هو اﻹسلام بتعاليمه وقيادته لهذه الأمة، ولولا هذا ما بلغ الغرب ما وصل إليه، وعلى إثر ذلك يقول المُستشرق اليهودي السابق ليوبولد فايس – محمد أسعد بعد إسلامه -:
(لسنا نُبالغ إذا قلنا إنّ العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه، لم يُدَشَّن في مدن أوربة، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة.
إنّ أثر هذا النفوذ في أوروبة كان عظيماً. لقد بزغ، مع اقتراب الحضارة الإسلامية، نور عقلي في سماء الغرب ملأها بحياة جديدة وبتعطش إلى الرقي. ولم يأتِ التاريخ الأوروبي بأكثر من اعتراف عادل بقيمة الحضارة الإسلامية حينما سمى عصر التجديد الذي نتج عن الاحتكاك الحيوي بالثقافة الإسلامية “عصر البعث” فإنه في الحقيقة كان ولادةً لأوروبة، ولم يكن أقلّ من ذلك.) [3].

نعم، إنه بعث جديد كما سمته المستشرقة زيغيد هونكه أعلاه، بعث مَثَّل فيه اﻹسلام حجراً أساساً لا يُمكن الاستغناء عنه، باعث أخرج الأمة العربية والفارسية ومن تدينت به من ظلمات الجهل إلى نور العلم والحضارة، ولعّل القارئ يلتمس معنى هذا النور الذي نتحدث عنه إذا عرف حال أوروبا في نفس الحقبة، ودعونا نقرأ كلاماً للمؤرخ المسيحي أندرو ميلر بهذا الصدد:
(كان البابا سلفستر الثاني الذي جلس على كرسي بطرس الرسول في فجر القرن الحادي عشر و هو حلقة لوصل بين حكمة العرب وجهل الرومان وتسليمهم الأعمى، فقد تعلم في المدارس الإسلامية وفي مدينة قرطبة، حيث استقى علوماً نافعة ابتدأ أن يظهرها في روما ويعلمها للناس، ولكن بسبب روح الخرافة التي سادت ذلك الوقت نسب الناس أعماله ومعارفه إلى فنون السحر لأن الناس اعتقدوا أن مثل هذه القدرات لا يمكن إلأ ان تكون نتيجة التحالف مع الشيطان.) [4].
فأطلق لخيالك العنان، كيف يُعتبر العلم سحراً إن لم يكن شيئاً جديداً عنهم، شيئاً باهراً لم تسبق لهم رؤيته، بل إنّ هذا التأثير الحضاري الإسلامي لم يقتصر على تلك الحقبة فقط، بل إنه المساهم الأول فيما يعيشه العالم اليوم، ولعل القارئ هنا يستغرب قولي هذا، لكن هذه الدهشة سرعان ما تزول إذا علمتَ أنّ هذا ليس قولي، بل ما يقوله عالم الأنثروبولوجيا والأديب الفرنسي روبرت بريفولت:
(إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه لنا من كشوف مدهشة ونظريات مبتكرة، بل العلم يدين للثقافة العربية بأكثر من ذلك، إذ يدين لها بوجوده ابتداءً. فالعالم كما رأيناه كان غير علمي بعد.) [5].

ويستطرد قائلاً:
(العلم هو أهم الإسهامات التي قدمتها الحضارة العربية للعلم الحديث، ولكن ثمارها كانت بطيئة النضج. فإن قوة هذا العملاق الذي ولدته الحضارة العربية لم ينهض إلا بعد أن عاد العرب إلى الظلمات. فلم يكن العلم وحده الذي وهب الحياة لأوروبا. بل تأثيرات الحضارة الإسلامية الكثيرة والمتعددة هي من وهبت الحياة لأوروبا) [6].
حتى أنّ هذه العلوم التي نضجت داخل الحضارة اﻹسلامية وكبرت فيها ظلت حتى قرون عديدة مصدر معرفة الغرب ينهل منها الناهلون ويسرق منها السارقون، تقول على إثر ذلك زيغريد هونكه:
(دب في الطب الغربي فجأة، في القرن السادس عشر، شعور غريب من تقليده للطب العربي وقد بقي قروناً طويلة من الزّمن نسخة ممسوخة عنه. وكانت معظم المخطوطات الأوربّية الطّبيّة في أول عصر التّرجمة في القرن السّابع عشر تقليداً للعرب ونقلاً عنهم. وكانت أوّل حركة مسرحيّة معبّرة عن هذا العداء السّافر الجديد هي واقعة إحراق كتب ابن سينا وجالينوس علناً في ساحة السّوق في مدينة “بازل” السويسريّة، فهذه الواقعة التي قام بها المدعو باراسلزوس هي رمز للتفكير المستقل الجديد.

وبالطبع لم يعن هذا اختفاء التّراث العربي من رؤوس العلماء ورفوف المكتبات وجيوب الأطباء، بل ظل محافظاً على مكانته يسرق منه السّارقون ما شاء لهم الله أن يسرقوا. فميخائيل سرفيتوف مثلاً نسب لنفسه اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، هذا الاكتشاف العربي، دون أن يُرْجِعَه إلى أصله الحقيقي.) [7].

فكيف بعد هذا كله – وما تركناه كثير – يُعترض على الدين اﻹسلامي بحجة ساذجة سخيفة لا تقوم لها قائمة؟!!!

_______
[1] صحيح مسلم.
[2] شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة زيغريد هونكه، ص356، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط دار الجيل ودار الآفاق الجديدة، الطبعة الثامنة، بيروت.
[3] الإسلام على مفترق الطرق تأليف محمد أسعد – ليوبولد فايس سابقاً -، ص44-45 – ت:الدكتور عمر فَرّوخ، ط دار العلم للملايين.
[4] كتاب مختصر تاريخ الكنيسة لأندرو ميلر، ص 236 – الطبعة الرابعة، 2003.
[5] Robert Briffault, The making of Humanity, Londres, 1919, P: 191.
[6] Ibid, P: 202.
[7] شمس العرب تشرق على الغرب، ص315.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى