الدين بين الاتباع والانتقاء
بقلم د. سيرين الصعيدي
كثيرة هي الهجمات والابتلاءات التي بُلي بها المسلمون اليوم والتي تحاول المساس بأمور وتعاليم دينهم.
ولم تقتصر هذه الهجمات على جهة واحدة، فقد تعددت المشارب والوجهات والهدف واحد التشكيك في أوامر الدين والتأثير على قناعة أتباعه فيه، غير أنّ أشد الهجمات وأخطرها تلك التي تأتي من الداخل وإن كان بعضها لم يصدر عن نفسية الكيد والتربص إلا أنّ الجهل في كثير من الأحيان والبساطة المذمومة قد تُستخدم كمعاول هدم بشكل أخطر من تلك المكائد التي تحاك خفية ، والجهل إن كان عذراً للبعض إلا أنه عذر مؤقت ينبغي أن يكافح بالعلم ولا يكفي أن تكون على علم فحسب فيجب أن تُتُبع العلم العمل والتطبيق وترجمته على أرض الواقع في حياتك الخاصة والعامة وإلا أصبحنا كما بني إسرائيل إذ قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [سورة الجمعة: آية5].
ثم إن زلة العالم وعدم التزام الملتزم في أموره الخاصة والعامة لا سيما وأنظار الناس مصوبة نحوه بل ويعتبره الكثير منهم قدوة لهم في تطبيق شرع الله والتزام نهجه وخاصة إذا كان من حملة العلم الشرعي أو الدعاة إلى الله تختلف عن زلة شخص عادي لا يؤخذ منه ولم تتعلق الأنظار به لا من قريب ولا من بعيد، وإن كان من المفروض أن ننزله طبيعته البشرية التي جعلها الله عليها، ولكن أيضا على أمثال هؤلاء أن يراعوا العلم الذي يحملون والمكانة التي تبوؤوها بين أقوامهم وفي مجتمعاتهم ، فأن يخلط في عمله بين الحابل والنابل والطيب والخبيث فهذا ما لا يقبل وأن ينهى عن منكر ويأتيه ويأمر بمعروف ويكون أول من يخالفه فهذا تلبيس على الناس وقلب للموازين ويتحقق وقتها فينا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون} [سورة الصف: آية2].
وإن كان الخلط بين الباطل والحق في فعل هذا مرفوض ومستنكر، فإنّ مواقف الناس وردود أفعالهم بين متشدد يكفّر ويخرج من ملة الإسلام وبين من يتتبع أفعال الأشخاص ويقتدي بها بحجة أن فلاناً شيخ أو علامة فيفعل ما يفعلون ويسير على نهجهم في كل صغيرة وكبيرة ويقول لك إذا الشيخ فلان فعل هذا ومالي لا أكون مثله وهؤلاء أيضا أفعالهم رد عليهم وتصرفاتهم لا مبرر لها فلا التشدد والتكفير مقبول إذ نذكره: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” (سنن ابن ماجه)، فالإنسان مهما كانت درجته العلمية أو درجة التزامه يبقى بشراً عرضة لأن يخطئ ويصيب والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر: آية53]، فإذا كان الجبار الغفور يغفر لمن يسرف على نفسه ويخطئ بحقه جل شأنه فمالنا نحن والتكفير والتشديد؟! وأما أؤلئك الذين يقلدون ويقتفون الأثر حتى في الأخطاء ننصح أنفسنا ونذكرها معهم أن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق الذي يعرف بالرجال، فالحلال بيّن والحرام بيّن فلو أساءت الأمة بأسرها ما كان ذلك ليبرر لأحدنا أن يسيء أو يذنب بحجة أن فلاناً أذنب وأخطأ.
إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق الذي يعرف بالرجال، فالحلال بيّن والحرام بيّن فلو أساءت الأمة بأسرها ما كان ذلك ليبرر لأحدنا أن يسيء أو يذنب بحجة أن فلاناً أذنب وأخطأ
وفي الآونة الأخيرة ومما انتشر وعمّ في مجتمعاتنا وبين أوساط الكثير منا ولا سيما من يعرفهم الناس بجلال قدرهم وحسن التزامهم مشكلة الانتقاء بين أوامر الشرع، فتجد الواحد يتبع الأمر ويلتزمه ما دام مناسباً لحاله ومقامه، حتى إذا خالف هواه ومزاجه تجده تفلّت منه محاولاً أن يخلق لنفسه أعذارا أو حتى يعمد لتطويع الأدلة الشرعية وليّ أعناقها حتى يخرج بحجة على صحة ما قام به، وقد يغيب في هذه اللحظة عن بال الكثير منا أن الإسلام إنما هو كمال الخضوع والتسليم لله في كافة أمورنا وأن المطلوب منا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود: آية112]، لا كما هويت أو ارتأيت، الأصل أن يفعل المرء ما يوافق مراد الله وإن خالف هذا الأمر مراده ومزاجه : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: آية65].
عند الادعاء كلنا مؤمنون نحب الله ونرجوا رضاه ونخشى سخطه وغضبه، فما عمامتك وجلبابي ولحيتك ونقابي إلا علامات ظاهرة توحي بأن فلاناً أو فلانة من الملتزمين، ولكن على المحك وعند المواقف التي تحتاج لأن تترجم ظاهر تدينك هذا إلى حقيقة ملموسة يكون الاتباع ويتم التمحيص، فمن اتبع دون أن يلتفت لهواه ومزاجه في الأمر ويقدم مراد الله على مراده يكون قد أسلم أمره لله وقاده الشرع لا الهوى والمزاج، ومما انتشر بيننا في الآونة الأخيرة تجد من يهاجم كلام البذاءة والمجون وحفلات الاختلاط حتى إذا ما دعي لحفلة أو لعرس لا يراعى بها قدر الله ولا أوامره لبّى الدعوة بحجة القيام بالواجب وحتى لا تتقطع علاقات المودة والوصال بين الناس ولا أدري من أحق أن يراعى قدره وصلته عاداتنا البالية أم أمر الله وإذا كان هؤلاء الذين يجترئون على الله في حفلاتهم ومناسباتهم بحجة فرحة العمر أو يوم في السنة لا يراعون حراماً أو حلالاً فلماذا أنا كمسلم ملتزم مطلوب مني أن أحسب ألف حساب لغضبهم وأو رضاهم وسخطهم، وما هذا المثال إلا غيض من فيض ومثل بسيط على العثرات التي تواجه الملتزمين منا وتصبح أعمالنا وسلوكياتنا حججاً يحتج بها البسطاء وكأنها قرآن منزل.
ما عمامتك وجلبابي ولحيتك ونقابي إلا علامات ظاهرة توحي بأن فلاناً أو فلانة من الملتزمين، ولكن على المحك وعند المواقف التي تحتاج لأن تترجم ظاهر تدينك هذا إلى حقيقة ملموسة يكون الاتباع ويتم التمحيص
والأمر تعدى هذا لتجد كثيراً منا إن ازدحمت عليهم الواجبات وقفوا على الأسهل منها والأقرب والأحب لنفوسهم ولو كان الذي قدموه من نافلة الأمر على فرضه، فتجد من يصوم الإثنين والخميس وقد فرط والله في فروضه الخمس، يعتلي صهوة المنابر واعظا وقد ضيع أهله وأسرته فلا يدري أي ساعة عاد ابنه للبيت ولا على أي قناة باتت ابنته مستيقظة معها للفجر، يحذّر الناس ومعاول الهدم في بيته تفعل أفاعيلها، ولو اقتطع كل منا كل يوم عشر دقائق ليطلع في كتاب يبين له واجب الوقت أو يوضح له فقه الأولويات ليسدد ويقارب في أمر نفسه لأراح واستراح، ولكننا نقرأ كتاب ربنا صبح مساء دون تفكر وتدبر إلا من رحم ربي، إذ لو تفكرنا لهربنا من الأسباب التي جعلت بني اسرائيل من المغضوب عليهم والنصارى من الضالين وهذه أم الكتاب والتي نفتتح بها صلواتنا ونرجو من الله ألا يجعلنا من بني اسرائيل المغضوب عليهم وهل كان الغضب عليهم إلا نتيجة أنهم عرفوا وحادوا، أو بسبب جهلهم فأصبحوا من الضالين، فالأول دواؤه أن يتعلم فإذا علم عليه أن يعمل بما علم، ودواء الضالين أن يبذلوا وسعهم في العلم فيتعلمون من أمور دينهم ما يقيم أود حياتهم على أمر الله.
ومما يستنكره الله تعالى أيضا على بني إسرائيل سلوكياتهم المعوجة والتي لا توافق فيها بين أقوالهم وأعمالهم قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة: آية44]. فلو أننا تفكرنا بهذه الآية وغيرها من كلام الله تعالى لفررنا من كثير من أعمالنا فرارنا من الأسد.
وفي خضم حياتنا وفي طريق سيرنا إلى الله وهذا الطريق شئنا أم أبينا قد كتب علينا أن نسلكه منذ بلوغنا فإما أن نسلكه بكامل تسليمنا وقبولنا أو نسلكه سلوك العبد الذي يساق بالسياط وشتان بين عبد آبق وبين عبد كل همه أن يعيش وفق مراد سيده مشيئته من مشيئة مولاه لا يخالف له أمراً وإن حدث وخالف عاد إليه ذليلا يلتمس العفو والغفران، ووسط خطوب أحداث حياتنا وقد اختلط الغث بالسمين علينا أن نراعي الاتي:
شتان بين عبد آبق وبين عبد كل همه أن يعيش وفق مراد سيده مشيئته من مشيئة مولاه لا يخالف له أمراً وإن حدث وخالف عاد إليه ذليلا يلتمس العفو والغفران
أولا: في خضم ما يعانيه المسلمون اليوم ووسط اشتداد الهجمات أن يتيقن كل واحد منا بأنه على ثغرة من ثغور الإسلام وعلينا أن نسعى جاهدين لتقليل وسد الثغرات التي يحاول العابثون والمتربصون أن يتسللوا منها، فيحرص كل واحد منا على ألا يؤتى الإسلام من قبله، فلا نكون سبباً في فتح باب يتسلل منه المشككون الذي يلبسون على الناس أمور دينهم.
ثانيا: أن نتوقف عن الحكم على الإسلام من خلال تصرفات أتباعه ولو كانوا قمة في الالتزام فنحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، فمن أراد الاتباع فعليه بالقرآن والسنة، فأفعال الناس إطلاقا لم تكن هي الشاهد على صحة أمر أو بطلان آخر .
ثالثا: لا تجعل أخطاء الآخرين مبرراً لأخطائك وذنوبك، لقوله تعالى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [سورة القيامة: أية14].
رابعا: اشتغل بعيوبك عن عيوب الآخرين وابك على خطيئتك فوحدك من يحاسب عليها، واحذر أن تنتهج نهج بني اسرائيل فتقول ما لا تفعل وتأمر الناس وتنسى نفسك.
خامسا: تذكر، كل بني آدم خطاء ولو شاء الله لخلقنا معصومين عن الخطأ ولكن من كمال العبودية أنك تخطئ فتذل على باب مولاك وتنيخ مطيتك وتوقن أنه لولا توفيق الله لك لما أحسنت ولولا رحمته بك لهلكت، ولكن جعلك تخطئ فتتوب فيتوب عليك لتعلم أن لك رباً رحماناً رحيماً، بعباده رؤوفٌ عفوّ ٌكريمٌ، وإياك أن تنظر لصغر ذنبك وإنما انظر لعظمة وجلال من عصيت فرب صغيرة مع الإصرار صارت كبيرة فأهلكتك، وكم من كبيرة أورثت في قلب صاحبها ندماً وذلاً فألزمته باب مولاه باكياً راجياً خاشعاً ففرح الله بتوبة صاحبها فرحاً يليق بعظيم شأنه وجلال قدره.
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا الله.
(المصدر: موقع بصائر)