مقالاتمقالات مختارة

الدين الإبراهيمي الجديد (2)

الدين الإبراهيمي الجديد (2)

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لا يكون الانتساب لأصحاب المنهج الربانيّ إلا بشيء واحد، لا يضعفه تَفَرُّده ولا يقويه اجتماعه بغيره: “الاتباع”، فمن اتبع النبيّ أو الوليّ فهو منه، ومن لم يتبعه فليس منه ولو كان يتصل به ببنوة أو أبوة أو غير ذلك مما يكون عادة سببا في قوة الرابطة ومتانة العلاقة والصلة، فإبراهيم عليه السلام كان أبوه عدواً لله؛ فاعتزله وتبرأ منه، ونوح عليه السلام كان ولده مع الكافرين فلم يكن من أهله؛ لأنّه عمل غير صالح، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان عمّه أبولهب كافرا محاربا لدين الله فَتَبَّتْ يدُه وتَبَّ، ولم يغن عنه ماله وما كسب.

   كذلك – وبقوة القانون الذي لا يحابي أحداً – أهل الكتاب من اليهود والنصارى لمّا غيروا وبدلوا وكفروا بمن بشرت به كتبهم؛ لم ينفعهم اتصال نسبهم بإبراهيم عليه السلام، وكان لابد من بيان ذلك؛ فنزل القرآن: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)) (آل عمران: 65-68).

   ومع ظهور ذلك ووضوحه لم يتوقف أهل الكتاب عن الادعاء الأجوف ولم يكفوا عن المزاعم الخاوية، وما فتئوا يخططون ويرتبون لتحقيق ما ظلوا يحلمون به أزمانا مديدة: “وعد إبراهيم” فها هم يواصلون الادعاء، ويستدعون من التوراة المحرفة نصوصاً تدعم موقفهم المتهاوي، فَمِنْ قَبْلِ إبراهيم بأزمان يأتي الوعد الذي يُحْرَمُ منه العرب رأساً؛ بزعم أنّهم ولد كنعان المغضوب عليه من جده نوح، فهذا سِفْرُ التكوين يُسْفِرُ عن الادعاء الفارغ: (وابتدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا، وشرب من الخمر، وسكر، وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما … فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبدًا لهم) (سفر التكوين الإصحاح 9).

   ثم يستمر سفر التكوين في تكوين الفرية وتلفيقها: (قال الرب لإبرام اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أُريك … وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض وظهر الرب لإبرام وقال: لِنَسْلِكَ أُعطي هذه الأرض) (سفر التكوين الإصحاح 12)، وزيادة في سبك (السيناريو) الأليم: (وأُعْطِي لك ولنسلك من بعدك أرضَ غربتك، كل أرض كنعان ملكًا أبديًا) (سفر التكوين الإصحاح 17).

     ولا يتوقف قطار الأسطورة عند إبراهيم حتى يجاوزه ليمتد إلى يعقوب (إسرائيل) فهو الوريث الطبيعي لإبراهيم عند بني إسرائيل؛ الوريث للأرض المباركة ولرقاب العبيد من (أولاد كنعان!): (يستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين) (سفر التكوين الإصحاح 27)  (أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ، ويكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبًا، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع لقبائل الأرض) (سفر التكوين الإصحاح 28).

   هذه الخرافات لم تمت مع ما مات من أساطير الأولين، ولم تلفظها الحضارة المعاصرة مع ما لفظته من أديان ومذاهب اعتبرتها بحق أو بباطل منافية للعقل وللمنهج العلميّ، وإنّما على العكس عاشت وانتعشت، وصارت وقودا لصحوة دينية إنجيلية أصولية لم تقف عند حدّ الانسياق مع خزعبلات القساوسة المرضى نفسياً من أمثال بات روبرتسُون وجيمي سواغرت وجيري فولويل وهول لندسي، وإنّما تجاوزت ذلك إلى مستوى اعتناق زعماء سياسيين كبار لفكرة نهاية العالم بحرب هرمجدون المزعومة، وهي فكرة توراتية في الأصل تبناها في الواقع المعاصر سبعة من زعماء أمريكا وتحدثوا عنها في مناسبات مختلفة، منهم ريجان الذي قال لرئيس الإيباك: “حينما أتطلع إلى نبوؤاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلا عمّا إذا كنّا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدري إذا كنت قد لاحظت مؤخرا أيا من هذه النبوؤات، لكن صدقني إنها قطعا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه”([1]).

   لقد صار لدى قطاع عريض من المثقفين الأمريكان هوس بحرب “هرمجدون” التي بنيت في الخيال البروتستانتي على نبوءات توراتية؛ ففي سبعينيات القرن المنصرم صدر كتاب ل “هول ليندسي” بعنوان “نهاية أعظم كرة أرضية” بيع منه 18 مليون نسخة وظل على مدى السبعينيات يحتل المركز الأول في مبيعات الكتب بأمريكا، هذا الكتاب يؤصل بنصوص توراتية لنظرية نهاية العالم في معركة هرمجدون، ومن قراء هذا الكتاب الرئيس الأمريكي ريجان([2]).

   ومردّ ذلك كله إلى جذر الصراع: الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام والأحقية بالوعد الذي أعطاه الرب له ولذريته من بعده، ولئن كان اليهود هم الأولى بخوض هذا الصراع لكون النبوءات توراتية في الأصل، فإنّ البروتستانتية قد مهدت الطريق لتقارب مسيحي يهودي يجعل الغاية مشتركة والمصير واحد؛ لكونها دعت المسيحيين إلى العودة إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ومن هنا نشأت الصهيونية المسيحية بمحاذاة الصهيونية اليهودية؛ فالكل يؤمن بضرورة قيام دولة إسرائيل واستمرارها، والكل يؤمن – وإن اختلفت التفاصيل – بقدوم المسيح في القدس، والكل يؤمن بهرمجدون كمعركة فاصلة تبيد “الكفار” من المحمديين وغيرهم؛ نحقيقا لوعد الله لإبراهيم ولذريته من بعده.

   وعندما هاجر الأوربيون إلى أمريكا الشمالية كان في طليعة المهاجرين البروتستانت من لوثريين وكلفنيين ومتطرفين من البيوريتانية، واعتبروا أنّ خروجهم إلى هذه الأرض الجديدة كخروج موسى إلى الأرض الموعودة، كما اعتبروا أنّ أمريكا هذه محلّ عناية الربّ؛ لذلك أرادوا أن يحكمها قانون الرب من خلال تطبيق شريعة الكتاب المقدس التي تمثل سيادة الربّ، ولهذا السبب قامت المعارك التي دارت بين توماس جفرسون والكليفيين لكون جفرسون يرى أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الجميع، ويبقى الناس أحرارا في دياناتهم، وأن هذا التنافس سيقوي الدين ويقوي الدولة أما تدخل الكنيسة في الدولة فإنّه يفسد الكنيسة والدولة معا، واتهموه بالإلحاد والزندقة([3]).

   وبرغم قيام الدولة الأمريكية على دستور لا يعطي الدين حقا في الحكم؛ فإنّ تأثر القرارات الحكومية بالخطاب الأصولي الصهيوني ظل بارزا ومستمرا، ولاسيما مع صعود اليمين المحافظ، مما جعل من أمريكا الداعم الأكبر والظهير الأبرز للكيان الصهيونيّ، الذي ظل يتوسع في بناء المستوطنات وفي الاستيلاء على الأرض العربية في اتجاه تحقيق الحلم الكبير لدولة إسرائيل من النيل إلى الفرات، ولا سيما بعد 1967م.

   غير أنّ المعادلة تغيرت نسبيا مرتين؛ مما اضطر الأفعى الصهيونية لتغيير جلدها مع بقاء سمها، الأولى بعد حرب أكتوبر 1973م، حيث أحست إسرائيل بعدها بالخطر على وجودها؛ إذ بغض النظر عن نتائج المعركة والإحصاءات الرقمية للخسائر من الجانبين فإنّها كانت موجعة للإسرائيليين ومحطمة لغرورهم، وهذا المتغير جعل الصهيونية تفكر بطريقة أخرى، تتلخص في التراجع عن خطة التمدد الأفقي بكسب أرض قد تكلفها مواجهات كثيرة في مقابل التغلغل في أحشاء الكيانات العربية والاستحواذ على صناعة القرار؛ وصولا إلى تربع إسرائيل على عرش المنطقة، وذلك عبر عمليات السلام ومن بعدها التطبيع، وقد بدأت المسيرة من كامب ديفيد ثم مرت بمدريد لتصل بعدها إلى أوسلوا ثم لينطلق قطار التطبيع الذي لم يتوقف إلى الآن، وها هو يدخل محطات لم يكن العقل يتخيل أنّه سيطرق بابها يوماً.

   والمتغير الثاني هو الانقلابات التي وقعت بعد موجة الربيع العربيّ، والتي أهلت المنطقة لتفكير جديد، ربما كان في الماضي مجرد أفكار مسطرة في أبحاث، لكنه اليوم صار حديث الساعة، وهو الديانة الإبراهيمية وإنشاء الولايات الإبراهيمية المتحدة، ولعل هذا المشروع هو ذروة ما يسمى بصفقة القرن.

   يقوم المشروع على إدارة المشترك بين الأديان الثلاثة؛ بما يجعل من نصوص العهد القديم المتعلقة بإبراهيم ووعده محور التدين، اعتماداً على أنّ إبراهيم عليه السلام يمثل الجذع المشترك الذي يربط الأديان السماوية الثلاثة، وبما يجعل من إسرائيل القلب النابض والعقل المفكر لدولة اتحادية كونفدرالية تشمل المنطقة العربية مع إيران وتركيا، وتدين كلها بالدين الجديد “الإبراهيمية”؛ وبذلك تصبح المعتقدات اليهودية محل اتفاق من الجميع، وتصير دولة إسرائيل قمة الهرم ورأس الحكم، وهذا غاية ما يتمنى أصحاب الحلم الكبير بمملكة سماوية توراتية تجعل من العرب عبيدا لأبناء إسرائيل شعب الله المختار.

   وقد انطلق المشروع من جامعة هارفارد إلى تعاون مشترك بينها وبين جامعة فلوريدا، ثم إلى مراكز أبحاث تابعة للسي أي إيه على رأسها معهد “راند” وبرعاية واحتضان من عائلات ثرية كعائلة روكفلر وجهات سيادية أمريكية كوزارة الخارجية، وسيبدأ المخطط بتدويل مسار إبراهيم وجعله مسارا سياحيا يمر بدول عديدة: (العراق – تركيا – سوريا – فلسطين – مصر – الحجاز) وهو المسار الذي يحكي تاريخيا هجرة إبراهيم عليه السلام، وقد تحدث باراك أوباما عمّا أسماه الدين الإبراهيميّ العالميّ، كما أنّ ترامب سمى صفقة القرن الاتفاق الإبراهيميّ، هذا المشروع لم يعد خافياً على المتابعين لهذه الشئون، وقد كتبت عنه بالتفصيل الدكتورة هبة جمال الدين مدرس العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشئون الخارجية في بحث لها لخصته في مقال على موقع “التقارب نيوز” وهو مشروع يصطدم مباشرة مع جملة عظيمة من محكمات الدين وثوابت الملة (يتبع).


([1]) البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني – د. يوسف حسن – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت لبنان – ط أولى 1990م صـــــ172

([2]) راجع: النبوءة والسياسة – جريس هالسل – ترجمة محمد السماك – دار الشروق – القاهرة – ط ثانية 2003م – صــــ 18

([3])راجع: الدين في السياسة الأمريكية – فرانك لامبرت – ترجمة عبد الكريم موسى أبو البصل – مكتبة نمو للنشر – ط 1436ه صــــ 27-29

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى