عربي21 – أحمد أبو ارتيمة
في كتاب جديد له، يرى الأكاديمي المصري الدكتور جاسر عودة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وأحد رواد الفكر المقاصدي، أن الأحداث في الوطن العربي منذ 2011 علمت أن التغيير المنشود لا بد أن يمر بتغيير في بناء الإنسان نفسه وتغيير في بناء الدولة نفسها، وأن الإصلاح السياسي الجزئي الذي قد تنتجه أي ثورة في أعلى سلم السلطة لن يصمد دون إصلاح تعليمي وأخلاقي وثقافي واجتماعي يؤازره ويحافظ عليه.
وهذا، وفق المؤلف، ما يجعل الحاجة ملحة لثورة فكرية وأخلاقية وحضارية تتجذر أولا في المجتمع، ثم تنشأ على أساسها مؤسسات مدنية تضمن استمرار أي تغيير سياسي حقيقي.
وفي الكتاب الذي يحمل عنوان “الدولة المدنية.. نحو تجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة”، لا يقتصر نقد الكاتب للأنظمة الحاكمة، بل يسلط الضوء أيضا على الخلل الذي يعاني منه مفهوم الدولة. فـ”الدولة العربية هي في أحيان كثيرة مجرد منظومة صممت فقط لتخدم جماعات مصالح خطيرة وقبائل معينة محتكرة للمال والسلطة أو طبقات أمنية وعسكرية معينة في كل دولة”. وهذا يستدعي برأي الكاتب مراجعة للتعريف الحدودي الضيق السايكسبيكي (سايكس بيكو) للدولة الوطنية العربية، والذي ضيّع المصالح المصيرية المشتركة بل والأخلاق والقيم في تعامل كل دولة عربية مع الدول الأخرى.
وفي هذا الصدد، ينتقد الكتاب التعامل مع مفهوم الدولة الراهن بأنه مفهوم طبيعي غير قابل لإعادة التعريف ولا التطوير، وتعوُّد الإنسان العربي والمسلم على تعريف نفسه بذلك الكيان السياسي الوطني المؤقت؛ الذي هو وليد العقود القريبة الماضية ليس إلا.
ويرى الكاتب أن هناك فرقا بين الوطن والدولة. فانتماء الإنسان لوطن هو فطرة إنسانية أصيلة، لكن “الخبثاء” يقومون بتسييس الانتماء الوطني؛ بمساواته بالانتماء لسلطة دولة معينة يحكمها نظام سياسي معين.
ويرى عودة أن تجاوز الاستبداد العسكري والأمني بالقرار السياسي، واحتكار السلطات لمجرد التحكم في وسائل العنف الرسمية، والخلط الخطير بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية والإعلامية والمجتمع المدني، بل وبين سلاح الدولة وسلاح العصابات، يتمثل في صيغة الدولة المدنية التعددية.
ويستحضر في هذا المضمار مصطلح “دولة مدنية ذات مرجعية مقاصدية”، مفسرا المدنية بأنها تتمثل في التخلص من الاستبداد العسكري والقبلي، ثم بناء تعددية سياسية شاملة تشمل كل التيارات السياسية وكل الحركات والهيئات المدنية، وتعطي أولوية للسياسات التي تهدف للصالح العام وتحقيق العدالة الاجتماعية. أما المرجعية المقاصدية فيفسرها بالمبادئ والقيم والأهداف التي تمثلها مقاصد الشريعة الإسلامية.
يؤكد الكاتب على قدرة الإسلام كمنهج حياة وفكر إنساني وهوية حضارية على تقديم الكثير في بناء الوعي والإصلاح المنشود، ثوريا كان أم تدريجيا، عربيا أم إسلاميا أم عالميا.
وينبه المؤلف في الوقت ذاته؛ إلى الهوة الواسعة بين فقه السياسة الشرعية في الكتب التراثية وبين واقع المسلمين الحضاري والسياسي المعيش اليوم، وهو ما يقتضي برأي الكاتب؛ ضرورة المراجعة والتجديد حتى نتمكن من المقاربة الإسلامية الأخلاقية السليمة للموضوعات المعاصرة، “إذ لا يزال حديثنا السياسي الإسلامي هو عن مفاهيم مثل دار الإسلام وأهل الحل والعقد والبيعة وأهل الذمة والخوارج والفرق وغيرها من النظم التي انتهت تاريخيا”.
وينتقد الدكتور عودة المنهج الحرفي في الاستدلال بالنصوص الشرعية، وهو المنهج الذي يستند إليه أغلب من يرفضون التعددية السياسية مبدئيا، “بل إن بعض من يؤيد التعددية السياسية استنادا على المنهج الحرفي نفسه هو أيضا غير مقبول؛ لأنه يعزز منهج تفكير لا يتسق مع مقاصد وقيم الشريعة الإسلامية كمرجعية وفلسفة”، وهو المنهج الذي يعتبره الكاتب ضرورة فكرية واجتماعية من أجل تعددية حقيقية راسخة وليست عارضة براغماتية مؤقتة.
وفي هذا الصدد يشير عودة إلى عدم وجود نصوص شرعية مباشرة في القرآن أو السنة تحدد ملامح نظام سياسي إسلامي معين ولا آلياته، ويُعزي المقصود الشرعي من هذا السكوت التشريعي إلى أن يظل الميدان مفتوحا للاجتهادات المتجددة، كل يبني رأيه على تجربته الخاصة ووعيه العام بمجريات الأحداث السياسية الآنية والتاريخية.
ويرفض عودة أيضا المنهج التبريري في التعامل مع الواقع السياسي، مثل من يؤولون مقصد الإسلام بأنه الاشتراكية، والشورى بأنها النظام الديمقراطي. لكنه يستدرك بأنه لا يقصد رفض النظام الديمقراطي بالضرورة، إنما يرفض منهج تبرير المفاهيم والنظم واعتبارها حقائق مسبقة تقتضي تأويل نصوص الإسلام نفسه من أجل شرعنتها، لا مجرد وسائل لغايات قد تدرك بوسائل أكثر كفاءة في المستقبل.
يضرب الكاتب مثالا على خطورة المنهج التبريري بكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، “فهذا الكتاب بدأ من الواقع لا من مبادئ الشريعة، وقدم تبريرات هدفت إلى تدعيم نظم الإمارة في زمانه. فبرر الحكم القبلي المتوارث عند العباسيين، وأوَّل نصوص الكتاب والسنة لتوافق ذلك الحكم، وأعطى الخليفة الحق في “الاستبداد بالأمر”. ورغم أن اجتهادات الماوردي كان لها زمانها وظروفها، إلا أنها تعتمد الآن كمرجع إسلامي أساسي في السياسة الشرعية، رغم أن أفكاره لا تحقق العدالة الاجتماعية ولا الحكم الرشيد، ولا سلمية تداول السلطة، ولا سيادة القانون بأي درجة مقبولة في الواقع المعاصر”.
لا يكتفي الكتاب بالدعوة إلى الاقتباس من النظام الديمقراطي الغربي، بل يدعو إلى تمحيص المفاهيم والنظم، وأن يكون لدى الأمة الإسلامية الوعي الكافي لتعرف ما تأخذ وما تطرح بما يحافظ على المقاصد الإسلامية.
ويتعرض الكتاب إلى “إشكالية الفتاوى السياسية” داعيا إلى تطوير الفكر الإسلامي الخطابي من الحلال والحرام إلى المصلحة والمفسدة، أو الصواب والخطأ، وهو أولى في العمل السياسي “حتى لا نحمِّل الدين ما ليس منه”. ولذلك، “فلا يصح أن يُفتي المفتون بالوجوب أو الحرمة على أعمال مثل إنشاء حزب، أو الاشتراك في تظاهرات معينة، أو الدخول في انتخابات معينة، أو التوقيع على بيان، أو التصويت لصالح مرشح، مما يعني الإثم أمام الله والعقوبة الأخروية”.
وفي سياق نقده للفتاوى السياسية، يذكر المؤلف الخلاف الفقهي إن كانت الشورى ملزمة للحاكم أم معلمة. ويرى أن الواقع السياسي المعاصر ونظم الدول على اختلاف أشكالها لا يحتمل أن تكون الشورى مجرد مندوب من المندوبات أو واجب من الواجبات، بل هي أساس النظام في الدولة، والذي لا بد أن تفصل وتنظم لتحقيقه لوائح على مستويات عديدة.
ويقول الكاتب: “العبرة في مسائل المبادئ السياسية بالمعاني والمصالح، وليست بالألفاظ المجردة عن السياق للأدلة الجزئية، ولو كانت قرآنا أو حديثا، ولا بتكرار وقائع تاريخية ليست ملزمة شرعا، بل العبرة بصلاحية الحكم في حفظ النظام العام وتحقيق مصالح الناس ومقاصد الشريعة العليا. إذ كيف يمكن أن يتحقق العدل ويستقر نظام الدولة في الواقع المعاصر الفعلي إذا كان هناك أدنى مفر للحاكم أن يستبد برأيه الفردي دون رأي المحكومين أو ممثليهم؟”.
ويدعو الدكتور عودة إلى تعددية شاملة؛ تقوم على أساس تمكين الأحزاب المدنية، وهو بهذا الصدد لا يتفق مع التعريف الذي يماهي بين السياسي والحكومي، لأن “احتكار السلطة في يد أصحاب الدولة هو منكر يفوت المقاصد الشرعية ومصالح الأمة”.
وعوضا عن هذا الاحتكار، يدعو الكاتب إلى إعادة صياغة مفهوم السياسي ليشمل القوى المدنية الشعبية، فبهذه الصياغة يُسهم التعريف السياسي من تمكين الأمة وهي الأصل، ومنحها السلطات اللازمة أفرادا ومؤسسات، حتى تكون سلطة أعلى من سلطة موكليها في الحكم، وبذلك يقتصر دور الأحزاب الحكومية على الإدارة العليا للبلاد في مسائل الدفاع والأمن والنظام العام، أي تقترب الدولة مما يسمى “الدولة الصغيرة” وهذا يفتح الباب، وفق الكتاب، للتشكيلات والمؤسسات الاجتماعية في النمو والتطور واستيعاب مساحات أوسع من العمل العام، “دون كلفة العمل الانتخابي الذي قد يدفع الأحزاب الحكومية إلى التنازل عن بعض المبادئ لإرضاء جمهور الناخبين أو تكوين كتل المصالح المادية الضيقة”.
ويرى المؤلف أن إشراك المؤسسات الاجتماعية في تعريف “السياسي” يخرج بالتعددية السياسية عن تعددية النخبة أو الصفوة من أصحاب المصالح، ويحمل الأمة المسؤولية في النهوض والتطور، ويخفف من تمركز السلطات في يد الدولة ويسمح بالتنوع المدني إلى أقصى حد.