الدولة العثمانية وانحراف عن منهج المؤسس
بقلم راضي شرارة
كثيرا ما كان يلح على خاطري سؤال، وأظن أنه ألح على كثير منكم، مع حالة الضعف والتشرذم الحالي في واقع الأمة الإسلامية، لماذا ضعفت الدولة العثمانية مع قوة بدايتها؟ وكيف أخذت بأسباب الدين والدنيا في البداية؟ وهل تركت ذلك في نهايتها؟
هذا السؤال يحتاج إلى إجابة كبيرة جدا وموسعة ولا يقتصر على بضعة أسطر، ولقد بحثت كثيرا في ذلك الباب لكي أصل إلى مواطن الضعف في الدولة، والتي يراها البعض في صورة عناوين ورؤؤس أقلام،
لكن الحقيقة هي، ضعف متغلغل في كل مفاصل الدولة، يشمل كل من: السلطان، والوزراء، والقصر، والجند، والخزانة، والعلماء، حتى الرعية، وتكالب الأعداء في الداخل والخارج،
لكن أهم عنصرين عندي هما :
القوة العسكرية للدولة، والعقيدة الذاتية للدولة،
متى فقد أحدهما فقد الآخر، ومتى انحرف أحدهم أثر في الأخر،
كانت القوة العسكرية في العصور الماضية أساس بناء الأمم
ومع ظهور الإسلام، أصبحت العقيدة الإسلامية مع القوة العسكرية مقومات بناء الدولة الإسلامية،
لقد بدأت الدولة العثمانية فتيه وقوية، وكان هدفها حماية الثغر الإسلامي مع الروم، منذ أن كانت تعطى الولاء للسلاجقة الذين كانوا بدورهم يعطون الولاء للخليفة العباسي في القاهرة، والذي كانت تحميه الدولة المملوكية،
وكان هذا طبيعيا في أواخر الخلافة العباسية بعد انفصال أمراء المقاطعات، وأطلقوا على أنفسهم ألقاب سلاطين، وأصبحوا هم الحكام الفعليين،
لقد أطلق عثمان بن أرطغرل على نفسه لقب سلطان بعد سقوط (قونيا) عاصمة السلاجقة في يد المغول،
وبدأت الفتوحات الجديدة تنسب له وللعثمانيين من بعده،
وأعطى الولاء للخليفة العباسي في القاهرة،
كان السلطان عثمان الأول، قوى، وشجاع، وكان صاحب عقيدة صحيحة على الكتاب والسنة، ولم تصل إليه الانحرافات، التي وصلت إلى سلالته من بعده،
وهذا جزء من وصيته على فراش الموت لولده،
(يا بني: إياك أن تفعل أمرًا لا يُرضي الله عز وجل، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فإنهم سيدلونك على الخير)
وعلماء الشريعة هنا لها دلالة قوية مغايرة للمنهج الصوفي واعتماده على ما يسمى (بأهل الحقيقة)،
انتشر المنهج الصوفي في العالم الإسلامي منذ العصر العباسي، ولم يكن هذا المنهج بعيد عن صحيح الدين في أول عهده، بل كان يحث على الزهد والورع والاقتصاد في المباحات، وكان ينتسب إليه بعض علماء ذلك الزمان،
مثل الجنيد بن محمد، وأبي سليمان الداراني، وأحمد بن أبي الحواري، وغيرهم ممن عرف بالصلاح والعبادة، وأهل التصوف الأول كانوا على الكتاب والسنة،
يقول: الجنيد “علمُنا مضبوطٌ بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقّه، لا يُقْتَدى به”
ولك أن تراجع قول الإمام أحمد في الصوفية وقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم من أئمة أهل السنة وهم أيضا من رفضوا انحرافات الصوفية من الغلاة والمبتدعة، أمثال الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي وغيرهم،
لجأ ابن عربي إلى قونيا عاصمة الدولة السلجوقية بعد أن قام عليه علماء مصر والشام، وكذلك أقام بها الرومي والتبريزى وهى تحوى رفاتهم،
الدولة العثمانية كانت دولة سنية، تحافظ على المنهج السني وتدافع عنه، وكانت تتخذ المذهب الحنفي مذهبا رسميا لها، وكانت تتخذ المنهج الماترويدي في العقيدة، خلافا للأشاعرة وأهل الحديث،
وكان للماترودى مدرسة تقول: (إن مصدر النبوات هو العقل وإن المعرفة واجبة بالعقل قبل ورود السمع)
وكانوا لا يرون بالتقليد وهي مدرسة لها روادها في العالم الإسلامي كله،
لكن إذا انحرفت الدولة عن الأساس الأول هنا يأتي الضعف، وينتشر المنهج المنحرف وتظهر البدعة التي تقضي على ما بقي من الدولة وخاصة إذا أصبح الانحراف في رأس السلطة أو القوة العسكرية التي تحمى الدولة،
لقد أسس أورخان الأول ابن عثمان الجيش الانكشاري، وهو الجيش العثماني القوى الذي كان يهدد أوربا كلها، وقيل عنه ما قيل، ونسب إليه من الباطل الكثير، مثل أخذ الخمس من أطفال البلاد المفتوحة عنوة لكي ينضموا إلى الجيش،
وكان هذا الجيش على أحدث النظم في ذلك الزمان من التنظيم والسلاح والقيادة،
لكن مثله مثل كل الجيوش، عندما تترك راية الجهاد فإنه يدب فيه الحرص على المغنم، وامتلاك الدور، والأراضي، وزيادة المرتبات، والمنافع الشخصية بعيدًا عن مصلحة الدولة، لقد كان أساس جيش الانكشارية أن ولاءه للدولة فقط ولا علاقة له بالسياسة، وكانت الدولة صغيرة تستطيع أن تحمى نفسها وحدودها،
لكن حين تسلمت راية الخلافة بعد الاستيلاء على الشام ومصر وهزيمة الدولة المملوكية، تم التنازل من الخليفة العباسي إلى السلطان سليم الأول الذي بويع بالخلافة، وكان أول سلطان عثماني يتولاها، ونقلت من القاهرة إلى الأستانة (إسطنبول حاليا) والتي فتحها من قبل جده السلطان محمد الفاتح، كان أيضا سليم الأول من أعظم الخلفاء، وقضي على التمدد الصفوى، راجع ما كتبه عنه الشيخ على الطنطاوي رحمه الله،
استمرت الدولة العثمانية ستة قرون يمكن تقسيمها إلى:
¤ 200 سنة تأسيس وإنشاء وتوسع،
¤ 200 سنة قوة وازدهار وتوسع وبداية الخلافة،
¤ 200 سنة ضعف وانحسار وانتهاء الدولة،
لقد كانت الدولة العثمانية تحكم بالنظام الإسلامي، وكانت تمثل ذلك النظام خير تمثيل، ولم تمثل الدولة نظام حكم تركي عنصري كما يقال عنها، وينسب إليها، وهذا يمكن معرفته من الذين كتبوا عن الدولة العثمانية من الأوربيين، ومن الأحداث والثورات التي قامت ضدها،
اتساع رقعة الدولة له متطلبات خاصة يعرفها القائمون عليها فإذا تم الإخلال ضاعت الدولة،
والمسلمون منذ نشأة دولتهم في المدينة المنورة تعلموا ذلك، فكانوا يرسلون الجيوش إلى حدود الشام، وقد انشأوا دواوين الجند ونظموا الجيوش ونظموا العطايا والرواتب،
ولم كبرت الدولة واتسعت وفتح العراق والشام ومصر،
نقلت العاصمة إلى الشام مع الأمويين لأن المدينة لم تعد لتتحمل اتساع الدولة، ثم حدث مع العباسيين وكانت عاصمة ملكهم بخراسان ثم بغداد ثم سامراء ثم القاهرة حتى جاء العثمانيون ونقلوها إلى الأستانة (اسطنبول)،
لقد اتسعت الدولة العثمانية بما لا يكفى حمايتها من كل جانب في ثلاث قارات ولم تكن تتوفر وسائل النقل والاتصال الحديثة، فكانت مشقة الحفاظ عليها أمر صعب، والسيطرة على الجند أمر صعب، وكان لابد من إنشاء جيش حديث في بداية القرن التاسع عشر بعد أن تقدمت أوربا، واحتلت أراضي العالم الجديد، وملكوا البحر، واستخدمت أدوات جديدة، فكان لابد من ذلك،
كانت محاولة أولى في عهد السلطان سليم الثالث لإلغاء الانكشارية، وإنشاء جيش حديث لكن علم الانكشارية واغتيل السلطان سنة 1808، وخلفه السلطان محمود الثاني الذي تعلم الدرس، ورتب للأمر، وأخذ موافقة شيخ الإسلام على ذلك، وتحقق له، وسحق تمرد الانكشارية عام 1826، وقتل منهم 6 آلاف، وتم تطوير الجيش على النسق الأوربي بخبرة فرنسية، لكنه كان ضعيف حتى أنه هزم أمام جيش محمد على والى مصر المتمرد على السلطان بعد أن رفض السلطان إعطاءه مكافأة عن حرب اليونان، وقد لجأ السلطان محمود إلى روسيا وأبرم معها معاهدة دفاع مشترك سنة 1827 هي معاهدة اكرمان (وهى استعانة بالكافرين)، ذكرت ذلك لكي ترى مستوى الضعف داخل الدولة ولدى السلطان، ولدى القوة العسكرية،
الانكشارية قبل القضاء عليها كانت تتبع طريقة صوفية هي (البكتاشية) وهى تنسب إلى محمد بن بكتاش الخرسانى النيسابوري وكانوا يسمون أبناء الحاج بكتاش، والدولة العثمانية أعلنت رسمياً في عام 1000هـ/ 1591م، ضم الطريقة البكتاشية إلى الأورطة التاسعة والتسعين من أورطات الجماعات، وأعطت بيرها (شيخها الأعظم) منصب الشربجي فيها. وكان عمل هؤلاء الدراويش الصلاة لنصرة الدولة والعناية بأسلحتها. وكانوا يسيرون أمام آغا الانكشارية في العروض العسكرية، مرتدين اللون الأخضر، يتقدمهم رئيسهم مردداً بأعلى صوته «كريم الله» ويلبي الآخرون من ورائه «هو»
لقد ذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري الكثير عن الدولة العثمانية، يجب العودة إلى مراجعته ومعرفة ما حدث للدولة.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)