الدولة العادلة … التصرّف في الأموال منوط بالحق والنفع
بقلم د. حسن خليفة
استكمالا للجزء السابق من هذا الموضوع ذي الأهمية القصوى اتصل بمسألة الأموال والتصرّف فيها، نتحدث ـ مستأنسين بما ورد على نحو أصولي شرعي(*) ـ عن الوجه المطلوب في التصرّف في الأموال، ثم نعلّق بما يستوجب التوقف عند هذه المسألة من نواح عدة، تأمينا لمستقبل بلدنا، بخصوص هذه المسألة وبيانا للحقائق المتصلة بالأموال ودورها الكبير في تحقيق العدالة والمساواة والرخاء والازدهار، وتأمين المستقبل للأجيال القادمة .
لقد أشرنا من قبلُ أنه يدخل في باب أكل المال بالباطل ـ على سبيل المثال ـ المكاسب الناجمة عن الغصب، والتدليس، والخداع، والغش، والرشوة، والميسر، والإلجاء، والزور… ولو أردنا تنزيل هذه الوجوه الخاطئة المنحرفة في كسب وإكساب المال على الأموال التي أُكسبت واكتُسبت في كثير من القطاعات التجارية والاقتصادية والمالية في بلادنا لوجدنا أكثرها لا يخرج عن هذه الصيغ غير المشروعة، فالتدليس، والغصب، والرشاوى، والخداع كانت أكثر الأساليب التي استخدمت في إيجاد تلك الطبقة المترفة من “الأثرياء الجدد” ، كما سبقت الإشارة. وإن ما يُتداول في وسائط الإعلام عن الطرق الملتوية التي اعتمدها هؤلاء الأثرياء الجدد لتجعلنا نقرّ بأن “الفساد” بلغ منتهاه في المجال المالي. ولا يغيبنّ عنّا ما وصل إليه الحال؛ حيث أصبح هؤلاء الفاسدون المفسدون من أصحاب الأموال (المحرّمة) هم من يعيّن المسؤولين من الوزير إلى الغفير…والأمثلة عن هؤلاء المتنفذين بالمال أكثر من أن تُعد أو تُحصى. ويستوجب الأمر هنا مراقبة مسألة المال مراقبة موضوعية، وتشجيع اكتسابه بالطرق المشروعة، والضرب بيد من حديد على غيرها من الطرق الخاطئة .
والمهمّ في الأمر هنا هو أن ننص على الوجه السليم في مجال المال ونعني به وجه المال المكتسب بحق واستحقاق، وهذا المال المستحقّ ـ بدوره ـ لا يجوز لأصحابه أن يصرفوه ويستعملوه فيما لا نفع فيه، وليس لهم أن يستعملوه فيما يضرُّ، كما ليس لهم أن يجمّدوه ويعطلوه عن وظيفته، وهذا المعنى متضمن في الآيات الكريمة التالية :
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان).
{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء).
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ..}(النساء).
فالسفهاء ـ مثل القاصرين ـ يُمنعون من التصرف في أموالهم؛ لأنهم يفسدونها ويضعونها في غير منفعة أو في مضرة، وقد قيلت أقوال عدة في معنى السفهاء المقصودين في الآية، ولكن الإمام الطبري بعد استعراض تلك الأقوال كلها قال:”.. والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا، أن الله جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فلم يخص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتيّ سفيها ماله، صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى “(تفسير الطبري من سورة النساء).
وأورد الإمام البخاري هذا الحديث ـ وغيره ـ تحت عنوان ” باب ما يُنهى عن إضاعة المال، وقول الله تعالى:{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} و{إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} ..ومما ينبني على هذه القاعدة وخاصة وجهها الثاني قاعدة وجوب الإنفاق، فهذه متفرعة عن تلك، باعتبار أن إنفاق المال إنما هو تصرّف فيه وصرف له فيما ينفع، لأن عدم إنفاق المال مساو لإنفاقه فيما لا نفع فيه، فكلاهما جناية على المال وعلى وظائفه المتعددة .
وبغض النظر عن وجوه الإنفاق المحددة والواجبة شرعا، كالزكاة والجهاد ونفقة الأهل والأقارب، ونحوها، فإن الحديث ينبغي أن يكون عن المعنى الكلي وعن الحكم الكلي، وهو وجوب الإنفاق على وجه العموم والإطلاق؛ حيث أمر الله بذلك في قوله تعالى :{وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(الحديد).
وقوله تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ}(التغابن).
فالمغزى العام هو أن الإنسان أوتي الأموال والخيرات لينفقها لا ليمسكها، ويستعملها فيما ينفعه وينفع غيره، لا ليكون هو عبدا لها مستعمَلا في جمعها وحراستها، بل إن ملكية الإنسان للأموال إنما هي ملكية حق الاستعمال، فهو لا يملكها، وإنما يملك (حق استعمالها) وهذا واضح في الآية التي سبقت {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} وفي قوله تعالى:{ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }(النور). فالإنفاق مقرر ومطلوب بصورة مبدئية عامة، فضلا عن وظائفه الاجتماعية والاقتصادية، وفضلا عن الوجوه المعيّنة شرعا للإنفاق عليها .
ولو أننا استحضرنا هنا في نهاية هذه الإشارات ما يسّره الله تعالى لنا في الجزائر من أموال يمكن التعبير عنها بأنها “أنهار” من أموال سائلة وغير سائلة، والتي وصلت مبالغها إلى أرقام فلكية (نحو 1000 مليار دولارـ حسب أحاديث الخبراء وأهل الاختصاص)، لو استُخدمت تلك الأموال في مصارفها النافعة وفي وجوهها المستحقة، ولم يكن فيها إضاعة، وسرقة، وغشّ، وخداع لأمكن أن نتصوّر ما يمكن تحقيقه وتجسيده من مشاريع عملاقة ترقى ببلادنا إلى مصافّ الدول الراقية الكبرى، ولأمكن تصوّر كيف كانت البنية القاعدية من طرق، وسكك حديدية، وجسور، ومشافي كبرى، وغيرها من الهياكل، ستقفز بنا كدولة ووطن إلى مصاف الدول ذات الصدارة، كما هو واقع في عديد البلدان التي حافظت نخبتها الحاكمة على الأموال واستخدمتها في النافع من وجوه البناء والتشييد. ثم ـ من جهة ثانية ـ لو أحسنّا تصريف الأموال الموجودة عند التجار ورجال الأعمال وهيأنا البيئة المنتجة الآمنة وشجعنا على الصرف الجدي والمشروع للأموال لرأينا بلدنا في أفق آخر من آفاق الازدهار والتقدم، يتنعّمُ أهله بالخيرات والثروات والرخاء والاقتدار المعيشي والكرامة، ولما وجدنا هذه الظواهر المشينة من طبقات الفقراء والمساكين التي تتسع وتتمدد عاما بعد عام، ولما وُجدت عندنا هذه الصيغ البائسة من “القفة “و” الإعانات “المهينة للأسر والعوائل …
إذن …ثمّة اختلال كبير في المسائل المالية يستوجب أن نعيد النظر في كثير من وجوهها وملامحها ويستوجب أن نستدرك فيما يتصل بالتوزيع العادل للثروة على أبناء الشعب، بل وجب التفكير حتى في الأجيال الطالعة، باستحداث ما يمكن تسميته بـ”صندوق الأجيال القادمة” ، فهم أيضا أصحاب حق في ثروات وطنهم وخيراته ….فهل نستحضر هذه المعاني الرفيعة في مجال المال وتصريفه واستخدامه؟
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)