الدور التاريخي للمدارس القرآنية في مواجهة سياسة المستعمر والأمية
بقلم عبد اللطيف مشرف
خلف المستعمرون خراباً من كل الأنواع، فلقد حطمت السياسات اللغوية الاستعمارية الإرث الثقافي والحضاري للأمم المستعمرة، بما في ذلك النظم التعليمية الفعالة. وبعد رحيل المستعمر وما خلفه من خراب وسلب للموارد وتمزيق للمجتمعات المستعمرة، أطلق عليها مسمى “العالم الثالث”، الذي لا ثاني له!
ومع انتشار الجهل وارتفاع مستويات الأمية وتزايد نسب الفقر أصبح الحصول على تعليم جيد غاية في الصعوبة في ظل تسلط النخبة الحاكمة التي زرعها المستعمر قبل مغادرته، ناهيك عن فرض لغة المستعمر وتدهور النظم التعليمية المستوطنة. لقد كانت الشعوب الإسلامية المستعمرة من أشد الأمم تأثراً بالوطأة العدوانية للمستعمر، ما جعل الشعوب تبدي تمنعاً ومقاومة شديدة، خوفاً من ضياع هويتها وذوبان حضارتها في زخم المؤامرات.
ومع ارتفاع حدة عدوان الاستعمار لقي النظام التعليمي عند الشعوب المسلمة المستعمَرة هجوماً جائراً لاسيما ما يؤصل منه للوحدة الإسلامية والرابطة اللغوية بين الشعوب المسلمة في أنحاء العالم، فقد كانت المؤسسات التعليمية حاجزاً أمام مسخ هوية الأمة ودينها ولغاتها كي لا تصبح طوعاً للقوى الاستعمارية وتابعة لها، لقد كان للمدارس القرآنية عظيم الدور في مقاومة ذلك المد الاستعماري الجائر، والحفاظ على هوية الشعوب الإسلامية في شتى أصقاع الأرض، بل كانت تمثل تحدياً كبيراً للممانعة ضد الاستعمار الثقافي والديني واللغوي.
وبعد هجوم المستعمرين وادعاءاتهم بأنهم أتوا من أجل رسالة تحضير المجتمعات البدائية المستعمرة والارتقاء بها! أصبحت مستويات الأمية أعلى منها بعد مغادرة المستعمر، بعد أن بذل جهداً كبيراً سبيل في تجهيلها وتفتيت مجتمعاتها. يقول الباحث الإفريقي السنغالي “ملفي درامي” في دراسة حول سياسات فرنسا لفرض اللغة الفرنسية: “كانت مستويات التعليم في الدول التي استعمرتها فرنسا عالية قبل الاستعمار، ومع مغادرته لم تكن نسبة التعليم تزيد عن 10في المائة، وذلك بعد قرابة قرن من الاستعمار المشؤوم”.
وكذلك الحال مع كل الدول المقسمة قسراً، التي تركها الاستعمار ضحية الفقر والجهل والمرض والاقتتال الداخلي بعد أن مارس سياسة “فرق تسد”، ولقد أجاد “دانيال واقنر” الوصف لنظرة المستعمرين حول الشعوب المستعمرة وتاريخها وثقافتها وتراثها حيث قال: “من تلك اللحظة التي جاء فيها المستكشفون الأوربيون بما زعموا أنه الرسالة الحضارية لنشر الثقافة والتعليم الإمبريالي بين الشعوب التي كانوا ينظرون إليها على أنها فقيرة، متخلفة، جاهلة، أمية. لقد كان للتعليم لديهم مفاهيم ذات أبعاد سياسية وثقافية وأخلاقية وصناعية واسعة. لقد كانت هذه الشعوب من منظورهم شعوباً متوحشة وغير متحضرة. ولقد عادت تلك النظرة العنصرية مرة أخرى عندما بدأ التعليم العام ينتشر في أوربا، ولكنها هذه المرة تجاه الطبقات الفقيرة والمسحوقة اقتصادياً، وجاء بحسب زعمهم دور الطبقة الحاكمة لتحضير الطبقات الفقيرة والجاهلة”.
وأشار باحث غربي آخر، “أنسر”، إلى أثر تلك النظرة الاستعمارية النمطية الدونية للشعوب المستعمرة وثقافتها ولغاتها قائلاً: “تمتلك الإمبريالية اللغوية قدرة محكمة تحجب العقول والتوجهات والتطلعات لأكثر طبقات المجتمع نبلاً من استشعار كامل الإمكانات للغات المحلية”، وهذا يتفق مع ما ذكرته المفوضة السامية لليونسكو “باربرا هارل بوند”، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين النخبة القليلة العدد وغالبية الشعوب الذين كرهوا سياسات المستعمر والنخبة التي صنعها الاستعمار، وكان لابد للمستعمر أن يضع تلك الأقلية للحفاظ على مصالحة واستمرارية هيمنته بعد مغادرته.
وكان المستعمر يعلم بتجذر التعليم في عمق المجتمع المسلم تحت كل الظروف، يشير إلى ذلك مسؤول الإشراف على المدارس القرآنية في غرب إفريقيا في تقرير رفعه للإدارة الاستعمارية الفرنسية، يقول: “من طرف غرب إفريقيا الفرنسية إلى طرفها، من دجيني إلى كان كان، ومن كياس إلى تمبو.. ما يلفت نظر المشاهد السطحي هو ذلك التشابه الكامل بين هذه المدارس القرآنية، فنجد السكان الأصليين السود الذين لا يجيدون العربية العامية يدفعون بأبنائهم لدراسة اللغة العربية الفصحى – لغة القرآن – فنجد المسلم يقرأ ويكتب باللغة العربية الفصحى، ويستطيع أن يستمر في تعليمه حتى يصبح عالماً بالعربية وثقافتها”. ويواصل تقريره بكل ذهول، قائلاً: “تستطيع أن تتحدث بكل تأكيد أن كل منطقة بل كل قرية تحوي مدرسة قرآنية، ولقد رأيت المدارس القرآنية في كل مكان ذهبت إليه”.
لقد أذهل هذا الانتشار للمدارس القرآنية واللغة العربية الباحثين المهتمين في كل أنحاء العالم، فهذا البروفيسور “روس” من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية المرموق في لندن يؤكد أن الهجائية العربية قد لعبت دوراً عظيماً في نشر التعليم بين عوام الناس في الهند، في زمن كان التعليم محتكراً من قبل الطبقة العليا في الهند “البراهما”.
وبرغم الهجوم الجائر على المدارس القرآنية في كثير من دول العالم الإسلامي، يستمر هذه النوع من التعليم في المجاهدة لتقديم مقومات التعلم الأساسية لملايين البشر في أنحاء العالم، وفي مواقع ترتفع فيها معدلات الأمية بشكل مخيف، بينما يتم ذلك اللغط في دول كان من الأحرى أن تتبنى هذا النوع المستوطن من التعليم وتطوره وترتقي به، بينما نجد أن المؤسسات التعليمية العالمية تتنادى بإحيائه وإنزاله على أرض الواقع، وذلك لإنقاذ عشرات الملايين من البشر من خط الأمية الجارفة، ومثال لذلك منظمة أنظمة التعليم العالمية وهي واحدة من مؤسسات تطوير التعليم، حيث نشرت في تقريرها: «تقدم المدارس القرآنية الأرضية الخصبة من أجل التعليم للجميع، وهذا التقرير المتأخر للدور النفيس الذي تضطلع به المدارس القرآنية في نشر التعليم للجميع حدا بالمؤسسات العالمية المانحة مثل اليونسكو، يو إس إيد، واليونيسيف، للنظر إلى المدارس القرآنية كمصدر مهم لتعليم الأطفال ومحاربة الأمية.
اليونسكو وغيرها من المنظمات الإنسانية لم تلقِ بالاً لهذه المدارس ودورها في محاربة الأمية ونشر التعليم إلا مؤخراً، وذلك عندما تفاقمت المشكلة وارتفعت معدلات الأمية إلى مستويات مخيفة، كان من أعظم أسبابها السياسات الاستعمارية المتحيزة، والتعليم الانتقائي، وتهميش اللغات المحلية وفرض لغة المستعمر والطبقة الحاكمة صنيعة الاستعمار.
لقد كان هناك دور كبير للمدارس القرآنية في نشر التعليم في شتى أقطار العالم الإسلامي عبر التاريخ، وفي الوقت الحالي ما زال دورها كبيراً في تعليم التلاميذ قبل سن الدراسة (التمهيدي) وبعد دخولهم المدرسة، كما أنها تقوم بدور كبير لتعليم الأعداد الكبيرة من التلاميذ الذين لا يستطيعون دخول المدارس الحكومية لأسباب عديدة، كما أنها تقوم بدور التعليم الموازي في كثير من الدول الإسلامية، أي بالإضافة إلى التحاق التلاميذ بالمدارس الحكومية، فهم أيضاً يدرسون في هذه المدارس القرآنية، كما أنها تمثل خياراً إستراتيجياً لمحو الأمية المنتشرة بشكل مخيف في العالم، وذلك لتكاليفها المالية الزهيدة وبساطة تعاملها مع مناهجها وطرق تدريسها وقدرتها على تخطي عقبات شح المدرسين وقلة الموارد، فهل يعي المسلمين دور هذا المدارس في ترسيخ الدين واللغة والمبادئ والأخلاق؟
هل يعرف المسلمين أن تلك المدارس كانت سبب في ترسيخ اللغة العربية والحفاظ على الهوية في ظل الهجمات الاستعمارية على المسلمين من أجل فرض لغته وثقافته في فترة سيطرته على كثير من دول العالم الإسلامي؟، ولكن كان ذلك النوع من المدارس حائط صد ضد تلك الهجمات، فمتي يتم الأهتمام بتلك المدارس وتفعيلها؟
(المصدر: مدونات الجزيرة)