مقالاتمقالات مختارة

الدليل العقلي في الخطاب القرآني ومشكلة غيابه عند دعاتنا!

بقلم أحمد التلاوي

تشهد ساحات وميادين الدعوة الإسلامية الكثير من العنت والمشكلات في الوقت الراهن.

وهذه المشكلات ليست هي المهمة في حد ذاتها، وإنما الأهم منها، هو الكيفية أو التصور الذي يستقبل به القائمون على الدعوة -في مشارق الأرض ومغاربها- هذه المشكلات، بجذورها وطبيعتها وأسبابها.

فغالب الحال ما تكون النقاشات والتلقِّي حول المشكلات الآتية من الخارج، مثل حملات التشويش، وجرائم اليمين المتطرف الآخذ في التنامي في أوروبا على وجه الخصوص، من دون النظر إلى المشكلات الآتية من داخل الأوساط الدعوية ذاتها، على الأقل بالعناية الكافية.

ولعل من بين أبرز المشكلات، المناهج المستخدمة من جانب العديد من الأوساط الدعوية في بعض المجتمعات التي يمثّل المسلمون فيها أقليّة صغرى، ولا يكون هناك اهتمام كبير بها من جانب الجماعات الصحويّة التي تملك في حقيقة الأمر منهجًا أكثر تقدمية في الدعوة.

فهذه المناهج في الغالب ما تستند إلى نصوص وتفاسير وأقوال بصورة لا تحمل معها أية مراعاة لطبيعة عقلية المسلمين الجدد من أبناء هذه المجتمعات، والتي غالبًا ما تكون من المجتمعات التي تشبَّعت بقيم العلمانية والفردانية، وتعلي من قيمة العقل والحرية فوق ما عداها.

وفي حقيقة الأمر، فإن هذه المجتمعات –في الغرب بالذات– تكون بحاجة إلى منهج يتناسب مع طبيعتها التي تقوم على تمجيد العلم والعقل والتجريب، ونشأت نشأة تعتقد في أنه كل ما هو ليس ملموسًا أو يمكن إدراكه بالحواس هو غير موجود في الأصل.

ولا يوجد في هذا الصدد أنسب من المنهج العقلي الذي أتى به القرآن الكريم، الذي خاطب به رب العزة سبحانه -أول ما خاطب- عقليات أبناء مجتمعات كانت تقوم في الأصل على عقلية الخرافة، ورغم ذلك أسّس الله تعالى في كتابه العزيز للمنهج العقلي في مخاطبتها.

ولو تدبَّرنا آيات الذكر الحكيم فسوف نجد أن الله عز وجل قد وضع الدليل العقلي في مقدمة الأدوات التي اختارتها حكمته؛ لإقناع الناس بربوبيته وألوهيته، وحقه بإفراد المخلوقات له بالعبادة، لم يستعمل –وهو قادر على ذلك– أي أسلوب قاهر يتجاوز العقل الإنساني وضرورات قبوله -العقل- لأي أمر، واقتناعه به؛ لأنه سبحانه وتعالى، هو الذي خلق العقل، ويعلم مَن خلق وما خلق، وهو اللطيف الخبير، وبالتالي يعلم مفاتيحه، ومفاتيح إقناعه.

لو تدبَّرنا آيات الذكر الحكيم فسوف نجد أن الله عز وجل قد وضع الدليل العقلي في مقدمة الأدوات التي اختارتها حكمته؛ لإقناع الناس بربوبيته وألوهيته، وحقه بإفراد المخلوقات له بالعبادة

وفي القرآن الكريم نجد أن الله تعالى قد استخدم أساليب عديدة؛ لإقناع الإنسان بحقائق التوحيد ووجود خالق للكون، من خلال النماذج العقلية والمنطقية ، مثلما نجد في سُورة “يس” قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}، وكذلك قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)}.

وفي سُورة “القيامة”؛ يقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}.

والنماذج على ذلك في القرآن الكريم كثيرة، ومن نافل القول أن الله عز وجل قد جعل أكثر من آية تتكلم عن أن التدبُّر في الخلق هو أحد أهم العوامل التي يمكن أن تقود الإنسان إلى الإيمان.

ولكن من المهم -هنا- الوقوف عنده، هو أن الله تعالى قد جعل التدبُّر وإعمال العقل هو الوسيلة والمفتاح الأساسيَّيْن لفهم القرآن الكريم ذاته بكل ما له من جلال ومركزية في عقيدة كل مسلم، وجعل سبحانه هذا التدبُّر والتَّفكُّر هو وسيلة استخلاص أحكام العقيدة والشريعة الإسلامية من آيِ الذكر الحكيم، وجعل وسيلة الاجتهاد الأساسية هي العقل.

إن الله تعالى قد جعل التدبُّر وإعمال العقل هو الوسيلة والمفتاح الأساسيَّيْن لفهم القرآن الكريم ذاته بكل ما له من جلال ومركزية في عقيدة كل مسلم، وجعل سبحانه هذا التدبُّر والتَّفكُّر هو وسيلة استخلاص أحكام العقيدة والشريعة الإسلامية من آيِ الذكر الحكيم، وجعل وسيلة الاجتهاد الأساسية هي العقل

وفي سُورة “النساء”، هناك آية تحمل جماع ذلك الأمر كله، يقول فيها تبارك وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82)}. فهذه الآية جمعت بين فكرة تدبُّر القرآن الكريم، والتأكيد على ضرورة إعمال العقل فيه، وجعْل ذلك –أيضًا– هو وسيلة لتأكيد وحدانية الله عزّ وجل، وأن منزِل القرآن الكريم هو واحد لا شريك له.

وفي سُورة “مُحَمَّد”، يقول رب العزة سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}، والمعنى مفاده أن التدبُّر –أي التفكير وإعمال العقل– في القرآن الكريم هو أحد مسالك وصول الإنسان إلى الإيمان والتوحيد وحقائقه، وبالتالي فمن باب أولى أن يكون ذلك هو منهج الدعاة الأساسي ، ولاسيما في المجتمعات التي وصلت إلى مرحلة متقدمة من الحضارة المادية.

وهناك في العلوم الشرعية ما يُعرف بالمنهج العقلي في بيان العقيدة، وهو منهج يعتمد العقل في تفسير وتدبُّر القرآن الكريم من أجل الوصول إلى حقائق الإيمان، مثل الربوبية، والألوهية، والنُّبوَّات، والبعث، وغير ذلك من مفردات العقيدة.

هناك في العلوم الشرعية ما يُعرف بالمنهج العقلي في بيان العقيدة، وهو منهج يعتمد العقل في تفسير وتدبُّر القرآن الكريم من أجل الوصول إلى حقائق الإيمان، مثل الربوبية، والألوهية، والنُّبوَّات، والبعث، وغير ذلك من مفردات العقيدة

ولشيخ الإسلام “ابن تيمية” مقولات حسنة في ذلك، فهو يقول في “جامع الفتاوى”: “إن المنهج العقلي الذي يسلكه القرآن الكريم في بيان العقيدة وغرسها في النفوس يأتي متسقًا مع المنهج الفطري ومتكاملاً معه، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يكن مقصورًا على مجرد الخبر عن وجود الله تعالى ووحدانيته وسائر أركان العقيدة، وإنما أقام البراهين العقلية التي بها تُعْلَم العلوم الإلهية، فكان منهجه ومنهج جميع الأنبياء عليهم السلام الجمع بين الأدلة العقلية والسمعية (الشرعية)”.

وفي “النبوات”، يقول: “فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحُسْن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية، دلَّ عليها القرآن وهدى الناس إليها، فإن نفس كون الإنسان حادثًا بعد أن لم يكن، ومخلوقًا من نطفة ثم من علقة، فإن هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم، فهو إذْن عقلي؛ لأنه بالعقل تُعلَم صحته، وهو شرعي أيضًا”.

إن هذا المنهج الذي أخذ به السلف الصالح، حتى بعض المتأخرين منهم ممَّن “يُعاب” عليهم من جانب البعض، أنهم كانوا إلى الجمود أقرب في التعامل مع النص، نقول إن هذا المنهج غائب عن الكثير من دعاتنا المحدثين، الذين يكتفون بذِكر ما في المتون التي يعود منهجها الفكري والعقلي إلى قرون مضت، بينما هم يتحركون في مجتمعات تفكر بعقلية القرن الثاني والعشرين بالفعل!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى