مقالاتمقالات المنتدى

الدكتور يوسف القرضاوي في ذكرى رحيله رؤيته لفلسطين وأولويات الأمة

الدكتور يوسف القرضاوي في ذكرى رحيله

رؤيته لفلسطين وأولويات الأمة

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

مرت منذ أيام الذكرى الثانية لرحيل فقهيه الأمة وأحد مجدديها الكبار شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله (26 سبتمبر). وكعادة أمتنا سرعان ما تنسى علمائها وتراثهم الكبير الذي هو عصارة عمرهم وجهادهم ووصيتهم لأمتهم.

وحتى لا ننسى سريعا نتذكر القرضاوي اليوم في خضم حرب إبادة مادية ومعنوية لأمتنا العربية المسلمة لعلنا نفيد من تراثه في إعادة بناء واقعنا ورسم مستقبلنا في لحظة من أصعب لحظات أمتنا ماديا ومعنويا:

فماديا نجد إخواننا في فلسطين ولبنان والسودان واليمن وسوريا يقتلوا ليل نهار دون رادع يردع أعداءنا عن استحلال قتلهم بالمئات كل يوم بخلاف آلاف الجرحى والمصابين، ومعنويا نجد تغييب العقول وإلهاء القلوب والنفوس وتغيير مناهج التعليم وتحجيم مؤسسات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإطلاق هيئات المنكر وهدم المعروف تعيث في نفوس أبناء الأمة تخريبا لا حدود له. في ظل ذلك كله نستذكر عالمنا الراحل وجهاده الكبير لبيان المخاطر التي تتعرض لها الأمة وكيف نتعامل معها.

في هذا المقال نقف مع آراء الدكتور يوسف في قضيتين مفصليتين في لحظتنا الراهنة: الجهاد في فلسطين، وأولويات الأمة الغائبة في زمن الإبادة.

أولا: القرضاوي وفلسطين

منذ تفتح وعي الدكتور يوسف وفلسطين في قلبه، وتزايد ذلك الوعي منذ انضمامه لجماعة الإخوان في أربعينيات القرن الماضي، ويقول عن ذلك في مذكراته: كانت قضية فلسطين من قديم، أولى القضايا التي تشغل فكري وقلبي، ومنذ دخلت المعهد الديني في طنطا 1940م، وجدت نفسي أسير مع الطلبة في 2 نوفمبر من كل عام، احتجاجا على وعد (بلفور).. هكذا فهّمنا طلبة القسم الثانوي في المعهد، الذين جاءوا إلينا في المعهد الابتدائي، وأخرجونا لنشاركهم في مظاهرتهم المحتجة على تغلغل اليهود في فلسطين“.

ثم يتحدث عن نشاطات دعاة الإخوان وكان واحدا من أبرزهم في تلك الأيام في الدعوة لقضية فلسطين وتعريف الأمة المصرية بها في مذكراته: وكنا نحن دعاة الإخوان نطوف المدن والقرى، نحرض على الجهاد بالنفس وبالمال، وأحيانا نركز على المال لشدة الحاجة إليه لشراء السلاح للإخوان في فلسطين ونجمع لهم السلاح إن وجدناه، ونعبئ مشاعر الأمة وأفكارها، لتستعد لمعركة آنية عن قريب مع بني صهيون، الذين زرعهم الغرب في المنطقة، ولا يزال يساندهم ويؤيدهم عسكريا واقتصاديا وسياسيا“.

والمتتبع لجهاد الدكتور يوسف في سبيل التعريف بالقضية الفلسطينية ومركزيتها في حياة الأمة ككل وحياة كل فرد فيها، سيجد جهادا كبيرا بالقلم والعمل والدعوة بكافة أشكالها: ففي مجال الكتابة، كتب الدكتور يوسف في معظم مؤلفاته عن القضية، ومن ذلك: المبشرات بانتصار الإسلام، فتاوى معاصرة، فقه الجهاد، ومذكراته بأجزائها الأربعة وسلسلة حتمية الحل الإسلامي، والصحوة الإسلامية وهموم العالم العربي والإسلامي، وأمتنا بين قرنين ودواوين شعره، ثم خصها بكتب منها: درس النكبة الثانية وجيل النصر المنشود، القدس قضية كل مسلم، هذا بالإضافة لمئات المحاضرات والخطب واللقاءات الإذاعية والتليفزيونية والحوارات والبيانات التي خصصها لمؤازرة فلسطين وأهلها، وعلى الصعيد العملي سعى في إنشاء العديد من المؤسسات التي وقفت جهودها لنصرة فلسطين مثل مؤسسة القدس الدولية منذ عام 2001م.

وقد وصف إمامنا الراحل الكيان الصهيوني فأجاد قائلا: إسرائيل كيان طفيلي دخيل قائم على الاغتصاب والعدوان، وتحرير أرض الإسلام من هذه الجرثومة الغريبة في جسم الأمة المسلمة؛ فريضة دينية وقومية“.

وقال عن نظرته لقضية فلسطين : هذه نظرتنا إلى قضية فلسطين؛ إنها قضيتنا، وليست قضية إخواننا ونحن نساعدهم! وهذه هي النظرة الإسلامية الصحيحة. وكم حاول بعض الذين لا يعلمون: أن يثنوا أعناقنا عن هذا الموقف، ويقولون: إن أصحاب القضية لا يعتنون بها مثل عنايتكم، وأنا أقول لهم: إنكم غالطون، نحن أصحاب القضية، ولسنا غرباء عنها، أو دخلاء عليها“.

ولما سئل رحمه الله عن ما يجب أن يفعله المسلم في زمن المحن وتداك المصائب على الأمة من كل جانب، وما يحدث في فلسطين من مجازر وتصفية للقضية، أجاب رحمه الله قائلا:  لاشك أن ما يدور بأمتنا الآن ليصيب القلب بالحزن والهم، ولكننا نريد الهم الذي يتبعه همة وحركة وعمل دؤوب لتحقيق عزة أمتنا وكرامتها، والمسلم الصادق لا يعرف أبدًا اليأس، بل هو دومًا في حركة دائمة في انتظار النصر المبين الذي بشّره به المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يبقى بيت مَدر أو وبر؛ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عز يعز الله به الإسلام، أو ذل يذل الله به الكفر“.

ثم دعا للعمل والجهاد لتسترجع الأمة مجدها واستقلالها وأؤضها مؤكدا أن النصر من عند الله وحده وأن نصر الله للمؤمنين لا شك فيه، وأن النصر كذلك بالمؤمنين العالمين العاملين العابدين حتى تتحرر فلسطين وكل أرض عربية ومسلمة من الاستعمار بأشكاله كافة الصريحة والمستترة.

وهو ما ينقلنا لجزء الثاني من المقال حيث نتناول بعض الأولويات المطلوبة للحظتنا وزماننا والتي نبه عليها الإمام القرضاوي رحمه الله

ثانيا: فقه الأولويات المطلوب اليوم

طلب الأستاذ محمد الهاشمي الحامدي الباحث الإسلامي التونسي من الدكتور يوسف رحمه الله، في (ديسمبر1989م ) أن يكتب بحثا عن (أولويات الحركة الإسلامية في العقود الثلاثة القادمة) فكتب دراسة نشرت في مجلة مركز الأبحاث الذي كان يديره ساعتها في التسعينيات، ثم وسعها بعد ذلك في كتابه أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، ثم اتبع هذا الكتاب بكتاب ثان في فقه الأولويات بعنوانفي فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، أوضح فيهم جميعا كثير من الأولويات المطلوبة والغائبة من أجل صحوة راشدة تجدد الدنيا بالدين إن استعرنا عنوان أحد كتبه الماتعة والمفيدة.

بماذا يكون التجديد ؟

    أكد إمامنا الراحل في هذه الدراسات على ضرورة تجديد فكر الأمة وفقها وجميع جوانب حياتها وشدد على أن التجديد الذي يجب أن تقوم به الحركة الإسلامية ينبغي أن يتجسد في ثلاثة أمور“:   

  الأول : تكوين طليعة إسلامية , قادرةبالتكامل والتعاونعلى قيادة المجتمع المعاصر بالإسلام , دون تقوقع ولا تحلل , وعلى علاج أدواء المسلمين من صيدلية الإسلام نفسه ، طليعة يجمع بين أفرادها : الإيمان العميق ، والفقه الدقيق , والترابط الوثيق .

   والثاني : تكوين رأي عام إسلامي يمثل القاعدة الجماهيرية العريضة التي تقف وراء الدعاة إلى الإسلام , تحبهم وتساندهم ، وتشد أزرهم , بعد أن وعت مجمل أهدافهم ، ووثقت بإخلاصهم وقدرتهم ، ونفضت عنها غبار التشويش والتشويه للإسلام ورجاله وحركاته .

   والثالث : تهيئة مناخ عام عالمي كذلك يتقبل وجود الأمة الإسلامية ، حين يفهم حقيقة الرسالة الإسلامية , والحضارة الإسلامية , ويحرر من العقد الخبيثة , التي تركها تعصب القرون الوسطى , في أعماق نفسه , ومن الأباطيل التي خلفها الكذب والتشويه في أم رأسه , رأي عام يفسح صدره لظهور القوة الإسلامية بجوار القوى العالمية الأخرى , مدركا أن من حق المسلمين أن يحكموا أنفسهم وفق عقيدتهم , باعتبارهم أغلبية في بلادهم , كما تنادي بذلك مبادئهم الديموقراطية الحية التي يتغنون بها , وأن من حقهم أن يدعوا إلى رسالتهم الإنسانية العالمية , باعتبارها إحدى الأيديولوجيات الكبرى في العالم التي لها ماض وحاضر ومستقبل , ويدين بها أكثر من ألف مليون في دنيانا التي نعيش فيها .

ثم تحدث عن ما ينبغي على الحركة الإسلامية التركيز عليه والبدء به في المرحلة القادمة في ضوء (فقه الأولويات)، فأكد على ضرورة :

    1 – التركيز على مفاهيم معينة يجب تجليتها وتعميمها وتعميقها في المجال الفكري وهو ما أسميناه (الفقه الجديد)  .

    2- التركيز على شرائح اجتماعية معينة يجب أن تمتد إليها الحركة , وتشملها الصحوة وذلك في المجال الدعوة .

    3- التركيز على مستوى كيفي معين من إعداد القيادات المرجوّة للمستقبل, ولا سيما الإعداد الإيماني والفكري

    4 – التركيز على تطوير الأفكار والممارسات فيما يتصل بالعلاقات السياسية المحلية والعالمية خروجا من التقوقع الداخلي , والحصار الخارجي , وتحقيقاً لعالمية الحركة ومرونتها, وذلك في المجال السياسي.   

    5- من اللازم للحركة الإسلامية علي المستوي الإقليمي والمستوي العالمي ، أن يكون لها رؤية واضحة للمستقبل ، ينبثق عنها خطة بَيَّنة المعالِم ، محدَّدة الأهداف ، متطورة المناهج ، شرعية الوسائل ، مرتبة المراحل ، علمية الفكرة ، واقعية النظرة ، مرنة التنفيذ ، بأعبائهم تستمر ببقائهم ، وتتوقف بتوقفهم . خطة مبَنيَة علي معلومات موَّثقة ، وإحصاءات دقيقة ، وبحوث مستفيضة ، وتحليلات علمية ، ومقارنات موضوعية ، ودراسة لكل الإمكانات المادية والبشرية القائمة والمحتملة ، ولجميع العوائق المادية والمعنوية ، الداخلية والخارجية ، واقعة أو متوقعة ، دون تهويل أو تهوين . يقوم علي وضع هذه الخطة جهاز متخصص متكامل من خبراء متمكنين ، متنوعي الثقافة ، يكمل بعضهم بعضًا ، يستعينون بكل مَن يرون الاستفادة منه برأي أو معلومة ، من أفراد أو أجهزة وإدارات . ومن اللازم ، قبل وضع الخطة ، وبعد وضع الخطة ، الاهتمام بأمور ثلاثة : التفرغ ، والتخصص ، والمعلومات .

  6-ضرورة تفرغ الكفايات للعمل الحركي :   من أهم ما يجب أن تحرص عليه الحركة الإسلامية في خطتها القادمة : العمل يجد علي أن يتفرغ عدد من الكفايات في المواقع الاستراتيجية الهامة ، وخصوصًا في مجال العلم والفكر ، ومجال التربية والتكوين ، ومجال الدعوة والإعلام ، ومجال السياسة والتخطيط . ولا يجوز للحركة أن تظل معتمدة علي التطوع المحض من أناس مشغولين بأعمالهم التي تستغرق جل أوقاتهمولا يبقي منها إلا فضلات لا يقوم عليها وحدها عمل كبير . وهذا لا يتنافي مع وجود متطوعين محتسبين ببعض جهودهم وأوقاتهم ، فهذا مالا يُستغنَي عنه بحال . ومردوده كبير ، لسعة القاعدة التي تعمل متطوعة ، بل المفروض أن جميع أعضاء الحركة يعملون متطوعين إلا مَن فُرِضَ عليه التفرغ لمصلحة الدعوة .

7-إعداد المختصين : وضرورة التوجه والتوجيه لإعداد متخصصين في جوانب الحياة كافة . فنحن في عصر التخصص ، بل التخصص الدقيق ، ولسنا في عصر العباقرة الموسوعيين الذين يعرفون كل فن ، ويفتون في كل علم . إن الذكاء وحده لا يكفي ، والمواهب وحدها لا تكفي . لابد من الدراسة العلمية المتخصصة ، القادرة علي أن تساير العصر ، وتلبي الحاجة ، وتتقن العمل الذي يُسند إليها ، وفي الحديث الصحيح : ” إن الله كَتَبَ الإحسان (أي الإتقان) علي كل شيء ” . وفي الحديث الآخر : ” إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يُتقنه ” .

  8-ومن أهم حاجات العصر وأوليَّاته : إنشاء بنك للمعلومات أو مركز للبحوث والمعلومات علي مستوي عصرنا : عصرالثورة المعلوماتيةكما يحلو لبعضهم أن يسميها ، يقوم عليه خبراء متخصصون مُدَربون ، وتخدمه أجهزة متطورة تلائم مشارف القرن الحادي والعشرين الميلادي . لقد تنوعت مصادر المعلومات ، وتطورت وسائل الحصول عليها ، ووسائل تخزينها ثم تصنيفها ، ثم الاستفادة منها عند الطلب . فهل أفدنا منها ؟ إننا لا نملك معلومات كافية ، ولا نصف كافية عن أنفسنا ، بله أن تملك معلومات عن الآخرين ، من أصدقائنا ، أو من أعدائنا . علي حين يعرف خصومنا عنا كل شيء .

وهذ نقاط لا تحتاج لشرح أو بيان أهميتها وإنما تنتظر من يحيلها إلى مؤسسات تخرج لناجيل النصر المنشود“.

وفي الختام نشير إلى أهمية العملية التربوية في إعادة بعث أمتنا من جديد كما رآها شيخنا القرضاوي رحمه الله لأن التربية كانت هي الأساس الذي بنيت عليه الأمة وبه سادت وقادت، وهي أيضا بداية أي بعث جديد لهذه الأمة ، فالتربية هي التي يتخرج الأجيال التي نراها اليوم من التفاهات والاهتمامات الفارغة بالأهواء والكماليات والاستهلاكيات المهلكة للأمة.

فشيخنا الراحل كان يعد عملية التربية للأجيال الجديدة من أهم الأولويات المطلوب العمل عليها، وذلك من خلال :

تكوين (الإطارات) البشرية ، والطلائع الإسلامية , وتربية جيل النصر المنشود من الذين يفهمون الإسلام ويؤمنون به كله : علماً وعملاً ودعوة وجهاداً ويحملون دعوة الإسلام إلى أمتهم أولا ، وإلى العالم بعد ذلك , بعد أن التزموا به : فكرة واضحة في رؤوسهم , وعقيدة راسخة في قلوبهم , وخلقًا يوجه كل حياتهم ، وعبادة مع الله وتعاملاً مع الناس ، ومنهاجاً حضارياً ينهض بالأمة ، ويوحدها على كلمة الله , ويهدي الإنسانية الحائرة للتي هي أقوم .

ويعلل ذلك بقوله: “إن أهم ما ينبغي أن نشغل به اليوم إن أردنا لإصلاح حالنا: أن نبدأ من البداية الصحيحة، وذلك ببناء الإنسان، بناء حقيقيا لا صوريا، نبني عقله وروحه وجسمه وخلقه، بناء متوازنا لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان، نبنيه عقليا بالثقافة، وروحيا بالعبادة، وجسميا بالرياضة، وخلقيا بالفضيلة، وعسكريا بالخشونة، واجتماعيا بالمشاركة، وسياسيا بالتوعية، ونعده للدين والدنيا معا، وليكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره، حتى ينجو من خسر الدنيا والآخرة، الذي ذكره الله في سورة العصروالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر“. ولا يتم ذلك إلى في ضوء تصور كلي للوجود، وفلسفة واضحة للحياة، ومشروع متكامل للحضارة، تؤمن به الأمة، وتربي أبناءها وبناتها على اليقين به، والعمل وفق حكمه، والسير على نهجه، تتعاون على ذلك كل المؤسسات“.

لقد ترك عالمنا القرضاوي ثروة كبيرة وتراث غني في كل مجالات الفكر والفقه الإسلامي تحتاج ترجمتها إلى مؤسسات حتى ينتفع به أبناء الأمة اليوم وغدا.

رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى