مقالاتمقالات المنتدى

الدكتور جمال الدين عطية في ذكرى رحيله الثالثة

الدكتور جمال الدين عطية في ذكرى رحيله الثالثة

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بمنتدى العلماء)

 

تمر اليوم الذكرى الثالثة لرحيل العالم العامل العابد أستاذنا الدكتور جمال الدين عطية ( 22-11-1346هـ / 12-5-1928م- 15من ربيع الآخر 1438هـ، / الثاني عشر من يناير 2017م)، صاحب الجهود التأسيسية في الفكر والعمل للإسلام في النصف الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من قرننا الحالي، حيث تنوعت مساهماته في خدمة الإسلام وقضاياه بين الفكر القانوني ودراسات الفقه والشريعة والمقاصد والبنوك الإسلامية وبين التأسيس للصحافة الإسلامية  المتميزة، متمثلة في مجلة “المسلم المعاصر” رائدة الصحافة الإسلامية الرصينة. والذي كتب عنه الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، شهادة بليغة قال فيها: “لكل عالم أو مفكر مراحل فكرية وعلمية تمثل قمة نضجه وعطائه، وتمثل مرحلة من هذه المراحل قمة المنحنى في النشاط العلمي والفكري والحركي؛ حيث يكون المنحنى قبلها منخفضاً، وبعدها منخفضاً أو يكاد يكون منعدماً، أما أن تكون حياة العالم أو المفكر في تجدد وتجديد دائم ومستمر، وتنتقل من مرحلة جهادية فكرية إلى مشروعات إصلاحية فكرية وتجديدية شرعية فهذا ما لا نجده إلا عند القليل من مفكرينا وعلمائنا، ويعد الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية من هذا القليل الذي ينتقل من نجاح إلى نجاح، ومن مشروع تجديدي إلى مشروع مثله، ومن موسوعة شرعية إلى أخرى، ومن كتابات تجديدية في مجالات الإسلام المتنوعة إلى مشروعات عملية واقعية تنهض بالأمة وتجدد دنياها بدينها”[1].

ويحاول هذا المقال الوقوف أمام محطة من أهم محطات حياته، وثمرة من ثمار سعيه المبارك في سبيل خدمة الإسلام، من خلال إلقاء الضوء على مجلة المسلم المعاصر التي أنشأها-وظل قائما عليها حتى وفاته في عام 2017م-، مع كوكبة من أعلام الفكر الإسلامي في بداية السبعينيات من القرن الماضي، لتكون منبراً يجمع المجاهدين في سبيل ثقافة إسلامية تواكب النص والعصر معاً.

عشرون عاما من أجل ظهور المجلة

راودت فكرة مجلة المسلم المعاصر خيال وعقول ثلة من رجالات الإسلام المهاجرين من مصر بعد خلاف الإخوان مع نظام يوليو بعد  عام 1954م؛ وكان على رأسهم فقيدنا الراحل الدكتور جمال الدين، لتكون بمثابة ندوة مكتوبة تتيح تواصل الأفكار بينهم[2]، حتى إذن الله بصدورها من بيروت عام 1974م معتمدة -بعد توفيق الله تعالى- على مبلغ زهيد تبرع به المؤسسون، تطور فيما بعد إلى وقف استثماري ينفق من عائده على نفقاتها واستمرارها، وقد كان من أهم عوامل استمرار المجلة  ترأس الدكتور جمال تحريرها المجلة منذ إنشائها تطوعاً وحتى وفاته.

أهداف المجلة

حددت المجلة هدفها في معالجة القضايا المعاصرة من وجهة النظر الإسلامية، تحاول الوصول إلى الرأي الحق في المشكلات التي تعترض الإسلام فكراً وتطبيقاً في عالمنا المعاصر، وعرض تراث الفقه الإسلامي عرضاً جديداً ومقارنة أفكاره ومبادئه بالأفكار والمبادئ القانونية المعاصرة وتأصيل المبادئ القانونية الإسلامية وتنظيرها. وهي تنطلق في ذلك كله، من ضرورة الاجتهاد  وتتخذه طريقاً فكرياً، كما تحاول أن تسهم في تسديد وتطوير التحرك الإسلامي على مختلف المستويات الفردية والجماعية، الشعبية والحكومية، المحلية والإقليمية والعالمية، وذلك ببحث وتقويم كافة الجهود المبذولة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية”[3].

حصيلة عمر المجلة حتى وفاته

توزعت حصيلة أعداد المجلة على أكثر من 45 مجالاً تصب جميعها في هدف معالجة القضايا المعاصرة من وجهة نظر إسلامية، في مجالات: البنوك، والاقتصاد، وعلم النفس، واللغة والأدب، وحقوق الإنسان، وتفسير التاريخ وفلسفته، والحركة الإسلامية، والإعلام، وإسلامية المعرفة، والفنون، الفكر السياسي، ومقاصد الشرعية.

من أهم القضايا التي طرحتها المجلة

طرحت المجلة منذ عددها الافتتاحي مسألة الاجتهاد لا في فروع الفقه فحسب بل في أصول الفقه كذلك، كما ناقشت العديد من الأفكار السجالية مثل مفهوم “اليسار الإسلامي” الذي أغلق سريعاً بسبب ظروف تلك المرحلة ولو أنه استمر مفتوحاً لكان له من ثماره الكثيرة اليوم. وكذلك من القضايا الهامة والتي لم تتابع مع ما لهم من خطورة وأهمية في حياة الأمة، تلك المقالات التي نشرها الأستاذ عبد الحليم أبو شقة عن “أزمة العقل المسلم” و”أزمة الخلق المسلم”، وهناك أيضا كتابات الدكتور محمد فتحي عثمان عن الفكر الإسلامي وتطويره رحمه الله وكتابات المستشار طارق البشري والشهيد إسماعيل الفاروقي عن غير المسلمين ودورهم في الاجتماع السياسي الإسلامي.

إسهامات فقيدنا الراحل في المجلة

كتب فقيدنا الراحل افتتاحيات كثيرة للمجلة ناقش فيها القضايا الإسلامية الراهنة في زمانها، وقد تنوعت تلك القضايا التي ناقشها بين تقويم الحركة والفكر الإسلامي واقتراح الأفكار والمؤسسات المطلوبة لترشيده الإسلامي، وبين طرح الأفكار التجديدية للفقه الإسلامي، كما تناول فقه الواقع الجديد الذي يعيشه فيه المسلمين وكيف نتعامل معه، وكتب عن سنن الله في التغيير والتفرقة بين الثابت والمتغير في الدين، وتناول نواقص المسلمين وما ينقصهم، ومزايا النظم الغربية وسلبياتها وماذا نقبل وماذا ندع منها، كما نشر العديد من الأبحاث في الفقه الإسلامي وتجديده ومقاصد الشريعة والبنوك الإسلامية، وطرح رؤية تجديدية للتعددية المذهبية والعولمة والإسلام وعالمية حقوق الإنسان وقدم قراءة معاصرة لفروض الكفاية ومستقبل العمل الإسلامي وإيجابيات الحركة الإسلامية المعاصرة وموقف المجتهد من النصوص[4].

وليس هذا وحسب بل كانت له مساهمات قيمة من خلال الحوارات التي أجريت معه وناقش فيها مستقبل العمل الإسلامي في ظل الواقع المتغير. وتمثل جملة كتابات فقيدنا الراحل ثروة معرفية إسلامية كبيرة يمكن أن تكون نواة لكثير من المشرعات البحثية وأطروحات الماجستير والدكتوراه.

المسلم المعاصر في عيون بعض العلماء

كانت المجلة لبنة حقيقية في صرح الفكر الإسلامي المعاصر ونبراساً لعلماء وشباب المسلمين تفيدهم وتقرب بينهم وتوصل أفكارهم على بعد المسافات فيما بينهم. قال عنها علامة عصرنا الشيخ محمد الغزالي: “الفكر الإسلامي في عصرنا يحتاج إلى أساة ذوي بصيرة في كتاب الله وسنة رسوله، وذوي بصيرة فيما طلعت به الحضارة الحديثة من مبادئ وقيم، وذوي بصيرة-قبل ذلك كله- بخط الانحراف الذي زاغ بالمسلمين عن الصراط المستقيم، وانتهى بهم إلى ما نعرف، ولعل ذلك ما عنيت به مجلة “المسلم المعاصر”[5] .

ومن أهم مكاسب “المسلم المعاصر” كما يقول عبد الجبار الرفاعي: “إرساء أسس تقاليد منسجمة مع العصر للإعلام الإسلامي، حيث افتتحت عهداً جديداً له، فاقتحمت ميدان النقد وباشرت مراجعة وتقويم مفاهيم الإسلاميين ومؤسساتهم ومواقفهم[6].

وقال عنها الأستاذ جمال سلطان: “لقد كان أمر “المسلم المعاصر” يمثل ظاهرة جديدة، ومثيرة للانتباه في مجال الصحافة الإسلامية، حيث تمكنت عبر جهد فقيدنا الراحل من استقطاب عدد كبير من رموز الفكر الإسلامي العاصر تحولت بهم إلى منبر فكري متميز تعتمده علميا عدد من جامعاتنا الإسلامية[7].

وقال الأستاذ محمد مراح عن دور المجلة في خدمة التفسير الإسلامي للتاريخ: “ولقد منحت مجلة «المسلم المعاصر» الصفحات الطوال للجهود الفكرية التي أسهم بها مفكرون إسلاميون استلهموا نصوص الوحي وجهد المسلمين التاريخي في وضع «تفسير للتاريخ وفلسفته» فهذه الجهود عنيت ـ في معظمها بالتأسيس والكشف عن هذا التفسير وتلك الفلسفة، ويمكن تصنيف هذه الجهود ضمن محاور أربعة هي: 1ـ الحركة التاريخية والتوجيه القرآني، 2ـ المسألة الحضارية وتفسير التاريخ، 3ـ أساسات التفسير القرآني للتاريخ، 4ـ نموذج لإسلامية تفسير التاريخ (ابن خلدون)”[8].

المسلم المعاصر تجربة شخصية

علمت المسلم المعاصر أجيال متوالية من الشباب المسلم، وقد مثلت مجلة المسلم المعاصر مصدراً رئيسياً لتكويني الشخصي الإسلامي في مجالات الفكر الإسلامي وفتحت لي آفاقاً متعددة للبحث وتطوير أفكاري عن الإسلام والمسلمين والعالم من حولي، فمنذ وقعت عيناي على أول عدد اشتريته  منها في بداية التسعينيات من القرن الماضي من سور الأزبكية بمعرض الكتاب بالقاهرة ؛ وكان عن العدد رقم (54)، وفيه افتتاحية الدكتور عبد الحليم عويس الماتع عن الخلل في القيادات  الفكرية وفقه السنن الاجتماعية؛ وكانت تلك الفترة فترة تكويني الفكري الرئيسية، فأخذت أبحث عن أعدادها السابقة وتحصلت على بعضها، وكانت تلك الفترة هي المرحلة التي بدأت فيها التردد على مكتبة المعهد العالمي للفكر الإسلامي بعد أن تركه فقيدنا الراحل فبدأت في قراءة الأعداد القديمة للمجلة في مكتبته وتعرفت من خلالها على أفكار الشهيد إسماعيل الفاروقي والمرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري والمستشار طارق البشري وغيرهم من أعلام الفكر  الإسلامي من مختلف بلدان الإسلام ، كما تتبعت نقاشات السيمنارات التي نشرتها المجلة عن قضايا إسلامية كثيرة وهامة أسهمت في تعميق مفاهيمي الإسلامية من خلالها.

واقع المجلة اليوم

توقفت المجلة منذ آخر عدد صدر عام 2017م (العدد 163)، وهو العدد الخاص بتأبين فقيدنا الراحل،  ويعود هذا التوقف إلى معاناة المجلة من عدد من المشاكل المتعلقة بإعادة تجديد تصريح إصدارها بعد وفاة مؤسسها وصاحب امتيازها رحمه الله، ويبذل الدكتور محمد كمال إمام رئيس تحريرها الحالي والمؤتمن عليها وعلى جمعية المسلم المعاصر التي ترعاها؛ كل جهوده وهو وفريق عمل المجلة والجمعية لإعادة إصدارها في ثوب جديد.

وقد بذلوا خلال الفترة التي تلت وفاة فقيدنا الراحل وحتى اليوم مجهوداً مشكوراً  أثمر عن تدشين الموقع الجديد للمجلة ورفع كافة أبحاث المجلة منذ إنشائها على الموقع ، كما يقوم فريق العمل حالياً برفع  باقي أبواب المجلة خلال الفترة القادمة[9].

خاتمة

ارتبطت مجلة المسلم المعاصر بمنشئها ورئيس تحريرها وفارسها الذي ظل أكثر من أربعين عاماً يحافظ على انتظام صدورها ويؤمن لها مواردها التي تستعين بها على استمرارها حتى تركها قوية صامدة مستقلة من خلال وقفيتها التي تنفق عليها وهيئتها التحريرية التي ائتمنها عليها.

وقد حققت المجلة الكثير من الأهداف التي انتدبت نفسها للقيام بها، وفتحت آفاقاً جديدة للبحث في الفكر والفقه الإسلامي، وقدمت للأمة كتاباً جدداً وعرفت بأعلام منسيين، وراكمت من الأبحاث العلمية في مجالات شتى ما أصبح تراثاً يستفيد منه أبناء الإسلام، وهي-إن شاء الله-في عمرها الجديد مازالت تحتاج أن تقوم بدورها، وتكمل ما لم يتم من رسالتها في خدمة الفكر الإسلامي في زمان الناس اليوم وغداً.

نسأل الله الرحمة التامة لفقيدنا الراحل لقاء ما قدم لأمتنا من جهود في مقدمتها مجلة المسلم المعاصر ، ولورثته من القائمين على المسلم المعاصر العون والسداد في عودتها إلى النور قوية عفية عميقة كما خرجت للناس في أول أعدادها.

[1] مقال محمد مصطفى حابس: العلامة جمال الدين عطية نموذج التجديد الفكري المعاصر، على الرابط التالي: https://www.alhiwar.net/PrintNews.php?Tnd=29956

[2] عطية، جمال الدين. الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر.ط1.بيروت:دار الهادي، 2001م، ص268.

[3] راجع افتتاحية العدد الأول على موقع مجلة المسلم المعاصر على الرابط التالي: https://almuslimalmuaser.org/1974/10/02/%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d8%a3%d8%b9%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%af-%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86-%d8%b9%d8%b7%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d8%b0%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d9%84%d8%a9/%d9%83%d9%84%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%b1%d9%8a%d8%b1/

[4] يمكن الرجوع لكتاب الواقع والمثال في الفكر الإسلامي المعاصر حيث يحتوي على افتتاحيات فقيدنا الراحل لمجلة المسلم المعاصر.

[5] عطية، جمال الدين. الواقع والمثال، مصدر سابق، ص12.

[6] المصدر نفسه، ص7-9.

[7] المصدر نفسه، ص14.

[8] مقال محمد مراح، مساهمة مجلة المسلم المعاصر في أسلمة التاريخ، على الرابط التالي: http://kalema.net/home/article/print/204

[9] راجع موقع المجلة على الرابط التالي: https://almuslimalmuaser.org/

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى