الدكتور “القره داغى” في رثاء العلامة القرضاوي: عاش للإسلام ولقضايا الأمة فنال تقدير الجميع
في مسجد محمد بن عبد الوهاب بالعاصمة القطرية الدوحة، وأمام الآلاف من المصلين ومشاهدة الملايين عبر الفضائيات، ألقي الاستاذ الدكتور علي محيي الدين القرة داغي الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين كلمة تأبين ووداع علي جثمان العلامة الشيخ يوسف القرضاوي (9 سبتمبر 1926 – 26 سبتمبر 2022) قبل الصلاة على جثمانه. كلمة بكت لها القلوب والعيون وهذا نصها:
“روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً، وأفتَوْا بغير علم فضلوا وأضلوا)
وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الرعد: 41.قال ابن عباس: خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منهم.
وقال الحسن البصري رحمه الله: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، وقد ذكر أن الإمام البخاري لما بلغه نعي شيخه الإمام الدارمي، بكي بكاء وفاضت الدموع على لحيته وأنشد قصيدة مطلعها:
عــــزاء فما يصنع الجــازع ** ودمع الأسى أبداً ضـــــــــائع
بكى الناس من قبل أحبابهم ** فهل أحد منهم راجــــــــــــع
وأقول مستشهداً بما يسند إلى جدتنا الزهراء رضي الله عنها:
صبت علي مصائب لو أنها ** صبت على الأيام صرن لياليا
ولكن عزاءنا في أن الموت في عقيدتنا الإسلامية والحمد لله، ليس نهاية المطاف، وإنما هو محطة من محطات الحياة، فالروح خالدة، وإن شاء الله نلتقي بروح شيخنا فى الرؤى، ثم أملنا أن نلتقي به في ظل عرش الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، بفضل الله سبحانه، ثم في الفردوس بكرم الله مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تشرفت بصحبة شيخنا المجدد أربعين عاماً، فوجدته بالإضافة إلى إمامته بالعلم والدعوة، والتربية والحركة، وجدته صاحب خلق رضي وقلب نقي، هكذا أحسبه ولا أزكي أحداً، وجدته صاحب الخلق الكريم النقي، والقلب التقي، واللسان الطاهر العفيف الزكي، ماسمعت في مجلسه غيبة ولا نميمة، وأشهد (ولا أزكي على الله أحداً) وشهادتنا مقبولة بإذن الله، كما ورد في صحيح البخاري: وجبت، أنه عاش للإسلام، للإسلام وحده، عاش لأجل جماله وكماله وعظمته وجلاله، وعاش لأجل صلاحيته لكل زمان ومكان، كان الإسلام لحمته وسداه، ومصبحه ومساه، ومبدأه ومنتهاه، عاش له جندياً مخلصاً، فسجن وأوذي، وعاش له قائداً ماهراً، وقدوة مباركة، عاش للإصلاح فكان مصلحاً عظيماً، عاش للنهوض بأمته، فأحبه الصالحون، وملك قلوبهم، عاش حقاً لقضايا أمته، لاسيما قضية فلسطين، كان عاشق فلسطين بكل ما تعني الكلمة، وكان فدائي الأقصى، وكان يتمنى أن يحرر الأقصى ونحن معه، ومع قادتنا المجاهدين، هذه كانت أمنيته، سمعتها منه مراراً وتكراراً، ووصانا بها، أن نسير على هذا الطريق.
نودع عالماً في أمة، وأمة في عالم، قال عن نفسه منذ سبعين سنة في قصيدته النونية:
فالنور في قلبي وقلبي في ** يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي ** وأمـــــــــــــوت مبتسماً ليحيــــا ديني
نشهد أنك عشت معتصماً بحبل عقيدتك، ما أثر فيك مال ولا جاه ولاسلطان ولا رأي الجماهير للعدول عن مبادئك، أشهد أنك عشت معتصماً بحبل عقيدتك طوال عمرك المبارك، وبالأمس سلمت روحك المباركة إلى خالقها مبتسماً ليحيا دينك، نحن نعاهد الله جميعاً في الاتحاد وفي العلماء جميعاً أن نعيش لهذه القضايا التي عشت لأجلها، وهي خدمة الإسلام والمسلمين وكلنا أمل أن يخاطبك الله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر: 27- 30.
وكلنا نشهد إن شاء الله أنك من هؤلاء: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23
فسلام الله عليك يا شيخنا، يا شيخ الوسطية والاعتدال، يا من نشرت منهاج الإسلام المعتدل وبينت، أن الإسلام هو الحل في حوالي مئتي كتاب..سلام الله عليك يوم مت مبتسماً ليحيا دينك، وسلام الله عليك حين تبعث بفضل الله، وأملنا بالله أن تبعث مع الشهداء والصالحين.
أعمال شيخنا الجليل يوسف القرضاوي وفقهه وتصوراته تحيط بحياة الأمة الإسلامية في جميع جوانبها، وتحدياتها ولذلك لا يكون بعيداً أن يتصدى لقضية مهمة مثل الاقتصاد الإسلامي، فقد كانت رسالة شيخنا في الدكتوراه حول فقه الزكاة، وهو من الناحية الاقتصادية يدخل في النظام المالي الإسلامي، كما أنه يدخل من حيث الأنشطة الاقتصادية في مبدأ إعادة التوزيع، توزيع الثروة كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. ومن جانب ثالث فهو يدخل في النظام التكاملي القائم على الأخوة الإيمانية (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سورة التوبة: 11.
وقد أجاد شيخنا القرضاوي وأبدع وأفاد العباد بما آتاه الله من علوم القرآن والسنة، والفقه والأصول، وما حباه الله من عقل مفكر كبير، وذهن حاضر وقاد، وفقه الموازين والموازنات، وفقه الواقع والتوقع، وفقه التنزيل والمآلات. ولذلك وصف كتابه (فقه الزكاة) لم يُؤلف مثله في هذا الباب.
وهو حقاً إمام في هذا الباب أيضاً، وفقيه مقاصدي معتمد على الكتاب والسنة واجتهادات الأعلام. وعندما كتبت من هذا الكتاب بمناسبة بلوغ الشيخ سن السبعين، قمت بمقابلة شخصية مع سماحته، ومنها أنني سألت عن الدافع، حيث كان دافعه خدمة الأمة الإسلامية في هذا المجال الخطير ………..
وأما كتابه الثاني الذي يدخل ضمن الأنشطة الرئيسية للاقتصاد هو دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي حيث بدأ ببيان القيم وخصائص الاقتصاد الإسلامي التي تقوم على جناحي الميزان: الجناح المعنوي والأخلاقي. والجناح المادي القائم على توفير الحياة الطيبة في جميع الجوانب.
ثم ذكر القيم والأخلاق للإنتاج والاستهلاك والتداول، والتوزيع، وختمه بدور الدولة في الالتزام بالقيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي.
وهذا الكتاب في غاية من الأهمية، لأنه يتضمن التأصيل الشرعي للأنشطة الاقتصادية مع ربطها بالقيم والأخلاق التي يحتاج إليها الاقتصاد الوضعي بكلا فرعيه الرأسمالي والاشتراكي الشيوعي.
وقد أجاد وأفاد في هذا الباب، حيث أثبت في الاقتصاد الإسلامي ثوابته، ومتغيراته، وأثبت أن الاقتصاد الإسلامي حقيقة موجودة ومتناثرة في نصوص الشرع، ثم في الكتب المؤلفة، وأثبت أنه اقتصاد رباني، وأخلاقي وإنساني ووسطي، وقد أثبت أنه إمام أيضاً في هذا الباب، لأن ما قاله في هذا الباب جديد، حيث ربط الاقتصاد بالوازع الديني قبل وازع السلطان، وأهمية التربية الإيمانية في توجيه الاقتصاد وأهمية ربط فكرة الاستخلاف بالاقتصاد.
ومن هنا غيّر فكرة الاقتصاديين الرأسماليين وعلى رأسهم ” آدم سميث” الذين قالوا: الاقتصاد هو إدارة الثروة لتحقيق الرفاهية للإنسان –أي صاحب رأس المال.
فالشيخ القرضاوي أراد أن يعرف الاقتصاد بأنه إدارة الثروة لتحقيق الاستخلاف والعبودية لله تعالى، والعمران. ولم يكن الشيخ الإمام مجرد منظر ومؤصل للاقتصاد الإسلامي، وإنما كان مشاركاً في إنشاء المصارف الإسلامية ومشرفاً عليها، وألف في ذلك أيضاً كتباً كثيرة.وأخيراً فإن الشيخ كان عالماً موسوعياً وإماماً عظيماً في الاقتصاد الإسلامي تنظيراً، وتأصيلاً، وتطبيقاً وإشرافاً ونقداً، وتشجيعاً.
اللهم إنا نتضرع إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم العزيز الحكيم، وبكل اسم هو لك سميت به نفسك أوأنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تغفر لعبدك ومحبك الشيخ يوسف القرضاوي، وأن تتقبله في عبادك الصالحين الشهداء، وأن تجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن تحشره مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، ونتضرع إلى الله أن يجمعنا به -نحن محبو الشيخ- في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وندعو الله تعالى أن يبارك في أسرة الشيخ القرضاوي وان يعظم أجرهم ويلهمهم وجميع تلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان والسير على خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
سلام الله على شيخنا الذي كرس عمره المبارك لخدمة دينه وأمته، والمساهمة في الحلول للمشاكل والصعوبات فهو الذي أعلن شعار “الإسلام هو الحل “…وسلام الله عليه حينما توفي وترك لنا ثروة جامعة عظيمة في مختلف مجالات الحياة ومنهجاً وسطياً. وسلام الله عليه حينما يبعث بإذن الله من الشهداء والصديقين.
المصدر: الإنسان للإعلام