الدكتور الخليفي… وانتحار إنسان الحضارة الملحدة!
بقلم د. محمد العوضي
إبراهيم الخليفي، أحمد البستان، عبدالمحسن حمادة، صلاح مجاور، محمد جواد رضا… وغيرهم من الدكاترة الذين درسونا في كلية التربية كانت علاقتنا بهم أكثر من مجرد عملية تعليم وتعلم.
كان الدكتور أحمد بستان بعد تخرجي يستضيفني في قاعة دراسته ليحاورني وطلبته في موضوع معين… وهكذا تستمر العلاقة.
أمس وصلني عبر الواتساب هذا المقال المتداول للدكتور إبراهيم الخليفي الذي درست عنده مادة «علم النفس التربوي» أعرضه لكم بعد أن اخترت له عنوانا من عندي.
كتب الدكتور الخليفي تعليقا على خبر انتحار المشاهير:
فإن منظومة إشباع الحاجات الغربية تتبنى منهج هرم ماسلو التصاعدي، الذي يبدأ بالحاجات البيولوجية الضرورية في قاعدته، ثم يرتقي خطوة خطوة، لحاجات الأمن، فحاجات الانتماء، فحاجات تقدير الذات والجماليات، فحاجات تحقيق الذات، أو طلب فلسفة للحياة، ومعنىً للعيش.
وهذه الحاجة تأتي في أعلى الهرم، منحصرة في أضيق زواياه.
مشكلة الإنسان المادي الذي لم يتصل بالسماء، أنه سيعتبر نفسه، بعد هذه الرحلة الطويلة في طلب إشباع حاجاته، وتحقيق رغباته، يلهث وراء سراب!
ذلك لأن أيا من إملاءات العقائد والفلسفات الإنسانية غير المتصلة بالله، والتي هي ثمرة المحطة الأخيرة من محطات الحاجات الإنسانية العليا: تحقيق الذات، لن تجيبه عن الأسئلة الكبرى فيما يختص:
بالمنشأ: وهو «الخلق ونفخ الروح والتكليف».
والمستودع: وهو «منهج العيش المتوازن في الحياة الدنيا».
والمستقر: الذي هو «المآلات والمصائر في الحياة الاخرة».
لذلك سيشعر من لم يفتح كُوَّة في سقف هرم ماسلو تتطلع للسماء، أو على الأقل تنشغل بعمل الخير للآخرين احتسابا – بحسب آخر تعديلات النظرية – بأنه محاصر في قمته:
بغموض، وضبابية، وظلمة في البصيرة، لن يستطيع تحملها، وهو الذي قضى حياته كلها، وهو يستجيب لرغباته، وأتقن أنه يسعى بذكاء وإصرار لتحقيقها..
فكيف تتأبى عليه راحة البال الآن في آخر شوط من رحلته وهو قد وصل لقمّة مجده، وغاية إحكامه لمقدرات حياته، وسيطرته عليها؟
المسلم في المرحلة الأخيرة من مراحل تطوره، يرى بجلاء:
أنه لا حول ولا قوة إلا بالله،
وأنه إلى الله راجع، وأن الله تعالى هو:
وليُّ الإمداد…
المقيت للأشباح والأرواح…
المستعان على كل ما يطرأ…
فيسكن تحت طائلة الأقدار،
ويدور مع مراد الله حيث دار.
ولقد فقه ابن القيم رحمه الله هذا، فصنف سِفرا يصف الرحلة الإنسانية، التي رأى أنها:
تبدأ من الحماسة في السعي والقصد، لتصل إلى النضج والإجمال في الطلب، وأسمى ذلك السِفر:
مدارج السالكين بين «إياك نعبد (لاحظ نسبة العبادة للنفس)، وإياك نستعين»
(وفيه الانخلاع التام من الحول والقوة).
فالمرحلة الأخيرة من مراحل النمو الإنساني عند ابن القيم إذاً، هي مدرج الاعتراف والاستسلام لله بأنه تعالى:
الممد، المقيت، المعين…
فيحصل الركون إليه سبحانه، والفرار إلى جنابه الكريم، ويتحقق للمتوكل عليه سبحانه، التأمين الذهبي الشامل في معيته الدائمة، وذلك عند الإحسان في أداء ما أُمر به.
وهذه لعمري، هي جنة الدنيا، وقمة الاستقرار، وراحة البال: (سيهديهم ويصلح بالهم).
اللهم اجعلنا ممن توكل عليك حق التوكل، واستعان بك في كل أحواله.
التعليق:
بمجرد الانتهاء من قراءة المقال قفز إلى ذهني تصريحان عن الحضارة الغربية، التي أفرزت ما نشاهده اليوم من ازدياد معدلات الانتحار المادي والانتحار المعنوي والانتحار الاجتماعي.
الأول لأندريه مالر وزير الثقافة الفرنسي الأسبق:
(إن حضارتنا هي أول حضارة في التاريخ تجيب بـ «لا أدري» على سؤال: هل للحياة معنى ؟)
والتصريح الثاني لفاكيلاف هافل، المؤلف المسرحي (رئيس جمهورية التشيك) حين فسر الجانب التفكيكي في عصر ما بعد الحداثة فقال:
(هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في ظل أول حضارة ملحدة).
نصان مكتنزان بالدلالات الخاصة بالحضارة الغربية لاسيما أنهما صدرا من داخلها ويحتاجان إلى تداول هادئ بين المثقفين للوقوف على حقيقة تلك الحضارة التي تقف عاجزة عن فهم المعنى الحقيقي للحياة وحفظ أبنائها من الاستسلام للعدمية واستسهال فكرة الانتحار للتخلص من هموم الحياة، ونكباتها أو هروبا من حال الخواء الروحي والجفاف الإيماني بعدما حرموا من معرفة حقيقة الخلق وكنه الحياة ومعنى الموت وما بعد الموت.
(المصدر: صحيفة الراي الالكترونية)