الدعوةُ لهدم الكعبة اليوم تخدم غرضَ اليهود في هدم المسجد الأقصى
بقلم محمد رجب حميدو
( 1 ) : في هذا الوقت الذي تهمُّ فيه إسرائيل بهدم بيت المقدس ، فتقدّمُ رِجْلاً ، وتُؤخر رِجْلاً، تخوُّفاً من انتفاضةٍ إسلامية كبرى؛ تخشى إسرائيلُ من عواقبها الوخيمة..
في هذه الآونة تقوم بعض الأبواق العميلة؛ بنشر أبحاث يدعون فيها إلى هدم الكعبة، وإعادة بنائها من جديد ، متذرعين إلى ذلك بالقول أن البناء الحالي للكعبة ليس بناء إبراهيم وإسماعيل ، وإنما هو بناء المشركين قبل البعثة النبوية بخمس سنوات . ناسين أو متناسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شارك فيه وهو الذي بنى الحجر الأسود في مكانه الحالي.
والغريب أن بعض المغفلين من خريجي الأزهر ؛ ما أسرع ما انبروا للخوض في هذا الموضوع بين مؤيد ومعارض ، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن فتاواهم لن تقنع أحدا من المسلمين بهدم بيت الله الحرام ، ولكنهم – مع ذلك – يُصرُّون على إثارة الموضوع لغاية في أنفس العملاء منهم ، أو لغفلة بعض قصار النظر الذين يؤثرون المخالفة طلبا للشهرة بين الناس؛ عملا بقول القائل “خالف تعرف” .
وليت هؤلاء فكروا في الأمر قليلا ، لئلا يقعوا ضحية المكر الذي يحيكه اليهود لهم بإثارة هذا الموضوع الخطير .. إنهم يثيرون مسالة هدم الكعبة ، لإحداث بلبلة بين المؤيدين والمعارضين ، وحسب اليهود هذا الشغب السخيف ؛ ليتخذوا منه مُبرراً لهم في هدم المسجد الأقصى؛ الذي بات وشيكا . ولو اعترض على اليهود معترضٌ في هدمه لقالوا : إن بعض علماء المسلمين يطالبون بهدم الكعبة من غير مبرر وجيه لهدمها، والكعبة عندكم أكثرُ قداسةً من المسجد الأقصى، فلماذا الممانعة من هدمه؟ ونحن لنا هيكل تحته نريد استخراجه .؟؟
تلك هي المكيدة الخبيثة ؛ التي يحيكها عملاء اليهود اليوم ؛ بإثارتهم لموضوع إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم وإسماعيل .
( 2 ) : ولإقناع السُّذَّج من الببغاوات الذين يرددون النصوص من غير فهم لمراميها، ولا انتباه لضرورة وضعها في سياقها الصحيح .. أقول : لإقناع هؤلاء؛ فقد احتج الداعون إلى هدم الكعبة بأحاديث رويت في الصحيحين وفي كتب السنن وفي مسند أحمد وغيره ؛ ومدارها جميعا ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال صلى الله عليه وسلم « يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ » صحيح البخاري
وعنها رضي الله عنها أنها قالت : « سَأَلْتُ النَّبِيَّ : عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ ؟ قَال : نَعَمْ . قُلْتُ : فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ ؟ قَالَ : إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ . قُلْتُ : فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا ؟ قَالَ : فَعَلَ ذَاكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاؤُوا ، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاؤُوا ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ فِي الأَرْضِ » صحيح البخاري
وعنها رضي الله عنها قالت : « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « يا عائشة لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ – أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ – لأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالأَرْضِ وَلأَدْخَلْتُ فِيهَا مِنَ الْحِجْرِ » صحيح مسلم .
وعنها رضي الله عنها قالت : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتِ الْكَعْبَةَ » صحيح مسلم .
ومن مجموع هذه الروايات يتضح أنه صلى الله عليه وسلم كان يُفضِّلُ :
أولا – أن يعيد بناء البيت على قواعد إبراهيم وإسماعيل ويدخل ستة أذرع كانت قريش اقتصرتها من حجر إسماعيل عند بناء البيت قبل البعثة النبوية بخمس سنين .
ثانيا – أن يجعل للكعبة بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا ملصقين بالأرض.
ثالثا – أن ينفق كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
ولكنه صلى الله عليه وسلم امتنع عن ذلك لعدة أسباب :
( منها ) : أنه راعى حال مسلمة الفتح من قريش ، الذين لا يتصورون أن يهدم بيت الله لأي سبب من الأسباب ، وهم الذين سمعوا بل وبعضهم كان ممن شاهد جيش ابرهة ؛ وهو يهلك عن آخره حين جاء لهدم الكعبة . فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بهدم البيت فيعارضه مسلمة الفتح من قريش وهم حديثو عهد بكفر ، فيسخط الله عليهم فيهلكهم لمخالفتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم .
( ومنها ) : أنه لم يكن لديه صلى الله عليه وسلم من المال ما يمكنه من القيام بهدم البيت وإعادة بنائه ، وكان سوف يضطر لإنفاق كنز الكعبة لتحقيق هذا الغرض . وبيع كنز الكعبة ربما دفع بعض مسلمة الفتح إلى الاعتراض على بيعه ، وقد يفتح ذلك بابا للنزاع بين المسلمين . وعدم فتح هذا الباب أولى ، سدا لذرائع السوء .
( ومنها ) : إن الله تعالى لم يأمره بذلك ، واختار له ولبيته الحرام بقاء ما كان على ما كان . فعاش صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة سنتين ؛ ولم ينقل عنه أنه عاد للحديث في هذا الأمر مرة أخرى . مما يدل على أن ذلك لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم ..وإلى هذا الاستنتاج مال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري .
ومن المحتمل أن يكون عَنَّ له صلى الله عليه وسلم فعلُ ذلك ؛ موازنا في هذا الأمر ما بين فاضل ومفضول . ولولا الموانع التي ذكرها صلى الله عليه وسلم لفعل الفاضل ، ولكنَّ وجود تلك الموانع جعلته صلى الله عليه وسلم يعدل عن القيام بالعمل الفاضل و( هو إعادة بناء البيت) ، إلى إيثار المفضول و( هو إبقاء البيت على ما هو عليه ) ، لأنه أسلم وأحكم ، ولأن عدم هدم البيت – من ناحية ثانية – يوافق رغبة المجتمع القرشي الذي أسلم حديثا ، وهو مجتمع قد نشأ في العموم على تعظيم البيت الحرام ، ويؤلمه أن يُهدم لأي سبب من الأسباب . فراعى النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الاعتبارات وعدل عن الفكرة من أساسها .
وقد أفاد الفقهاء وعلماء الأصول من هذا الحديث بمختلف رواياته ؛ قاعدة شرعية تقول : ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” والمصلحة هنا هي ” إعادة بناء المسجد الحرام على قواعد إبراهيم وإسماعيل ” والمفسدة هي : تعريض المسلمين حديثي العهد بالجاهلية إلى الفتنة ، وربما هلكوا بمعارضتهم له صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر .
( 3 ) : وقد يقول قائلهم : لماذا تستنكرون الدعوة إلى إعادة بناء الكعبة ، وها هو عبد الله ابن الزبير لما بويع بالخلافة سنة 64 بعد وفاة يزيد بن معاوية رضي الله عنه ، قام بما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فهدم البيت ، وأعاد بناءه .؟؟؟
وجوابنا على ذلك : أن عبد الله بن الزبير وجد أن الكعبة أصابتها حرائق يوم غزاها يزيد بن معاوية بجيشه من أهل الشام ، فوهن بنيانها ، وخشي ابن الزبير من أن تتهدم بعد زمن قصير ، فاستشار الناس في ذلك ؟ فقال له عبد الله بن عباس : أرى أن تصلح ما وهى من هذا البيت ، وتدع بيتاً أسلم عليه الناس ، وأحجارا أسلم عليها الناس ، وبُنية بُعث عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم .. فقال ابن الزبير : لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يُجدَّده فكيف بيت ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثا ؛ ثم عازم على أمري.
فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماه الناس وخافوا أن ينزل بأول من يصعد لهدمه عذاب من السماء . حتى صعده رجل وبدأ يهدم ، فلما لم يصبه شيء تتابعوا في الهدم .. وجعل ابن الزبير ستائر للبيت ، أقامها على أعمدة من حوله ليحجبه عن الأنظار ، ثم بنوه على قواعد إبراهيم وإسماعيل ، وجعل له بابين شرقيا وغربيا وأدخل في البيت من الحجر ست أذرع .. وزاد في ارتفاعه عشرة أذرع .
ومن خلال حوار ابن الزبير وابن عباس ؛ نجد أن ابن الزبير قدر أن البيت بحاجة ماسة إلى تجديد بنائه، فاستند إلى الحديث الذي روته خالته عائشة أم المؤمنين، وأقدم على الهدم والبناء .. بينما كان ابن عباس كارها لهدمه ميالا غلى إصلاحه فقط .
ولما استشهد ابن الزبير وصلبه الحجاج بن يوسف الثقفي ؛ كتب لعبد الملك بن مروان يخبره بصنيع ابن الزبير. فكتب إليه عبد الملك يقول : أما ما زاد في ارتفاع البيت فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فردَّه إلى بنائه السابق، وسُدَّ الباب الغربي الذي فتحه .. فنقضه الحجاج وأعاده إلى بنائه السابق .
ويبدو أن ابن الزبير اقتصر على هدم الجدارين الشمالي الذي فيه ميزاب الرحمة والغربي فقط . أما الجداران الجنوبي والشرقي فلم يهدما إلى الأرض ، لأن الباب الغربي الذي أغلقه الحجاج بن يوسف بأمر من عبد الملك كما علمنا آنفاً مرتفعُ على محاذاة الباب الشرقي الحالي . ومعنى هذا أن الحجر الأسود بقي في مكانه الذي وضعه فيه النبي صلى الله عليه وسلم حين اختلفوا فيمن يكون له شرف بنائه في مكانه ، فحكموا أول داخل إلى الحرم ، فكان الأمين هو ذلك الداخل ، فقالوا رضينا بمحمد الصادق الأمين حكما بيننا . فوضع الحجر في توب وأخذ كل واحد من زعماء قريش بطرف من الثوب ، ورفعوا به الحجر ، فتناوله النبي وبناه في مكانه الحالي .
أما الركن اليماني فيبدو أنه ما زال قائما على بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .. مما يجعل لهذا البناء القائم الآن قداسة ، يجب المحافظة عليها ..
( 4 ) : ثم لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس ، استشار الخليفة المنصورُ الإمامَ مالكَ بنِ أنس رحمه الله في هدم ما بناه الحجاج ، وإعادة الكعبة إلى بناء ابن الزبير .؟؟ فقال مالك مستنكرا ذلك : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحدٌ منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس.. فعدل الخليفة المنصور عن ذلك . ثم لم يفكر أحد من المسلمين بهدم الكعبة ، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي على وجوب إبقاء الكعبة على ما كانت عليه ، لئلا تسقط هيبتها أو تمتهن بتكرار الهدم والبناء .
( 5 ) : وهناك أمر جدير بالذكر ، وهو أن البيت الحرام لم يؤمر إبراهيم ببنائه ليُصلِّيَ الناس فيه ، وإنما ليُصلَّى إليه .. ولو أُمرنا ( بالصلاة فيه) أي في داخله ؛ لما أمكن ذلك إلا بهدم الكعبة وتوسعتها بين فترة وأخرى ، ولكان لزاما اليوم أن تهدم مكة كلها ، ويقام بناء كعبة مكانها ليتسع داخلها لكل الحجيج ، الذين يتجاوز عددهم المليونين أو الثلاثة ملايين .. وفي هذا من الحرج ما لا يعلمه إلا الله ..
ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الكعبة مخالفة لكافة بيوت الله في الأرض ، وذلك من حيث أن المسلمين قد أمروا بالصلاة (إليها) ، لا بالصلاة (فيها) ..قال تعالى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ 144} البقرة . حتى إن صلاة الفريضة في داخل الكعبة مختلف في جوازها .
ولهذا ، فإنني أرى أن هؤلاء الداعين إلى هدم الكعبة وتوسعتها ؛ هم حفنة من الجهلة العابثين ، الذين يهرفون بما لا يعرفون . ويجب أن يوقفوا عند حدهم . لأن تجاوزاتهم قد تخطت كل الحدود والقيود .
هؤلاء ليسوا من الشيوخ الذين يسيرون في ركاب السلطان ، وإنما هم من الشيوخ الذين يدورون في فلك الشيطان .. والعياذ بالله .
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)