مقالاتمقالات مختارة

الدروس والعبر المستفادة من هجرة المسلمين إلى الحبشة

الدروس والعبر المستفادة من هجرة المسلمين إلى الحبشة

بقلم د. علي الصلابي (من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ)

1 – إنَّ ثبات المؤمنين على عقيدتهم، بعد أن يُنْزِلَ بهم الأشرار، والضَّالون أنواع العذاب، والاضطهاد دليلٌ على صِدْق إيمانهم، وإخلاصهم في معتقداتهم، وسموِّ نفوسهم، وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضَّمير، واطمئنان النَّفس والعقل. وما يأملونه من رضا الله – جلَّ شأنُه -، أعظمُ بكثير ممَّا ينالُ أجسادَهم، من تعذيبٍ، وحرمانٍ، واضطهادٍ؛ لأنَّ السيطرة في المؤمنين الصَّادقين، والدُّعاة المخلصين، تكون دائماً وأبداً لأرواحهم، لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم، من حيث لا يبالون بما تتطلَّبه أجسامهم، من راحةٍ، وشبعٍ، ولذَّةٍ، وبهذا تنتصر الدَّعوات، وبهذا تتحرَّر الجماهير من الظُّلمات، والجهالات.

2 – ممَّا يتبادر إلى الذِّهن من هذه الهجرة العظيمة، شفقة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشَّديد للبحث عمَّا فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذَّهاب إلى الملك العادل؛ الَّذي لا يُظْلم أحدٌ عنده، فكان الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأمنوا في دينهم، ونزلوا عنده في خير منزلٍ، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم هو الَّذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة، وهو الَّذي اختار المكان الامن لجماعته، ودعوته؛ كي يحميها من الإبادة، وهذه تربيةٌ نبويَّةٌ لقيادات المسلمين في كلِّ عصرٍ أن تخطِّط بحكمةٍ، وبُعْد نظرٍ لحماية الدَّعوة، والدُّعاة، وتبحث عن الأرض الامنة الَّتي تكون عاصمةً احتياطيَّةً للدَّعوة، ومركزاً من مراكز انطلاقها – فيما لو تعرَّض المركز الرَّئيسيُّ للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه – فجنود الدَّعوة هم الثَّروة الحقيقية، وهم الَّذين تنصبُّ الجهود كلُّها لحفظهم، وحمايتهم دون أن يتمَّ أيُّ تفريطٍ في أرواحهم، وأمنهم، ومسلمٌ واحدٌ يعادل ما على الأرض من بشرٍ خارجين عن دين الله، وتوحيده.

3 – كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددةً، ولذلك حرص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعياتٍ معيَّنةٍ لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضيَّة الإسلام، وموقف قريشٍ منه، وإقناع الرَّأي العامِّ بعدالة قضيَّة المسلمين على نحو ما تفعله الدُّول الحديثة من تحرُّكٍ سياسيٍّ، يشرح قضاياها، وكسب الرَّأي العامِّ إلى جوارها، وفتح أرضٍ جديدةٍ للدَّعوة، فلذلك هاجر سادات الصَّحابة في بداية الأمر، ثمَّ لحق بهم أكثر الصَّحْب، وأوكل الأمر إلى جعفر رضي الله عنه.

4 – إنَّ وجود ابـن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقيَّـة – رضي الله عنهم جميعاً – في مقدِّمة المهاجرين له دلالةٌ عميقةٌ، تشير إلى أنَّ الأخطار لا بدَّ أن يتجشَّمها المقرَّبون إلى القائد، وأهله، ورحمه، أمَّا أن يكون خواصُّ القائد في منأىً عن الخطر، ويُدْفَع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة؛ فهو منهجٌ بعيدٌ عن نهج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

5 – مشروعية الخروج من الوطن – وإن كان الوطن مكَّة على فضلها – إذا كان الخروج فراراً بالدِّين – وإن لم يكن إلى دار إسلام – فإنَّ أهل الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبيَّن ذلك في هذا الحديث – يعني: حديث أمِّ سلمة المتقدِّم – وسُمُّوا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الَّذين أثنى الله تعالى عليهم بالسَّبق، فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ﴾

وجاء في التفسير: إنَّهم هم الذين شهدوا بيعة الرِّضوان، فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر لـمَّا كان فعلهم ذلك احتياطاً على دينهم، ورجاء أن يُخلي بينهم وبين عبادة ربهم؛ يذكرونه امنين مطمئنين، وهذا حكمٌ مستمرٌّ متى غلب المنكر في بلدٍ، وأوذي على الحقِّ مؤمنٌ، ورأى الباطل قاهراً للحقِّ، ورجا أن يكون في بلدٍ آخر – أيَّ: بلدٍ كان – يخلَّى بينه وبين دينه، ويظهر فيه عبادة ربِّه؛ فإن الخروج على هذا الوجه حقٌّ على المؤمن، هذه هي الهجرة؛ الَّتي لا تنقطع إلى يوم القيامة: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115].

6 – يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواءٌ كان المُجِير من أهل الكتاب كالنَّجاشي؛ إذ كان نصرانيّاً عندئذٍ، ولكنَّه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركاً؛ كأولئك الَّذين عاد المسلمون إلى مكَّة في حمايتهم، عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالبٍ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكالمُطْعِم بن عديِّ، الذي دخل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم مكةَ في حمايته عندما رجع من الطَّائف. وهذا مشروطٌ – بحكم البداهة – بألاَّ تستلزم مثل هذه الحماية إضراراً بالدَّعوة الإسلاميَّة، أو تغييراً لبعض أحكام الدِّين، أو سكوتاً على اقتراف بعض المحرَّمات، وإلاَّ لم يَجُزْ للمسلم الدُّخول فيها؛ ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه، ولا يحمِّله ما لا يطيق، فلا يتحدَّث عن الهة المشركين بسوءٍ، فقد وطَّن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمِّه، وأَبى أن يسكت عن شيٍ ممَّا يجب عليه بيانه، وإيضاحه.

7 – إنَّ اختيار الرَّسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطةٍ استراتيجيَّةٍ مهمَّةٍ، تمثَّلت في معرفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم بما حوله من الدُّول، والممالك، فقد كان يعلم طيِّبها مِنْ خبيثها، وعادلها مِنْ ظالمها، الأمر الَّذي ساعد على اختيار دارٍ امنةٍ لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدَّعوة؛ الَّذي لا بدَّ أن يكون ملمّاً بما يجري حوله، مطَّلعاً على أحوال، وأوضاع الأمم، والحكومات.

8 – يظهر الحسُّ الأمنيُّ عند الرَّعيل الأوَّل في هجرتهم الأولى، وكيفية الخروج، فيتمثَّل في كونه تمَّ تسلُّلاً، وخفيةً؛ حتَّى لا تفطن له قريشٌ، فتحبطه، كما أنَّه تمَّ على نطاقٍ ضيِّقٍ، لم يزد على ستة عشر فرداً، فهذا العدد لا يلفت النَّظر في حالة تسلُّلهم، فرداً، أو فردين، وفي الوقت ذاته يساعد على السَّير بسرعةٍ، وهذا ما يتطلَّبه الموقف؛ فالرَّكب يتوقَّع المطاردة، والملاحقة في أيِّ لحظةٍ، ولعلَّ السِّرِّيَّة المضروبة على هذه الهجرة، فوَّتت على قريشٍ العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخَّراً، فقامت في إثرهم؛ لتلحق بهم، لكنَّها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحداً، وهذا ممَّا يؤكِّد على أنَّ الحذر هو ممَّا يجب أن يلتزمه المؤمن في تحرُّكاته الدَّعوية، فلا تكون التَّحرُّكات كلُّها مكشوفةً، ومعلومةً للعدوِّ؛ بحيث يترتَّب عليها الإضرار به وبالدَّعوة.

9 – لم ترضَ قريشٌ بخروج المسلمين إلى الحبشة، وشعرت بالخطر الَّذي يهدِّد مصالحها في المستقبل، فربَّما تكبر الجالية هناك، وتصبح قوَّةً خطرةً، ولذلك جدَّ المشركون، وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريشٌ تلاحق المهاجرين؛ لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيطٍ محكمٍ ذكيٍّ؛ بالهدايا إلى النَّجاشيِّ، والهدايا إلى بطارقته، ووُضِعتِ الخطَّة داخل مكَّة، وكيف تُوزَّع الهدايا، وما نوعية الكلام الَّذي يرافق الهدايا، وصفات السُّفراء، فعمرٌو من أصدقاء النَّجاشي ومعروفٌ بالدَّهاء . ما أحوجنا إلى ألا نستصغر عدوَّنا، وألا ننام عن مخطَّطاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقيَّ، وندرس تحرُّكاته؛ لنستعدَّ لمواجهة مخطَّطاته الماكرة!.

10 – نُـفِّذت خطَّة قريشٍ بحذافيرها كاملـةً، ولكنَّها فشلت؛ لأنَّ شخصيـة النَّجاشيِّ الَّتي تمَّ جوارها رفضت أن تسلِّم المسلمين قبل السَّماع منهم؛ وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين؛ ليعرضوا قضيَّتهم العادلة، ودينهم القويم.

11 – اجتمع الصَّحابة حين جاءهم رسول النَّجاشي، طلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكلُّ أمرٍ يتمُّ عن طريق الشُّورى هو أدعى إلى نجاحه؛ لأنَّه يضمُّ خلاصة عقولٍ كثيرةٍ. وتبدو مظاهر السُّموِّ التَّربويِّ في كون الصَّحابة لم يختلفوا، بل أجمعوا على رأيٍ واحدٍ، ألا وهو: أن يُعرض الإسلامُ كما جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، كائناً في ذلك ما هو كائن، وعزموا على عرض الإسلام بعزةٍ؛ وإن كان في ذلك هلاكهم.

12 – كان وَعْيُ القيادة النَّبويَّة على مستوى الأحداث، ولذلك وُضِع جعفر بن أبي طالبٍ على إمارة المسلمين في الهجرة، وتمَّ اختياره من قِبَلِ المسلمين المهاجرين؛ ليتحدَّث باسمهم بين يدي الملك؛ وليتمكَّن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصيَّة جعفر بعدَّة أمورٍ، جعلتها تتقدَّم لسدِّ هذه الثُّغرة العظيمة؛ منها: أنَّ جعفر بن أبي طالبٍ من ألصق النَّاس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد عاش معه في بيتٍ واحدٍ، فهو أخبر النَّاس بقائد الدَّعوة، وسيِّد الأمَّة من بين كلِّ المهاجرين إلى الحبشة. وهذا الموقف بين يدي النَّجاشيِّ يحتاج إلى بلاغةٍ، وفصاحةٍ، وبنو هاشم قمَّةُ قريش نسباً، وفضلاً، وجعفر في الذُّؤابة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشماً من كنانة، واختار نبيَّه من بني هاشم؛ فهو أفصح النَّاس لساناً، وأوسطهم نسباً. وهو ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يجعل النَّجاشيَّ أكثر اطمئناناً، وثقةً بما يعرض عن ابن عمِّه.

13 – كان عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو يمثِّل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مستوىً كبيرٍ من الذَّكاء، والدَّهاء، والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كلَّ ما لديه من حُجَّةٍ، وألقى بها بين يدي النَّجاشيِّ، من خلال النقاط الآتية: تحدَّث عن بلبلة جوِّ مكة، وفساد ذات بينها، من خلال دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو سفير مكَّة، وممثِّلها بين يدي النَّجاشيِّ، فكلامه مصدَّقٌ، لا يعتريه الشَّكُّ، وهو عند النَّجاشيِّ موضع ثقةٍ.

وقد تحدث عن خطورة أتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم، فربما يزلزلون الأرض تحت قدمي النَّجاشيِّ، كما أفسدوا جوَّ مكَّة، ولولا حبُّ قريش للنَّجاشيِّ، وصداقتها معه؛ ما تعنَّوا هذا العناء لنصحه: «وأنت لنا عَيْبَة صدقٍ، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك» فلا أقلَّ من ردِّ المعروف بمثله، وتحذيره من هذه الفتنة المخيفة. وأخطر ما في أمرهم هو خروجهم على عقيدة النَّجاشيِّ، وكفرهم بها: فهم لا يشهدون: أنَّ عيسى ابن مريم إلهٌ، فليسوا على دين قومهم، وليسوا على دينك؛ فهم مبتدعةٌ، دعاة فتنةٍ. ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به: أنَّ كل النَّاس يسجدون للملك لكنَّهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتمُّ إيواؤهم عندك، وهو عودةٌ إلى آثارة الرُّعب في نفسه من عدم احترام الدُّعاة له، حين يستخفُّون بملكه، ولا يسجدون له، فكان على جعفر أن يفنِّد كلَّ الاتِّهامات الباطلة، التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين.

14 – كان ردُّ جعفر على أسئلة النَّجاشيِّ في غاية الذَّكاء، وقِمَّة المهارة السياسية، والإعلاميَّة، والدَّعويَّة، والعقديَّة؛ فقد قام بالتَّالي:

  • عدَّد عيوب الجاهليَّة، وعرضها بصورةٍ تنفِّر السَّامع، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركَّز على الصِّفات الذَّميمة؛ الَّتي لا تُنتزع إلا بنبوَّة.
  • عرض شخصيَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، في هذا المجتمع الآسن، المليء بالرَّذائل، وكيف كان بعيداً عن النَّقائص كلِّها، ومعروفاً بنسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فهو المؤهَّل للرِّسالة.
  • أبرز جعفر محاسن الإسلام، وأخلاقه، الَّتي تتَّفق مع أخلاقيَّات دعوات الأنبياء؛ كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرَّحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم، والدِّماء، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة؛ وكون النَّجاشي وبطارقته موغلين في النَّصرانية؛ فهم يدركون: أنَّ هذه رسالات الأنبياء؛ الَّتي بعثوا بها من لدن موسى، وعيسى عليهما الصَّلاة، والسَّلام.
  • فضح ما فعلته قريشٌ بهم؛ لأنَّهم رفضوا عبادة الأوثان، وامنوا بما نُزِّل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتخلَّقوا بخلقه.
  • أحسن الثَّناء على النَّجاشيِّ بما هو أهله، بأنَّه لا يُظْلم عنده أحدٌ، وأنَّه يقيم العدل في قومه.
  • وأوضح: أنَّهم اختاروه كهفاً من دون النَّاس، فراراً من ظلم هؤلاء الَّذين يريدون تعذيبهم. وبهذه الخطوات البيِّنة الواضحة دَحَرَ بلاغة عمرٍو، وفصاحته، واستأثر بلُبِّ النَّجاشي، وعقله، وكذلك استأثر بلُبِّ وعقل البطارقة، والقسِّيسين الحاضرين.

وعندما طلب الملك النَّجاشيُّ شيئاً ممَّا نُزِّل على محمَّد صلى الله عليه وسلم ؛ جاء صدر سورة مريم، في غاية الإحكام والرَّوعة، والتأثير، حتَّى بكى النَّجاشيُّ، وأساقفته، وبلَّلُوا لحاهم، ومصاحفهم من الدُّموع، واختيار جعفر لسورة مريم يُظْهر بوضوحٍ حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدَّث عن مريم وعيسى عليهما السَّلام.

إنَّ عبقرية جعفر رضي الله عنه في حسن اختيار الموضوع، والزَّمن المناسب، والقلب المتفتِّح، والشُّحنة العاطفيَّة أدت إلى أن يربح الملكَ إلى جانبه.

كان ردُّه في قضية عيسى – عليه السَّلام – دليلاً على الحكمة، والذَّكاء النَّادر، فقد ردَّ بأنهم لا يُؤَلِّهون عيسى ابن مريم، ولكنَّهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم – عليها السَّلام – كما يخوض الكاذبون؛ بل عيسى ابن مريم كلمة الله، وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطَّاهرة، وليس عند النَّجاشي زيادة عمَّا قال جعفر، ولا مقدار هذا العود.

هم لا يسجدون للنَّجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوا بالله شيئاً! ولا ينبغي السُّجود إلا لله؛ لكنَّهم لا يستخفُّون بالملك؛ بل يوقِّرونه، ويسلِّمون عليه كما يسلِّمون على نبيِّهم، ويحيُّونه بما يُحيي أهلُ الجنَّة أنفسَهم به في الجَّنة.

انتهى الأمر بأن أعلن النَّجاشيُّ صدق القوم، وأيقن بأنَّ هؤلاء صدِّيقون، وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الَّذي يأتيه ناموسٌ كناموس موسى، وأن يتقرَّب إلى الله بحماية أصحابه، وأكَّد لعمرٍو: أنَّه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه.

15 – انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسية، ومعنويّاً، وإِعلاميّاً أمام مقاومة المسلمين الموفَّقة، وخطواتهم، وأساليبهم الرَّصينة.

16 – كان موقف جعفر، وإخوانه مثالاً تطبيقيّاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من التمس رضا الله بسخط النَّاس؛ كفاه الله مُؤْنَة النَّاس، ومن التمس رضا النَّاس بسخط الله؛ وَكَلَهُ الله إلى النَّاس»، فهؤلاء الصَّحابة رضي الله عنهم قد التمسوا رضا الله – عزَّ وجلَّ – مع أنَّ الظَّاهر في الأمر: أنَّه يترتَّب عليه في هذه القضيَّة سخط أولئك النَّصارى، وهم الَّذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النَّتيجة: أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – سخَّر لهم ملك الحبشة، حتَّى نطق بالحقِّ الموافق لدعوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، مع مخالفته الصَّريحة لمعتقدهم المنحرف؛ الَّذي قام عليه مُلْكُهُم، وما يغلب على الظَّنِّ من ثورة النَّصارى المتعصِّبين عليه.

17 – كان عند بعض النَّصارى إيمانٌ صحيحٌ بدينهم، ولكنَّهم يكتمون ذلك، لكون الغلبة والسِّيادة في الأرض لأصحاب الدِّين المحرَّف، ومن الَّذين كانوا على الاعتقاد الصَّحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراةً لقومه، وإبقاءً على نفسه، وملكه، فلـمَّا وقع في هذا الابتلاء؛ أظهر إيمانه، إرضاءً لربِّه، وإراحةً لضميره، وانتصاراً لحزب الله المؤمنين، مهما ترتَّب على ذلك من نتائج؛ فكان بهذا الموقف من عظماء التَّاريخ.

18 – ومن دروس هجرة الحبشة: أنَّ الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحةٍ لا يضرُّ. قال ابن تيميَّة – رحمه الله! -: وهو يقرِّر العذر بالجهل: «ولـمَّا زِيدَ في صلاة الحضر حين هاجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كان مَنْ بعيداً عنه – مثل من كان بمكَّة، وبأرض الحبشة – يصلُّون ركعتين، ولم يأمرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإعادة الصَّلاة».

وقال الذَّهبيُّ: «فلا يأثم أحدٌ إلا بعد العلم، وبعد قيام الحجَّة، وقد كان سادة الصَّحابة بالحبشة ينزل الواجب، والتَّحريم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل، حتَّى يبلغهم النَّصُّ».

19 – ومن دروس هجرة الحبشة تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهاداً، ميَّز الله أصحابها، وخصَّهم بالذِّكر، والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة، وإن تآخر لحوقهم بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حتَّى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكَّده النَّبيُّ لأصحاب السَّفينتين، فعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: ودخلت أسماءُ بنت عُمَيس – وهي ممَّن قدم معنا – على حفصةَ زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النَّجاشيِّ فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة – وأسماء عندها – فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماءُ بنت عُمَيس، قال عمر: الحبشيةُ هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت: كلا والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنَّا في دار – أو في أرض – البُعَداء الْبُغَضَاءِ بالحبشة، وذلك في الله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم . وايمُ الله لا أطعَمُ طعاماً، ولا أشربُ شَراباً، حتَّى أذكر ما قلتَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن كنا نُؤْذَى، ونُخاف، وسأذكر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأسأله، والله! لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه. فلـمَّا جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبيَّ الله! إنَّ عمرَ قال: كذا، وكذا. قال: «فما قلت له؟» قالت: قلتُ له: كذا، وكذا. قال: «ليس بأحقَّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرةٌ واحدةٌ، ولكم أنتم أهل السَّفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى، وأصحاب السَّفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما مِنَ الدُّنيا شيءٌ هم به أفرحُ، ولا أعظم في أنفسهم ممَّا قال لهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

20 – كانت بداية إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه بأرض الحبشة، وهذا بلا شكٍّ أثرٌ من آثار الهجرة للحبشة، وبرهانٌ على ما حقَّقه المهاجرون من مكاسب للدَّعوة، من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثيرٌ من المرويات تتَّجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النَّجاشيِّ، وهو المشهور كما يقول ابن حجر، وهي لطيفةٌ لا مثل لها؛ إذ أسلم صحابيٌّ على يد تابعيٍّ، كما يقول الزُّرقاني، وهناك ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنه.

21 – يرتبط زواج الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأمِّ حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطاً وثيقاً، ويحمل هذا الزَّواج منه صلى الله عليه وسلم لإحدى المهاجرات الثابتات معنىً كبيراً، وكان عقد الزَّواج على أمِّ حبيبة رضي الله عنها؛ وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السُّنَّة، فقد روى أبو داود في سننه بسندٍ صحيح عن أمِّ حبيبة رضي الله عنها: أنَّها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوَّجها النَّجاشيُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة الاف، وبعث بها إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع شُرَحبيل بن حسنة.

ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحدث المهمِّ، متابعةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصَّابرين، وتقدير ثبات الثَّابتين. وبالتَّتبُّع لأحوال المهاجرات، لا نجد (أمَّ حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة الَّتي يُعنى الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها، فلـمَّا رجعت مع زوجها إلى مكَّة من الحبشة، توفِّي زوجها السَّكران بن عمرو، فلـمَّا حلَّت؛ أرسل إليها صلى الله عليه وسلم ، وخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مُري رجلاً من قومك يزوِّجك، فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودٍّ، فزوَّجها، فكانت أوَّل امرأة تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة.

وهذان الحدثان مؤشِّران من مؤشِّرات حِكَم تعدُّده صلى الله عليه وسلم في الزَّواج بشكلٍ عامٍّ، ولهما دلالتهما، وحكمتهما بالاهتمام بالنِّساء المجاهدات بشكلٍ خاصٍّ، هذا فضلاً عمَّا يمكن أن يقال من أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف أيضاً من وراء الزَّواج بأمِّ حبيبة، تخفيف عداوة «بني أميَّة» بشكلٍ عامٍّ، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكلٍ أخصَّ للإسلام، ونبيِّه، والمسلمين.

فالتَّأليف للإسلام واردٌ في السِّيرة، والرَّسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على قومه بكلِّ وسيلةٍ لا تتنافى مع قيم الإسلام.

22 – يرى بعض الباحثين: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبُّ أن يهاجر إلى الحبشة، لأسبابٍ كثيرة؛ منها:

– أنَّه ثبت – كما سيجيء – رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دار الهجرة: أرضاً ذات نخلٍ، بين حرَّتين، وأنَّه ظنَّها هجر.

– طبيعة الوضع الجغرافيِّ للحبشة؛ الَّذي يعوق انتشار الدَّعوة، وبسط سلطانها على العالم.

– أنَّ اختيار الجزيرة العربيَّة ومكَّة بالذَّات، ثمَّ المدينة لنزول الوحي، وانطلاق الدِّين لم يكن اتِّفاقاً، بل كان لمميزاتٍ كثيرة.

– أنَّ هذه البيئة الحبشيَّة لم تكن لتسمح لهذا الدِّين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحيَّة، ولم تكن الرُّومان – وهي المهيمنة على المسيحيَّة في العالم – لتسمح للحبشة بذلك.

23 – كان للهجرة إلى الحبشة أثـرٌ في الحطِّ من مكانة القرشيِّين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدَّعوة، وحملتها؛ إذ كانت البيئة العربيَّة تفتخر بإيواء الغريب، وإكرام الجار، وتتنافس في ذلك، وتحاذر السُّبَّة، والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشاً، ويُؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف النَّاس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى