مقالاتمقالات مختارة

الدحيحيون

الدحيحيون

بقلم محمود الغنام

العقلية وراء أنصار الدحيح

منذ قرابة شهر، استَعَرَت المواجهة بين الدحيح وأنصاره من جهة، والمتصدين للدعاوى المادية الإلحادية في محتواه من جهة أخرى، وأشهر هذه النزالات إلى الآن، كانت من نصيب د/ إياد قنيبي، المتمرس في تناول هذه الدعاوى والرد عليها، وإن كانت من قبلها ردود من متمرسين أيضًا، مثل د/ هيثم طلعت، وأخرى من غير متمرسين وغير مشهورين، وقد كانت لي ملاحظات واعتراضات – منذ ما يزيد على العام- على أحد فيديوهاته؛ أي الدحيح، يقدم فيها جزءًا من نظرية التطور حقيقة مثبتة تعلق بها نبرة ساخرة من الوازع الديني الرافض، عندما أطلعني عليها أحد أصدقائي طالبًا رأيي فيها، وقد كانت حلقة تملؤها المضحكات المبكيات؛ مصادر عفى عنها الزمن، وتنصّل منها منظّرو التطور الحاليين، بعدما على عليها مصادر أكثر عقلانية ومنطقية وعلمية، لا مزورة ولا مؤدلجة تنقض عُرى العقل عُروة عُروة، وطريقة عرض لا تنتمي إلى العلم من أي جانب، والكل يصدق ويُؤمّن!

لكن ليس هذا موضع تناول الأفراد، ولا تخصصاتهم، ولا درجاتهم العلمية، ولا المحتوى تفصيلًا، ولا صحة الدعاوى المادية الإلحادية من عدمها؛ إنما الموضع موضع تناول وعرض العقلية، وسمات الشخصية التي شكّلت أنصار الدحيح، المؤمنين بكل ما يقول، والمستميتين في الدفاع عنه، ولا يشمل هذا كل متابع؛ لذلك كنت حريصًا على استخدام لقب «الدحيحيون»، ووصف أنصار الدحيح، وربما – على صعيد آخر- توضّح هذه الأزمة لنا كيف يتعامل العقل الجمعي مع الدعوات الجديدة المناهضة لثوابته أو معتقداته.

سمات العقلية وراء أنصار الدحيح:

1- الاتباع:

«ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب: في ملبَسه، ومركَبه، وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل في سائر أحواله.» *ابن خلدون في مقدمته

التبعية سمة واضحة في الإنسان؛ لكونه كائنًا اجتماعيًّا بفطرته، وفي النظام الاجتماعي يجب تدرج المناصب تدرجًا هرميًّا، وهو المشاهد في عصرنا الحالي، وعلى امتداد ما نعرفه من التاريخ في أعظم الحضارات تقدمًا، أو المجتمعات البسيطة سيان، وقد أكد القرآن الكريم هذه السمة في عدة آيات منها قوله – تعالى-: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ» [الأنعام: 165]

وقوله تعالى: «نَرْفَعُ  مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» [يوسف: 76]

وأيضًا قوله تعالى: «وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ  لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا» [الزخرف: 32]

وقد أرسل الله الرسل ليُتَبعوا في دعوتهم إلى اتباع دين الله، فدين الإسلام أصلاه: الإخلاص والاتباع، فليست المشكلة في الاتباع؛ بل في المتبوع، وفي حالتنا، فالتبعية لبعض الأفكار الغربية تصل إلى حد الاعتناق وأشبه بالتدين، وهذا يتماشى مع ما يسمى: دين العلم، أفكار كقدسية العلم – وإن كان التجريبي فقط- والثورة على القديم، ولا حضارة حديثة على عادات وأفكار قديمة، ويشمل ذلك الدين ضمنيًّا.

وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي الذي نعيشه بتعمّق في عالمنا العربي، وعلى وجه الخصوص في مصر، فإن للغالب والمغلوب حِسابات أخرى، فالغالب هو: ذائع الصيت، كثير الإعجابات والمشاركات والمشاهدات، المتحدث في كل أمر هائمًا في كل وادٍ، صانع التوجهات والرواج أو ما يعرف بـ«الترند: Trend»، المُخاِلف ليُعرف، والأخيرة تجذب الكثير، وحدث ولا حرج، أما المغلوب فهو غير ذلك، المتطلع إلى ذلك، والسبيل إلى هذا هو التشبّه بالغالب في جميع أحواله، وأفكاره، واتباعه حذو النَعل بالنَعل.

فسمة الاتباع مشتركة بين كل البشر، لا عيب فيها ولا نقصان؛ لكن الاختلاف يأتي في المتبوع، ويترتب عليه العقل والرزانة، أو الخطل والسفه.

2- ادعاء الثقافة:

قبل عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أو قبل سيطرته البالغة، لم يكن من العيب ألا تمتلك رأيًا في كل حادثة ونازلة، في كل مجال وضرب؛ بل كان النقيض والسخرية ممن يدّعي أنه له، والكل يعرف مضرب المثل بأبي العُرّيف، وها هي الثورة على القديم ونتاج التجديد المطلق الذي يسري كالنار في الهشيم في مجتمعنا، فقد أصبح أبو العُرّيف قدوة وأيقونة يُحتذى بها، ومع صعود مصطلح الترند وهيمنته، أصبح لزامًا على كل فرد المسابقة إلى ركوب موجة الترند أيًّا كان، والمسارعة إلى نشر الرأي الشخصي عن علم كان، أو غير ذلك، وهو الأغلب.

المثقف شخص ذو سعة اطلاع، وكلما اتسع اطلاعه أدرك أنه يجهل أكثر وأكثر، كما قال الغزالي – رحمه الله- في مثل هذا السياق، فهو يعلم الحد لإحاطته بأمر في تخصصه، ويعلم أن له حدًّا في عدد التخصصات، فكيف بما لم يتخصص فيه، وما زاده بذله ونَصَبه سعيًا للإحاطة والعلم إلا تواضعًا أمام بحر المعرفة؛ لكن هؤلاء أدعياء ثقافة، تابعون لمسلّعي الثقافة، فلا حد لهم ولا تخصص، كالمرجل يغلي بالكِبر والتعالي، وعلى أي شيء هذا الكبر وهذا التعالي لا ندري! وما هو إلا إثبات ما لا يكون، أو كون ما لا يُثبت.

وأرى في تلك السلعة البخسة وجبة دسمة لأدعياء الثقافة هؤلاء، ثقافة لا تعب فيها ولا وصب، فأمثال هؤلاء أتباع شهوة لا هِمة وشِرة، وأي شيء خير من هذا لهم! قد فُصلت هذه الثقافة المُدّعاة لهم تفصيلًا، وهمّوا ليتقمصوها فلا تنخلع عنهم أبدًا.

3- التفاهة:

أن تكون تافهًا، يجعلك جذابًا، وكلما زادت تفاهتك، زادت جاذبيتك.

لا أجد حِدة زائدة أو تحاملًا في اختياري كلمة تفاهة؛ بل حاولت تجميل الواقع المخجل قليلًا؛ لكن خمر أبي الروقاء ليس بمسكر! طغت التفاهة على المحتوى الرائج على منصات التواصل، وسيطرت على توجهات الرواد والمتابعين، وأصبحت السلعة المربحة، والصنعة التي يتفانى الناس في حذقها، وهي في سوق القيمة تتلافظها الأيدي؛ لأنها لُفاظة لا تصلح للتداول، ولا وصف لها غير القمامة التي جيّشت الذباب حولها، فهم لها جند تحت لواء: لما لا تتركونا نمرح؟ فاتخذوا كل شيء هزؤًا ولعبًا، وغرّتهم الحياة الدنيا، وهذا يتضح جليًّا في دفاعهم عن أي محتوى تافه مهما تعرّض للمقدسات وعرّض بها وهذه المرة تحت لواء: إنما كنّا نخوض ونلعب، وإن كان المحتوى بمسحة علمية، فيكون اللواء: ما دخل الدين بالعلم؟ وليت شعري عن أي ثقافة حيزت لهم يتحدثون!

رغم إفنائهم معظم أوقاتهم في التفاهة ومنتجاتها، تجدهم لا يصرّحون بتفضيلهم المحتوى التافه، أو ميلهم إلى النبوغ فيه، بل هم راجحو العقل أكثر منك، يزن رأس الواحد منهم بلدة بأكملها، وَفقًا لآخر الدراسات، مثقفون ومطلعون أكثر منك استنادًا إلى المراجع العلمية الموثوقة، والمعلومات الكاملة بشتى فروعها التي يتابعونها في حلقات الدحيح وأقرانه، يعلمون من الدين ما لم تعلمه: أن الدين يسر ووسطية، وفوق كل ذلك، لديهم حس فكاهي ونوادر الأمصار والبشر.

وخلاصة القول:

إنها شهوة يجب عليهم إشباعها ضربة لازب، اللعب واللهو والانغماس في تراب الأرض ولئلاء الدنيا وزينتها، وشهرة وقشور ثقافة يروحون ويغدون على ذُراها، يملؤهم الزهو، وتستخفهم الخيلاء، ويميد بهم العُجب المُحِط من رأي صاحبه والمُستنقِص من عقله.

فلا تتوقع من هؤلاء وأقرانهم -إلا من رحم- أن يتقبلوا هدم ذلك الصنم صَنعة أيديهم، ويتخلّوا عن إشباع غرور النفس بالثقافة مع نيل حظها من التفاهة، ويعترفون بأنهم خواء إلا من زيف وزهو فارغ، أو أن يسمحوا لشيء أن يكفكف من تلك النشوة أو يسلبهم مكانتهم المصطنعة.

ومهما أقلبهم ظهرًا لبطن فلا أجد إلا نفوسًا ضعيفة خانعة متقاعسة تيَّاهة، تبتغي نجاحًا زائفًا، كما تبتغي ثقافة زائفة وشخصية زائفة، بناؤها فاعل بالركاكة والزيف، تنتعل العُجب لتدوس به من لا يرضيها جيئة وذهابًا، وتلك شنشنة نعرفها منهم.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى