مقالاتمقالات مختارة

الخَبِـيــر يَســلـــم | بقلم د. عادل بن حسن الحمد

الخَبِـيــر يَســلـــم | بقلم د. عادل بن حسن الحمد

من خطة أهل الشر في زماننا هذا، إضفاء الشرعية على مخططاتهم الإفسادية، وسلكوا في ذلك مسالك عدة، منها: استدراج العالم أو طالب العلم أو الداعية لمدح مشروعهم، أو المشاركة فيه، أو الإفتاء بجوازه، من غير أن ينظر إلى أعماق مرادهم من هذا المشروع، أو التاريخ الذي اختير فيه لإطلاق هذا المشروع، أو تاريخ ومسيرة هؤلاء الناس الذين يستدرجونه.

وأكثر من يقوم بإنجاز هذه المهمة لكبار المفسدين، المستخدمون من الإعلاميين، فيستدرجون العالم أو طالب العلم أو الداعية في لقاءات إعلامية للحديث عن بعض المشاريع ثم يدسون سمومهم ويوقعون العالم أو طالب العلم أو الداعية في شرهم ويستخدمونه في إضفاء الشرعية على باطلهم.

ولذلك نحن بحاجة إلى العالم الخبير، وطالب العلم الخبير، والداعية الخبير، لكشف مخططات هؤلاء الأعداء ولا يكون مستخدما فيها.

والخبير هو من يفقه بواطن الأمور، قال ابن تيمية رحمه الله: ((الْخَبَرُ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ، وَمِنْهُ الْخِبْرَةُ بِالْأَشْيَاءِ؛ وَهُوَ الْعِلْمُ بِبَوَاطِنِهَا، وَفُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِكَذَا، وَالْخَبِيرُ بِالْأُمُورِ؛ الْمُطَّلِعُ عَلَى بَوَاطِنِهَا وَمِنْهُ الْخَبِيرُ. وَهُوَ الْفَلَاحُ الَّذِي يَجْعَلُ بَاطِنَ الْأَرْضِ ظَاهِرًا)).(مجموع الفتاوى 18/ 31)

ومع كثرة الشرور من حولنا، واستهداف العالم بأسره لنا، يستلزم من العالم وطالب العلم والداعية التدقيق في الأعمال التي يشاركون فيها، أو يثنون عليها، فإنهم قد يتسببون في ضياع أجيال من أمة الإسلام.

وأخطر من ذلك أن يأتي العالم أو طالب العلم أو الداعية بفكر جديد استجابة لضغط المجتمع، أو ضغط الليبراليين، بحجة تجديد الخطاب الديني، أو بحجة مواكبة العصر، يمهد فيه للباطل من حيث يشعر أو لا يشعر، يقصد أو لا يقصد، ثم تأتي الطامة الكبرى من إخوانه المقربين الذين يثنون على ما كتب من غير تمحيص، وهي من آفات زماننا هذا؛ استجلاب المدح للنفس بإشاعة مدح الآخرين في الوجه.

ولعلي أذكر برجلين خرجا من محضنين فقهيين كانا السبب في فساد الحياة الاجتماعية إلى اليوم، الأول (قاسم بك أمين)، والثاني (الطاهر حداد). وكان خروجهما بسبب جمود فقهاء عصرهما على نمط معين من التعليم والخوض في قضايا الفقه وانصرافهم عن حل مشكلات الواقع ورفع الظلم والجهل عن الأمة.

ولا يتسع المقام لذكرهما بالتفصيل، ولكني أقتصر على ذكر (قاسم أمين) والذي اشتغل بالقضاء، وصاحب العلماء، ودرس في أشهر محضن علمي وهو الأزهر. ألف كتابه (تحرير المرأة) كردة فعل على منع تعليم المرأة وتربيتها، والذي لم يتصدَّ له فقهاء عصره بالبيان، ولم يسعوا في إصلاح الوضع الاجتماعي المبني على الجهل والذي يجعل العادات والتقاليد مقدمة على الدين.

هذا الكتاب الذي يعتبره علماء هذا العصر سبب انحراف المرأة وسفورها، يعتبره الأستاذ محمد رشيد رضا غاية الغايات في التربية فقال عنه: ((نوَّهنا في أجزاء من (المنار) بكتاب (تحرير المرأة) وكتاب (سر تقدُّم الإنكليز السكسونيين)، وكيف لا ننوِّه بهما؟! وهما غاية الغايات في فن التربية الذي نحن في أشد الحاجة إليه)). مجلة المنار 18/282

((وأما كتاب (تحرير المرأة)، فإنني وددت لو يُنشر في (المنار) إلا قليلاً.حكمة رائعة. في عبارة بارعة، ومعنى دقيق. في لفظ رقيق، وما رأيتُ مكتوبًا في الأنام.ما جعل الحكمة على طرف الثمام، مثل الذي رأيت في هذا الكتاب.ومن خصائصه أنه أحدث أثرًا في الأمة التي كِدنا نحسبها ميتة، لا تشعر بمؤلم، ولا ملائم؛ لأننا أمسينا كما قال شاعرنا:

غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا يعان ولا الداعي إلى الشر يُخذل)). المرجع السابق

مع جلالة قدر الشيخ محمد رشيد رضا، وجهوده في خدمة الإسلام التي لا تنكر، ومع ذلك لم يدرك خطر هذا الكتاب وما فيه إلا بعد ما جاءته رسالة من أديب من أدباء سوريا يبين له فيها الأثر السيئ لهذا الكتاب على بنات المسلمين.

ولعل من الأخطاء التي توقع العالم أو طالب العلم أو الداعية في مثل هذا الموضوع، تخليه عن الواقع الأليم الذي يعيشه الناس اليوم، والتزامه الصمت عن إنكار المظالم الواقعة على الناس في مختلف الميادين. والناس يبحثون عن حلول تخرجهم مما هم فيه، فيتصدى لها من يدس السم في العسل، ويبعد الناس عن الله أكثر، ويغرقهم في أوحال الشرك والمعصية والتعلق بغير دين الله! ويُلَبِّس على الناس دينهم.

والخطورة أن نُستخدم في تأييد ذلك فنقع في مثل ما وقع فيه من سبق.

ومما يُبين أهمية (الخبير) في حياة العلماء وطلاب العلم والدعاة قول ابن تيمية رحمه الله: ((مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ لَيْسَ بِصَوَابِ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ كَانَ أَفْضَلَ. فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ؛ بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُفَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُوقهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَأْتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ. وَهُوَ كَمَا قَالَ عُمَرُ؛ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ هُوَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ نَشَأَ فِي الْمَعْرُوفِ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ فَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْمُنْكَرِ وَضَرَرِهِ مَا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْجِهَادِ لِأَهْلِهِ مَا عِنْدَ الْخَبِيرِ بِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الْخَبِيرُ بِالشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ إذَا كَانَ حَسَنَ الْقَصْدِ عِنْدَهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَمَنْعِ أَهْلِهِ وَالْجِهَادِ لَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ إيمَانًا وَجِهَادًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ لِلْخَيْرِ وَبُغْضِهِمْ لِلشَّرِّ لِمَا عَلِمُوهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِي
مَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقُبْحِ حَالِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ ذَاقَ الْفَقْرَ وَالْمَرَضَ وَالْخَوْفَ أَحْرَصَ عَلَى الْغِنَى وَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا يُقَالُ: وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ.وَيُقَالُ: وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَسْتُ بِخِبٍّ وَلَا يَخْدَعُنِي الْخِبُّ.

فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ وَكَمَالُ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرَّ فَذَاكَ نَقْصٌ فِيهِ لَا يُمْدَحُ بِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ وَأَكْرَهُ لَهُ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْهُ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الطَّبِيبُ أَعْلَمَ بِالْأَمْرَاضِ مِنْ الْمَرْضَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطِبَّاءُ الْأَدْيَانِ فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ وَيُفْسِدُهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَذُقْ مِنْ الشَّرِّ مَا ذَاقَهُ النَّاسُ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِذَوْقِهِ الشَّرَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَالنُّفُورِ عَنْهُ وَالْمَحَبَّةِ لِلْخَيْرِ إذَا ذَاقَهُ مَا لَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَقَدْ عَرَفَ مَا فِي الْكُفْرِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَعَرَّفَهُ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَرْغَبَ فِيهِ وَأَكْرَهَ لِلْكُفْرِ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ؛ بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ بَعْضِ حَقِيقَةِ هَذَا وَحَقِيقَةِ هَذَا أَوْ مُقَلِّدٌ فِي مَدْحِ هَذَا وَذَمِّ هَذَا.(مجموع الفتاوى 10/ 300)

وقال أيضا: ((وَهَذَا أَمْرٌ كُلَّمَا تَدَبَّرَهُ الْخَبِيرُ ازْدَادَ بِهِ خِبْرَةً وَعِلْمًا، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ، أَوْ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالْوَاقِعِ أَوْ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.وَالْجَهْلُ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ بِالنَّظَرِ فِيهَا يُورِثُ الْجَهْلَ)).(منهاج السنة النبوية 6/ 156)

فيا أيها الفضلاء خذوا حذركم فالعدو متربص بكم، فلا تكونوا عونا له على إخوانكم.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى