بقلم راجي سلطاني
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت له وظيفتان عظيمتان، إيصال الرسالة والتبليغ عن ربه، ثم رئاسة الدولة الإسلامية الناشئة وترتيب أمورها وتنظيم شؤونها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رسولاً وأميراً.
فلمّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم (يوم الاثنين،12ربيع أول عام11هـ، 8 يونيو632م)، هُرع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وناقشوا أمر خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارة الدولة وحماية الدين، فاتفقوا بعد خلاف بين المهاجرين والأنصار على تولي الصدّيق أبي بكر خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع الخلفاء من بعده، في خلافة راشدة (11هـ/41هـ)، ثم خلافة أموية على شكل ملك وراثي (41هـ/132هـ)، ثم خلافة عباسيّة على شكل ملك وراثي (132هـ/656هـ)، ثم عصر دويلات إسلامية كثيرة، ثم خلافة عثمانية على شكل ملك وراثي (699هـ/1341هـ)، ثم عصر دويلات قطرية يحكمها حكّام بطرق وراثية، أو بطرق جبرية عسكرية.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك التتابع التاريخي في شكل الدولة الإسلامية في حديثه المعجز، الذي رواه أحمد، والذي يقول: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
لمّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم، أدرك الصحابة رضوان الله عليهم الواجب واللازم، وهو وجود خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم يقوم على أمر الدين والدولة، بل أدرك الصحابة رضوان الله عليهم أن ذلك أوجب من دفن النبي عليه السلام، فأخّروا دفن النبي إلى أن حسموا الأمر واختاروا أبا بكر خليفة.
لا توجد نصوص صريحة وقاطعة في وجوب أن ينصب المسلمون على رأسهم خليفة أو أميراً يجمع المسلمين تحته في بلد واحدة؛ ليحكمها بحكم الله وشريعته، لكن الظاهر قطعاً، أن تنصيب خليفة أو أمير على المسلمين هو من الواجب الحتمي، الذي لا يحتاج إلى نصوص قرآنية أو حديثية من أجل التأكيد على وجوبه وحتميته.
لا توجد نصوص صريحة وقاطعة في وجوب أن ينصب المسلمون على رأسهم خليفة أو أميراً يجمع المسلمين تحته في بلد واحدة؛ ليحكمها بحكم الله وشريعته، لكن الظاهر قطعاً، أن تنصيب خليفة أو أمير على المسلمين هو من الواجب الحتمي، الذي لا يحتاج إلى نصوص قرآنية أو حديثية من أجل التأكيد على وجوبه وحتميته
الإسلام دين ودولة، وأحكامه التي تسيّر حركة الدولة لا تقل عن أحكامه التي تسيّر حركة الفرد، ولن تطبّق أحكامه الخاصة بالدولة والنظام الحاكم إلا في دولة يحكمها خليفة أو أمير، وبالتالي فتنصيب خليفة أو أمير على دولة الإسلام أمر واجب بالشرع وبالعقل، ووجوبه بالشرع وجوب من خلال فهم روح الإسلام وفهم فلسفته وأبعاده، وليس من خلال نصوص صريحة قاطعة، ووجوبه بالعقل وجوب قاطع واضح.
فإذا ما اتفقنا على وجوب إقامة الدولة الإسلامية، ووجوب تنصيب خليفة أو أمير عليها، فإن التساؤل من بعد ذلك: هل يجب أن تكون دولة الإسلام دولة واحدة، تجمع كل سواد المسلمين، أم لا ضير أن تكون دولة الإسلام دولاً كثيرة، تجمع كل دولة بعضاً من سواد المسلمين، ويقوم على كل دولة أمير أو خليفة، يدير أمر بلده في معزل عن البلدان الأخرى، على أن يطبِّق حكم الإسلام، ويسير بمنهجه في كل صغيرة وكبيرة؟
الواقع كما قلنا أن النصوص القرآنية والحديثية لم تتحدث قاطعة في المسألة، فلا هي قطعت في مسألة وجوب الخلافة، ولا في مسألة شكلها (دولة واحدة أو دول متعددة).
والذي ظهر لعلماء الإسلام الأوائل، والذي سارت عليه الأمة عبر تاريخها، أن تكون دولة الإسلام دولة واحدة، يقوم عليها خليفة واحد أو أمير واحد، ولكن على الرغم من ذلك، فإن التاريخ الإسلامي لم يخلُ من تعدد الدول الإسلامية في الزمن الواحد، فلم يمنع وجود دولة إسلامية مركزية (دولة الخلافة) من تعدد الدويلات الصغيرة المستقلة في أنحاء مختلفة من جغرافيتها، فتعددت الدول الإسلامية المستقلة عن الخلافة العباسية مثل: دولة المماليك (648-923هـ/1250-1517م(، والدولة الأيوبـية (567-648هـ/1172-1250م(، والدولة الفاطمية (358-567هـ/969-1172م)، والدولة الحمدانية (317-399هـ/929-1009م)، والدولة الإخشيدية (323ه-358هـ/935م-969م)، والدولة الطولونية (254-292هـ/868-905م)، والدولة الغزنوية (351-582هـ/962-1186م)، والدولة السامانية (266-389هـ/880-999م)، والدولة الصفارية (254-290هـ/868-903م)، والدولة الطاهرية (205-259هـ/821-873م)، ودولة الأغالبة (184-296هـ/800-909م)، ودولة الأدارسة (172-364هـ/789-975م)، والدولة الرستمية (160-296هـ/777-909م)، والإمارة في الأندلس (138-422هـ/ 750-1031م(. وكذلك تعددت الدول المستقلة عن الخلافة العثمانية في مصر والحجاز والمغرب وغيرها.
سقطت الخلافة الإسلامية بعد ذلك عندما أعلن مصطفى كمال أتاتورك نهاية الخلافة العثمانية وقيام الدولة التركية عام (1924م)، وعندها ظهرت في بلاد العرب والمسلمين الحركات والتوجهات الإسلامية التي تنادي بعودة الخلافة كمظلّة جامعة للمسلمين.
وظهرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر على يد مؤسسها “حسن البنا” في عام (1928م)، والتي كانت أول وأقوى من نادى بعودة هذه الخلافة، وتعدّدت الجماعات والأحزاب الإسلامية التي تشكل فروعاً لجماعة الإخوان في البلاد المختلفة. وجدت شبه وحدة تنظيمية بين فروع الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمون) في البلاد المختلفة، وكان أول وأعظم ما يجمع هذه الفروع العمل من أجل إحياء فكرة الخلافة الإسلامية في نفوس الأمة والعمل لها.
تعرّضت الحركة الإسلامية وفروعها إلى حرب كبيرة من الأنظمة القُطرية الحاكمة، وكذلك من المحيط الإقليمي والعالمي، فلمّا اشتدت الوطأة على الحركة الأم وعلى فروعها، سارعت كثير من الفروع إلى إعلان فكّ ارتباطها بالحركة الأم، بل سارع بعض القادة والمفكرين إلى الحديث عن فكرة الدولة القطرية والرضا بها، وعن استحالة عودة الخلافة الإسلامية بمعناها التقليدي (الدولة الإسلامية الواحدة التي تجمع كل سواد المسلمين).
في البداية، ظهرت بعض الأفكار التي حاولت حلّ الإشكالية، فتحدثت عن دول إسلامية قطرية، تجتمع في تعاون اقتصادي وعسكري، بصورة تشبه الاتحاد الأوروبي القائم، ثم بعد ذلك ظهرت الدعوات الأقوى إلى إلغاء فكرة الخلافة الإسلامية التقليدية من العقل الإسلامي تماماً، والعمل من أجل إقامة الدولة القطرية الإسلامية، التي يقوم عليها رئيس أو أمير، فيطبق منهج الإسلام في دولته، ويكون مستقلاً استقلالاً تاماً عن بقية الدول الإسلامية من حوله.
وكان من أول من نادى بذلك من مفكري الإسلاميين -على ما رأيت- الدكتور “محمد سليم العوا” -وهو مفكر إسلامي مستقل عن جسد الحركة الإسلامية الحركية المنظمة، وإن كان قد بدأ حياته فيها، ثم استقل عنها فيما بعد- وكان العجيب الذي يلفت الانتباه أن يتبنى هذا الطرح الشيخ “راشد الغنوشي” -أحد أكبر قيادات ومفكري الحركة الإسلامية المنظمة- في تطور فكري وحركي عجيب وملفت، يحتاج إلى دراسة وتحليل، ومن قبله يتحدث “عبد الإله بن كيران” عن ذلك، وهو قائد كبير من قادة ومفكري الحركة الإسلامية المغربية.
لما طال الزمن بالقادة والمفكرين، ولما اشتدت الوطأة عليهم وعلى حركاتهم من الأنظمة المحلية والإقليمية والعالمية، ألجأهم ذلك إلى البحث عن حلول أخرى، فذهبوا إلى القول بالدولة القطرية، وإلى القول باستحالة عودة الخلافة الإسلامية بمعناها التقليدي المستقر في العقلية التاريخية الإسلامية، ومثل هذا الطرح لا يصادم حقيقة النصوص القرآنية والنبوية في شيء، فهي كما قلنا لم توجب الدولة الواحدة ولا الخليفة الواحد.
لما طال الزمن بالقادة والمفكرين، ولما اشتدت الوطأة عليهم وعلى حركاتهم من الأنظمة المحلية والإقليمية والعالمية، ألجأهم ذلك إلى البحث عن حلول أخرى، فذهبوا إلى القول بالدولة القطرية، وإلى القول باستحالة عودة الخلافة الإسلامية بمعناها التقليدي المستقر في العقلية التاريخية الإسلامية
لكنها تصادم ما استقر في العقلية الإسلامية منذ بداية التاريخ الإسلامي إلى اليوم، الذي يشبه الإجماع في كل العصور الإسلامية بوجوب اتحاد المسلمين جميعاً في دولة واحدة، يقوم عليها أمير واحد.
مما ساعد على الطرح الجديد الذي ينادي بالدولة القطرية الإسلامية وإلغاء فكرة الخلافة الجامعة، اتساع الجغرافيا الإسلامية بما لم يحدث من قبل، واستحالة جمع كل هذه الجغرافيا بأعراقها ولغاتها في كيان واحد، ومما ساعدهم كذلك على طرحهم وجود هذه الدول القطرية الإسلامية المتعددة في تاريخ الإسلام في عصور مختلفة، وساعدهم قبل هذا وذاك عدم قطع النصوص القرآنية والنبوية في وجوب الدولة الواحدة والخليفة الواحد.
ويبقى الاتجاه الذي ينادي بالدولة الواحدة والخليفة الواحد مستنداً إلى روح النصوص القرآنية والنبوية التي يُفهم من ظلالها ذلك، وإن لم يُفهم من نصها الظاهر القاطع.
وإذا ساعدهم ظاهر بعض الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) [رواه مسلم]، فإن التأويل لن يعجز أمام ظاهر هذا الحديث، كأن يُقال: “إذا بويع لخليفتين في أرض واحدة، ارتضيتم عليها خليفة، ولا يمنع ذلك من وجود أرض أخرى عليها خليفة آخر ارتضاه أهلها، وكذلك أرض ثالثة ورابعة”.
وكذلك يستندون إلى ما استقر في العقل الإسلامي طوال تاريخ الإسلام وما جرى العمل به، حيث الدولة الإسلامية المركزية الواحدة التي تسعى لبسط سيطرتها على كافة الأنحاء.
الأمر في النهاية ليس مقطوعاً به، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، لكن غالب الرأي أن العمل سيظلُّ في الحركة الإسلامية المنظمة، وكذلك في التيار الإسلامي العام غير المنظم، على عودة الخلافة الإسلامية بشكلها التقليدي، على ما كان عليه الأوائل، وعلى ما استقر عليه العقل الإسلامي طوال تاريخه.
فإن بات الإسلاميون يختلفون حول هذه، فهم لن يختلفوا أبداً في وجوب العمل لعودة الدولة الإسلامية على أي شكل (دولة واحدة، أو دول متعددة)، وعلى وجوب إمارة أمير واحد أو أمراء متعددين عليها، يقومون بتحكيم شريعة الله ومنهجه في كل صغيرة وكبيرة، وأخشى ما نخشاه أن نتطور في التفكير الإسلامي بعد ذلك حتى نختلف في هذه أيضاً!
(المصدر: موقع بصائر)