الخطاب السياسي للإسلاميين!
بقلم د. علي حليتيم
“في البدء كان الكلمة” يوحنا 1:1 هكذا تقول آية الإنجيل المقروء اليوم. لسنا نعلم إن كانت من بقايا كلام الله الذي لم يُمح من الأناجيل، لكننا نعلم أنّ الله عزّ وجلّ خلق الكون بكلامه سبحانه وأنّه جعل في كلامنا من القوة والسحر ما يبعثنا على القول دون خشية الخطل أو الشطط أنّ الأحداث الكبرى في تاريخ البشر إنمّا هي تبعات لكلمة قيلت في الزمن المناسب والمكان المناسب والسياق المناسب، فأطلقت سلسلة التغيير كما تحدث الأنزيمات سلسلة العمليات الكيميائية التي لا رجعة فيها بعد ذلك.
والمتأمل في الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية في الجزائر وفي العالم العربي على العموم قد يعجب حين يدقق النظر من ذلك التناقض بين الواقع المتردي المنهار من جهة وقلة الاستثمار السياسي والثقافي والاجتماعي من قبل الاسلاميين لهذه الفرصة التاريخية للتغيير وطرح البدائل من الجهة المقابلة.
لقد كشفت مرحلة ما بعد الربيع العربي أنّ الدولة الوطنية الحديثة قد كانت -أو تحولت – ثقبا أسودا يلتهم الأيديولوجيا والأخلاق لصالح الهيمنة والسيطرة والتحكم ومصالح المال الفاسد والغرب النيوكولونيالي على حد تعبير الدكتورة هبة رؤوف عزت؛ وكشفت ذات المرحلة أنّ التيارات الفكرية غير الإسلامية لم يعد لها من طروح فكرية سوى التبرير للتبعية والتغريب والدكتاتورية والتبعية والتقسيم (وحين نقول هذا فإننا نقصد الجماعات الوظيفية القائدة للتيار بغض النظر عن وجود أفراد هنا وهناك يشذون عن القاعدة لكنهم لا يؤثرون في التيار) عكس التيار الإسلامي الذي لا يزال يتمسك -في عمومه – بالدِّين والشعوب والوطن.
والعمل السياسي ما هو إلا خطاب يحقق التواصل والتعريف والإقناع والتحريك ويحطم الخصوم.
فلماذا لم يحقق الإسلاميون على المستوى السياسي كل هذه الأهداف وهم الذين عُرفوا طوال ممارساتهم الدعوية أنهم يحسنون الكلام ولا يحسنون غيره وأنهم مجرد ظواهر صوتية لا غير.
لا شك أننا في مقالنا هذا لن ننجر خلف الموضة التي تريد أن تجعل من الإسلاميين مشجبا تعلق عليه كل العيوب والخيبات دون الاعتراف ببعض النقاط المضيئة في الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر مثلما هو حاصل في تونس مع الغنوشي وعبد الفتاح مورو أو في تركيا مع الرئيس أردوغان، لكن يجب كذلك أن نعترف أن الخطاب السياسي الإسلامي -في الجزائر خاصة – يعاني أزمة خطيرة في الشكل والمضمون ويفتقر إلى الإبداع والانسجام والعمق والخيال (سيكون الخيال السياسي للإسلاميين موضوع مقالنا القادم بحول الله) والتأثير الواسع حتى ليبدو الإسلاميون في بعض الأحيان أنهم يكتفون بمصاحبة الأحداث السياسية دون أهداف ولا نتائج ولا خطة استراتيجية تتضمن الاعتراف بالفشل بعد التعرف عليه وتجديد القيادات قصد بعثة جديدة (رغم أنهم مغرمون بكلمة الاستراتيجية حد الهوس)، اللهم إلا إذا كان هدفهم التغني بنتائج هزيلة هي بالهزيمة أوصف، أو البكاء السرمدي على شفافية مفقودة، أو التجني على مقاطعين لم يفلح أحد في إقناعهم بأن انتخابات ستقع بين أيديهم لا خلفهم.
والأسباب عند الإسلاميين هي ذاتها أسباب ضعف الخطاب السياسي عند غيرهم وتتلخص في الدكتاتورية والشمولية وعدم التخصص إذ الزعيم هو كل شيء في المنظمة: الشيخ والمفتي والزعيم والمفكر والصحفي والإداري والمفاوض والمخطط، وإذا أوكل بعض المهام لغيره فإنما هو توكيل صوري شكلي لا يغير شيئا، وإذا تعددت الأقطاب داخل المنظمة الإسلامية فإنها تتعدد حول زعامات أخرى تريد أن تحل محل الزعيم الأول كما يحدث في قطيع الثيران أو قطائع الأسود دونما أثر لزعامة من شرع أو قانون أو ربانية طالما تغنينا بها في الأدبيات.
لا يزال الإسلاميون يضيقون بالرأي الآخر لا سيما إذا كان ذلك الرأي قادما من داخل الدائرة الإسلامية، ولا يزالون بعيدين عن التقييم والتقويم والشورى والتصحيح رغم بعد المؤشرات المشجعة من هنا وهناك حتى شُهروا بين السياسيين بأنهم أبطال الفرص الضائعة والكيانات السياسية الأكبر قاعدة لكن برؤوس صغيرة لا تحسن سوى “الهدرة” التي لا تحرك ولا تزحزح ولا تدل على مضمون جدير بالإعجاب من الأنصار الواعين وجدير بالخوف من الخصوم المتربصين.
آن لنا أن ندرك أن مراجعة الخطة ليس خيانة للمبدأ بل العكس، وأن التغني بالأكابر من السابقين لا يستلزم بالضرورة أننا مثلهم، وأن ندرك أن التقييم العلمي الحقيقي الذي يتبعه التقويم هو السبيل الأقوم نحو المأسسة وإبعاد صنميات الأنا والرداءة والشذوذ عن المواقع المتقدمة ومن ثم تسطير وتحقيق أهداف تكون أشبه بما نزعم أننا نمثله.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)