الخطابات الإسلامية في زمن متحول
بقلم هشام جعفر
برزت شواهد كثيرة في العقد الأخير من القرن العشرين، وعلى مستويات عدة، تقول إن الواقع الذي نعرفه مرتحل، وهناك واقع جديد تتشكل ملامحه، أو برزت بالفعل بعض تضاريسه. فمنذ فترة ليست قصيرة يشهد العالم تحولات في المجالين السياسي والاقتصادي، كما في المجالين الاجتماعي والثقافي… إلخ، وعلى المستويين: الإقليمي والدولي، وكذلك على المستويين الوطني والمحلي، وفى جانب الحركات والقوى السياسية والاجتماعية، كما في جانب الأطروحات الفكرية والخطابات المعرفية والبرامج السياسية.
لقد كان هناك عدد من التطورات العالمية وأخرى جرت في نطاق أمتنا، أسهمت في إبراز أن جل الخطابات الإسلامية السائدة قد استنفدت أغراضها حين لم تستطع أن تكون استجابة مناسبة ومكافئة لمقتضيات الأوضاع الجديدة التي شهدها العالم
وهكذا، فإن الحقبة التي كانت إرهاصاتها آواخر القرن الماضي تستكمل نهايتها مفسحة الطريق أمام تغيرات مستمرة، عميقة وهيكلية في الأوضاع المتعارف عليها من قبل، على صعيد الممارسات والوسائل والسياسات، والقوى والعلاقات، والمؤسسات والشخوص والأفكار، وهذا يعني أن الماضي بحلوه ومره، وخيره وشره، وتنظيماته وشيوخه، وأحزابه وقياداته، ونخبه ومؤسساته، وأطروحاته؛ قد آذنت بالرحيل، مخلية الأرض لواقع جديد لا ندري حتى الآن ما معالمه، وإن بدت بعض ملامحه.
ولقد كان هناك عدد من التطورات العالمية وأخرى جرت في نطاق أمتنا، أسهمت في إبراز أن جل الخطابات الإسلامية السائدة قد استنفدت أغراضها حين لم تستطع أن تكون استجابة مناسبة ومكافئة لمقتضيات الأوضاع الجديدة التي شهدها العالم، وكانت لها تأثيراتها العميقة على أمتنا. الخطاب الإسلامي السائد لم يعد يتيح حلولاً حقيقية للتغيرات النوعية الكبرى التي حدثت في الواقع، بل إن هيمنته واستمراره الآن -فيما أتصور- يمثلان عقبة كأداء في طريق الاستجابة الفاعلة والمناسبة لتغيرات الواقع. فنحن بحاجة الآن إلى تغيير جذري في البنية الفكرية السائدة والمستقرة، تغييرًا يشمل جميع مستويات هذه البنية، بدءًا من المسلَّمات والبراهين التي لم تعد كذلك، ومرورًا بالنظريات والمنظومات الفكرية المتعددة التي أخذت في الانهيار تباعًا، وانتهاءً بالمنظومات المفاهيمية الثابتة والمصطلحات المتداولة التي لم تعد تصلح لزماننا، وصرنا بحاجة ماسة إلى التخلي عنها وليس فقط إعادة قراءتها أو إعادة تعريفها.
أدى عدم حدوث الاستجابة المكافئة والمناسبة للمرحلة الجديدة إلى حدوث تطور في اتجاهين: الأول انزلاق إلى الواقعية الشديدة والبراجماتية في التعامل مع المستجدات. والثاني الوقوف عند الثوابت التاريخية من دون الانتقال بها ومنها إلى “ثوابت جديدة” ترتبط بالمرحلة الجديدة
وإذا كان سقوط الاتحاد السوفياتي 1989م، وانهيار المنظومة الاشتراكية في دولها، وبروز “ما بعد الحداثة” كأسلوب جديد في التفكير يراجع كل مسلمات مشروع “الحداثة” الغربي، بالإضافة إلى العولمة أو الكوكبة وما صاحبها من ظواهر جديدة، وأخيرا يأتي زمن كورونا ليعيد التفكير في مسلماتنا، وإذا كانت هذه التطورات على المستوى العالمي قد بدأت تُبرز نموذجًا معرفيًا جديدًا، ومنهجًا في التفكير مختلفًا عن سابقه على مستوى العالم؛ فإن حرب الخليج الثانية 1991م طرحت إعادة التفكير في النموذج المعرفي السائد في الخطاب العربي ككل، ومنه بالطبع الخطاب الإسلامي، حيث لوحظ وقتها أن تيارات الخطاب العربي الأربعة (الإسلامي واليساري والناصري والليبرالي) احتار كل واحد منها في تحديد الموقف الذي يجب أن يتخذه؛ ناهيك عن الفعل الذي عجز الجميع -بما فيهم الدول والحكومات العربية- عن أن يأتيه ويكون مؤثرًا، بل لم تستطع هذه التيارات أن تحافظ على وحدتها الفكرية والعملية إزاء الزلزال الذي حدث، بل إن ما تلا هذه الأزمة من أحداث -أو بالأحرى القفزات النوعية الكبرى التي جرت في الواقع- كانت أكبر من جميع الدول والتيارات الفكرية والسياسية، لقد عجز الجميع عن الفهم أو تفسير ما يجري، ناهيك عن اتخاذ مواقف أو فعل -أو بالأحرى رد فعل- إزاءها.
وأخيرا؛ فإن حقبة الربيع العربي في سؤال استمرارية نموذج الربيع العربي الانتفاضي أبرزت تناقضات الجميع ومشكلاتهم البنيوية، وكشفت عن مدي مأزق الدولة العربية بمجتمعها المأزوم.
ولقد أدى عدم حدوث الاستجابة المكافئة والمناسبة للمرحلة الجديدة إلى حدوث تطور في اتجاهين: الأول انزلاق إلى الواقعية الشديدة والبراجماتية في التعامل مع المستجدات. والثاني الوقوف عند الثوابت التاريخية من دون الانتقال بها ومنها إلى “ثوابت جديدة” ترتبط بالمرحلة الجديدة، وقد أدّى الوقوف عند الثوابت إلى معرفة ما لا ينبغي فعله وعدم معرفة ما ينبغي فعله، وتحوّل -عندئذ- جلّ الخطاب الإسلامي الذي اتخذ الموقف الثاني إلى خطاب احتجاجي رافض، ومن ثَم غير فاعل وغير واقعي، والواقعية لا تعني هنا تبرير الواقع وقبوله، ولكن تعني القدرة على الفعل. وبدأ يبرز إلى الوجود مشكل على جانب كبير من الأهمية ألا وهو ثبات الرؤية -أو الاجتهاد والفتوى بالتعابير الشرعية- على الرغم من تغير واختلاف الواقع الذي صيغت لأجله هذه الرؤية، وقاد ذلك إلى اتجاه الخطاب نحو تسجيل المواقف التي اتخذت طابعًا هجوميًا لم يستطع أن يفرض بدائل مقنعة للجماهير تتبناها أو ترفضها.
بهذه الخصائص والسمات دخلت الخطابات الإسلامية حقبة الربيع العربي، بما تطرحه من تحديات.
صحيح أن هذه الأوضاع التي أحاطت بكل التيارات الفكرية والسياسية العربية أدت إلى بروز حركة المراجعة داخل كل تيار؛ ولكل منها أسبابه الذاتية: سقوط الاتحاد السوفياتي بالنسبة للتيار اليساري، وعدم قدرة التيارات الإسلامية على تحقيق الآمال المعقودة عليها، وتحدي المد الديني للتيار الناصري، وضعف التيار الليبرالي في واقعنا العربي… إلا أنه يظل الظرف الموضوعي العام الذي أحاط بالجميع قد زاد حدة المراجعة والنقد الذاتي، ودفع الجميع للتخفيف من غلواء امتلاكه “الحقيقة المطلقة” أو “البرنامج الكامل” القادر على أن يحلّ كل معضلات الواقع ومشكلاته، وحدث تطور -نهاية القرن العشرين- يحتاج الإشارة إليه؛ وهو حدوث تفاعل وحوار بين التيارات المختلفة، بعد أن كان كل منها مستغنيًا بنفسه، ومستعليًا بأفكاره عن الآخرين. ومع الأحداث وتصاعدها بدأت تبرز الاختلافات والتمايزات داخل كل تيار، بعد أن كان الجميع يتصور أن كل تيار يتحرك باعتباره كتلة واحدة، ليست هناك اختلافات أو تعدديات داخله.
وأخيرًا؛ فقد حدث تخلٍّ من الجميع عن “الثوابت”، أو ما كان يتوهم أنه من الثوابت التي لا يجوز التخلي عنها، أو على أقل تقدير إعادة التفكير في مضمون ومحددات هذه الثوابت؛ فالمشاركة في الانتخابات البرلمانية من قِبَل الإسلاميين لم تعد عملاً منافيًا للتوحيد -كما كانت عند بعض فصائلهم- بل تخضع للفتوى والجدوى، والأحزاب من قبلهم ليست إما حزب الله أو حزب الشيطان؛ بل أحزاب متعددة لها برامج مختلفة. بل امتد الجدل لمفهوم السياسة ذاته وموقعه من المشروع التغييري الذي تحمله الحركات الإسلامية، الذي كان سمته المميز هو الشمولية، أي شموليته كل جوانب الحياة. ومنظمة التحرير الفلسطينية ومعها كثير من الأنظمة والقوى والتيارات والرموز الفكرية تخلت عن ثوابتها وانزلقت إلى واقعية وبراجماتية في التعامل مع مستجدات توازنات القوى وتغيرات الواقع.
واليساريون مختلفون حول تحديد مضمون “الاشتراكية الجديدة” التي يريدون تقديمها للواقع الجديد. والليبراليون يحاولون تحديد علاقة ما بالدين، بعد أن كانت العلمانية جوهر الفكر الليبرالي.
وهكذا بات الجميع يراجع مسلّماته وثوابته التي كانت من “المقدسات” أو “المطلقات” التي لا يجوز الاقتراب منها.
وبغض النظر عما انتهت إليه هذه التداعيات من غياب نقد ذاتي جذري يؤسس لجديد ويحدث قطعا مع الماضي بأشكاله كافة، أو عجز الحوار بين التيارات الفكرية والسياسية عن توليد مشروع مشترك يعبر عن قيم القرن 21، ويمثل تطلعات شعوب المنطقة، فإن الخطاب الإسلامي برز فيه عدد من الخصائص المهمة التي كان أحد تجلياتها التعددية؛ فالتعددية أصبحت حقيقة واقعة في المجالين السياسي والاقتصادي، كما في المجالين الثقافي والاجتماعي، وبين التيارات الفكرية والثقافية، وداخل التيارات والتنظيمات ذاتها، وبين النماذج التطبيقية المنطلقة من أرضية نظرية واحدة… إلخ.
1- تعددية النماذج التنموية أمام دول العالم الثالث أصبحت حقيقة واقعة، بعد أن شهدنا فشل نماذج التنمية التي تمّت على النمط الغربي في معظم بلدان العالم الثالث، وبروز طرائق أخرى للتنمية يمكن أن تسلكها هذه البلدان بعد النجاح الذي حققته بعض بلدان شرق آسيا في هذا النطاق.
2- بروز الخصوصيات الثقافية والعرقية والدينية كردّ فعل على اتجاهات التنميط والقولبة التي تحملها بعض سياسات العولمة، وبعد التخلي عن القوى الحاكمة أو الضابطة لهذه الخصوصيات، وعلى رأسها الدولة القومية بسلطتها القمعية الضابطة (حالة معظم بلدان أوربا الشرقية).
3- تعددية التطبيقات الرأسمالية، وبروز الاختلافات والمصالح المتناقضة بين دولها، كما صار العالم اليوم أكثر إدراكًا لوجود تشكيلات حضارية وثقافية ودينية متعددة تحتاج إلى الفهم والحوار والتواصل والاتصال.
4- تعددية المؤثرات بدلاً من أحادية المؤثرات في فهمنا وتفسيرنا وتنظيرنا للواقع المعقّد.
5- التعددية التي طالت كل تيار فكري وسياسي في منطقتنا، كما أشرنا من قبل.
وإذا كانت التعددية ـ فيما أتصورـ هي الملمح البارز في طبيعة الخطاب الإسلامي
الجديد، فإنه يحمل عددًا من المقومات والخصائص، وأهمها:
1- اختفاء المطلقات وبروز الاجتهادات المتعددة:
فعلى الرغم من أن مقتضيات الرؤية الإسلامية أن الخطاب الإنساني هو -أولاً وأخيرًا- اجتهادات يقوم بها البشر داخل الزمان والمكان في محاولة دائبة لفهم كلام الله؛ فإن ما ساد في الفترة الماضية هو إضفاء صفة الإطلاق على أفكار وتطبيقات هي في طبيعتها نسبية، وساعد في تفشي هذه الحالة تخندق كل تيار وراء مقولاته الأساسية.
2- انتفاء اليقين المعرفي:
إن المستجدات التي ظهرت والظواهر التي نشأت أشد تعقيدًا من أن يحيط بها العقل البشري، وهذا يعني ضرورة وجود فراغات في فهمنا، وتجعل ما نقدمه من آراء أو أفكار أو حتى إجابات ليست نهائية أو صحيحة، بل مناسبة حيث يصير معيار التقويم للأفكار والآراء ليس صحتها أو خطأها بل مناسبتها أو عدم مناسبتها؛ فمناسبتها تتأتى من: إدراكنا للواقع وحالته، والناس وتطورهم، عندئذ فإن آراءنا وأفكارنا تخضع لمنطق تطوري ارتقائي تراكمي، وهذا الفهم من شأنه أن يدفع حركة الاجتهاد قدمًا، لأنه عندئذ -فقط- لا ينبغي الإصرار على أن ما أنتجه المسلمون ثقافيًا في عصور سابقة هو صالح لكل عصر وزمان، ويصبح الشعور الحقيقي بأننا ما لم ننتج ثقافتنا التي تمثل هويتنا الخاصة؛ فلن نكون منتجين لثقافة إسلامية.
وعندئذ تختفي من قاموسنا عبارات مثل: القول السديد، والقول الصحيح…إلخ، ويصبح ما نقدمه اجتهادًا من بين اجتهادات متعددة تخضع للمراجعة الدائمة والمستمرة من لدن أصحابها، قبل أن تخضع للمراجعة من قِبل الآخرين.
3- ضرورة طرح الأسئلة وليس تقديم الإجابات الجاهزة:
إذا كانت المابعديات في الفكر الغربي (ما بعد السياسة، ما بعد الأيدلوجيا، ما بعد الرأسمالية، ما بعد الشيوعية…) تعبيرًا عن حالة القلق الفكري، والعجز عن وصف ما يحدث من تحولات جارية في العالم بعد الحرب الباردة؛ فإنها تعني في واقعنا ضرورة مراجعة جميع المسلمات التي استقرت في العقول والأفئدة، وهذه المراجعة لا تتضمن بالضرورة التجاوز لها، وإنما تتضمن كما قدّمنا مدى مناسبتها للواقع الجديد.
إلا أن الأهم في نظرنا أن المابعديات من شأنها أن تسهم في عمليات إعادة التفكير، التي تتضمن طرح الأسئلة والتساؤلات في جميع المسائل والقضايا المختلفة كمقدمة ضرورية لإعادة التعريف في ظل سقوط الثنائيات المتعارضة والتعريفات الجامدة والاستقطابية الحادة التي حكمت الفكر الإنساني في عصر الأيديولوجيا، فتحولت المبادئ إلى صيغ جامدة تعيق التجديد أو التعامل مع المستجدات بشكل خلاق، مثل: تقديس صبغة القطاع العام في الاقتصاد بدلاً من ربطه بظروف موضوعية أملته، وتحدد حجمه واتساع نطاقه.
هناك أمثلة كثيرة يمكن أن نقدّمها تدليلاً على ما يتم من عمليات إعادة التفكير وإعادة التعريف، ومن ثم نفي للثنائية المتعارضة: العام والخاص وإعادة تعريف دور الدولة: المساحة والحجم، إعادة تعريف مسألة التمثيل الديمقراطي، إعادة تعريف مفهوم السياسة، وسيادة الدولة، الداخل والخارج، هذه مجرد أمثلة لمسألة المراجعات التي تتم وما تطرحه من أسئلة جديدة وطرق في التفكير مختلفة… إلخ.
4- التخصصية:
كأحد أبرز ملامح سقوط نموذج تقديم الإجابات الكاملة في كل الموضوعات والقضايا كافة؛ فالعالم في حركته الفكرية والثقافية بل والسياسية اتجه نحو ضرورة التعامل مع أطروحات تفصيلية في شكل قضايا ومفاهيم محددة، وأصبح الجميع مطالبين ببيان موقفهم الفلسفي منها، ثم تصوراتهم الإجرائية بشأنها، في هذا الإطار يمكن أن نشير إلى بعض القضايا والملفات التي لها أهمية في الحوار العالمي الدائر الآن: حقوق الإنسان، البيئة، المرأة، الطفل، الأديان، المجتمع المدني، نزع السلاح والسلام الدولي، التنمية، البطالة، التفاوتات، حوكمة التكنولوجيا المستجدة، الأمن السيبراني، العنصرية… إلخ.
وهذه الموضوعات والمفاهيم تحوَّلت من كونها مجرَّد قضايا وموضوعات فكرية إلى منظور تتأسس عليه رؤية متكاملة، وتنبني عليه سياسات وإجراءات، وتتأسس وفقا له حركات ومؤسسات، وتتم وفقا لمنظورها أوضاع والرؤية فتتضمن قراءة أو بالأحرى إعادة قراءة للتراث والتاريخ والواقع، ووفقا لها تعبّر عن حركات وأطراف؛ سواء في شكل فعل سياسي مباشر (أحزاب) أو غير مباشر (جماعات ضغط)، أما محددات هذه الرؤية ومؤشراتها ومضمونها الفكري فهو سبيل تقويم الواقع: واقع الدول والمنظمات والأفكار، وأداة للتدخل.
إن المثقف الشامل، أو الشيخ الذي يفتي في كل الموضوعات، أو التنظيم الشامل الذي يقوم بكل الوظائف والمهام، بل الدولة الشاملة التي تقوم بكل الوظائف والخدمات اختفت أو في سبيلها إلى الاختفاء، وإن لم تكن في سبيلها للاختفاء يجب أن تختفي؛ فالظروف أو البيئة التي ظهرت معها حركات ومفكرون وناشطون يطرحون رؤيتهم، ويصدعون بأفكارهم وبرامجهم، ويشيدون أبنيتهم ومؤسساتهم بشكل شامل، وتقدم إجابات عن كل الأسئلة والموضوعات، إجابات تتسم باليقينية الكاملة والمعرفة الموضوعية الكاملة لكل تفاصيل الواقع؛ البيئة التي أنتجت كل ذلك قد اختفت، وبدأت تظهر “التخصصية” سبيلاً للعمل.
وأخيرا، فإنه يجب التخلص من الثنائيات التي حكمت تفكيرنا في القرن العشرين، والتي يعاد إنتاجها؛ من قبيل نحن والغرب، ونحن والحداثة، والإسلامية في مقابل العلمانية، والقومية والوطنية… إلخ. نحو ثنائيات جديدة تقوم علي استعادة روح الإسلام من خاطفيه لتكون مكونا لتحرر شعوب المنطقة، ودافعا لنضالاتها واحتجاجاتها المتنوعة التي أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى؛ ويعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من: وحشية الشرطة، والفساد، ورأسمالية المحاسيب، وغطرسة من هم في السلطة، والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس، وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوت في الثروة والدخل والفرص… تطول القائمة، ولكن ما يجمعها طلب علي الكرامة والعدالة والحرية؛ فالحركات الاحتجاجية في العالم والمنطقة جزء منه -علي مدار العقدين الماضيين- في جوهرها مطالبات بأن تحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدا بالكرامة والعدالة والتحرر الإنساني.
فهل يمكن لروح الإسلام أن تكون جزءا من هذه الحركة التي ستستمر وتتصاعد ما دامت أسبابها قائمة؟ أم كتب عليه الاختطاف من قبل قوى رسمية وغير رسمية، دولية وإقليمية ووطنية تسعي لتحقيق الهيمنة من دون اعتبار للبشر والمواطنين العاديين؟
(المصدر: الجزيرة)