مقالات مختارة

الخصائص العالمية للتربية الاقتصادية الإسلامية

بقلم كيندة حامد التركاوي

1- التربية الاقتصادية الإسلامية مناسبة للبشر جميعاً:

تُعد التربية الاقتصادية الإسلامية انعكاساً للرؤية التي يرسمها النموذج التنموي الذي يتبناه المجتمع، والمذهب الاقتصادي الذي يستند إليه، وقد بينا سابقاً أن المذهب الاقتصادي يشير إلى الطريقة التي يُفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية كمذهب وحل مشاكله الاقتصادية المختلفة. وبقدر ما ينسجم المذهب المختار مع قيم المجتمع بقدر ما يكون النظام الذي يقوم عليه ناجحاً في تحقيق التنمية الشاملة، والمتوازنة ولذلك فإن الحاجة للتربية الاقتصادية ضرورةٌ ملحة للبشر جميعاً؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم.

وما أنزل الله يشمل الحياة كلها بجميع جوانبها، وكل شيء في حياة الإنسان داخل بالضرورة في أحد الأبواب الخمسة التي تشملها الشريعة، فهو إما حرام وإما حلال وإما مباح وإما مستحب وإما مكروه. ومن ثم ينطبق قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ينطبق على واقع الحياة. فالقرآن يستجيب لنواميس الفطرة، ويتماشى مع أطوار الإنسان بتناسق مطرد، يُعالج كلَّ المشكلات الطارئة، ويُوضِّح جميع الملابسات في حياة الفرد وصعيد المجتمع؛ لأنَّ المُشرِّع العظيم هو العالِم بفطرة المخلوق، وأحوالها، وملابساتها، وما يجد فيها. وكما عجز الإنسان عن محاكاة القرآن، ومضاهاة فصاحته، وحُسن نَظْمه، كذلك هو عاجزٌ عن الإتيان بمثل مبادئه وقوانينه [1].

وإن المتأمل في حال الأمم الأوربية وملحقاتها الحضارية كأمريكا وغيرها يعلم حقيقة ما ذهبنا إليه حيث القيم الماديّة تتقدم على كل القيم، وحيث يستعبدون الإنسان بالاستهلاك والآلات والأرقام. ويلاحظ ذلك الإفراط في تتبع الشهوة والسعي لتحصيلها واستباحة كافة الوسائل لتحقيقها بشعار أناني كل شيء لي ولو كان على حساب الآخرين ناهيك من الظلم السياسي والاجتماعي الذي ساعد على نشر الفساد حيث عدم الاستقرار والاحتيال والرشوة، وتبدو الحاجة اليوم أكثر منها في إي وقت مضى للالتزام بالخلق الإسلامي من أجل الخروج بالبشرية كلّها إلى ساحة الإنقاذ بعدما أفسدت الفلسفات الوضعية ذات المنحى المادي القيم في معظم الأمم المعاصرة، وشوّهت صورة الأخلاق مما جعل الناس يتخبطون بما نراه اليوم بالفساد، وانتشار الرذائل، وانهيار شامل في المثل والقيم [2].

ونظرة الاقتصاد الإسلامي إلى الواقع الذي يعيشه الناس نظرة عميقة تُصلحه وتُصلح الناس به وينظر أيضاً إلى الواقع الذي يعشه الناس نظرة الطبيب المعالج والمصلح الناصح بكل نافع ومفيد[3]. لابد من التنبيه على أن الاقتصاد الإسلامي بنظرياته وتطبيقاته قادر على علاج كل مشكلة اقتصادية تعترض طريق الحياة الاقتصادية الراشدة منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يقوم الناس لرب العالمين؛ وذلك أن الإسلام عموماً ونظمه كلها على الخصوص جاءت لتعالج كل مشكلة تنجم عن تعاملات الناس في أي زمان وأي مكان بشرط المحافظة على الثوابت في الإسلام، وفقه المتغيرات في كل عصرٍ ومصر[4]. وأبسط مثال على ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم عالج المشكلة الاقتصادية لمجتمع المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

بدأ الاقتصاديون في العالم بالاقتناع بأن علم الاقتصاد مستقل عن العلوم الاجتماعية والإنسانية لا يمكن أن يقود إلا إلى مزيد من الدمار. فالرغبات والحاجات هي إنسانية قبل أن تكون اقتصادية، والاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس. والتعبير عن المشاكل الاجتماعية بأرقام ومعادلات صماء ليس هو الحقيقة، لذلك كان جديراً على برامج التنمية والتطوير أن تستوعب كل المشاكل المسؤولة عن تفكك المجتمعات والانحلال الخلقي فيها، وأن تسعى إلى جعل المواطنين إيجابيين أو على الأقل غير سلبيين تجاه الحكومات وسياساتها [5].

والغرب القوي – الدول الرأسمالية الكبرى كأمريكا وروسيا وغيرها من الدول – بماله واقتصاده وجنده وتقنية المتفوقة هو في الوقت نفسه ضعيف كل الضعف في جوانبه الإنسانية وفي بواطنه البشرية، فهو عاطل عن القيم والمثل التي ترفع من شأن الإنسانية، لكونه اكتفى بالجوانب المادية في تقدمه السريع فامتلك هذه المادة التي سخرها الله له واستغلها في تحسين معيشته الدنيا بيد أن هذه المادة لم تجلب له الطمأنينة والراحة، ولم ترفعه للمقام العالي لكونه كافراً بالإسلام غير مؤمن بوحدانية الرب سبحانه ولا بكتابه ولا بنبيه، فتاه هذا الغرب وضل ضلالاً بعيداً وانحرف وزهق وتعثر وانتشرت فيه الأمراض النفسية والجسدية ونخرت عظامه الآفات الاجتماعية، ولم تفده الآلة إلا في إشباع البطن وإرواء غلة الجنس والانكباب على الشهوات البهيمية. إنّ البشرية جمعاء بحاجة إلى التربية الاقتصادية الإسلامية؛ لأنها تبني إنساناً سوياً، يمارس سلوكاً اقتصادياً حضارياً، يحقق الرقي لنفسه، ولمجتمعه، إنسانياً، ومادياً، ومعيشياً.

2- التربية الاقتصادية الإسلامية غير متجافية عن الحقائق الأخرى:

ليس المجتمع الإسلامي هو الذي صنع الشريعة، وإنما الشريعة هي التي صنعت المجتمع الإسلامي، وهي التي حددت له سماته ومقوماته، وهي التي وجهته وطورته، ولم تكن الشريعة مجرد استجابة للحاجات المحلية الموقوتة، كما هو الشأن في التشريعات الأرضية، إنما كانت منهاجاً إلهياً لتطوير صياغةً معينة ودفعها إلى أوضاع يتم بها تحقيق المجتمع المنشود[6].

جاء الإسلام بما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم وفي عباداتهم ومعاملاتهم وفي شتى المجالات ومختلف نواحي الحياة فهو منهج للحياة البشرية بكل مقوماتها وقد اشتمل على المبادئ الراقية والأخلاق والنظم العادلة والأسس الكاملة ولذلك فالعالم البشري مفتقر بأجمعه إلى أن يأوي إلى ظله الظليل ذلك لأنه المبدأ النافع للبشر فيه حل المشكلات الحربية والاقتصادية والسياسية وجميع مشكلات الحياة التي لا تعيش الأمم عيشة سعيدة بدون حلها فعقائده أصح العقائد وأصلحها للقلوب والأرواح ويهدي إلى أحسن الأخلاق فما من خلق فاضل إلا أمر به ولا خلق سيئ إلا نهى عنه لهذا كانت القاعدة الكبرى لهذا الدين رعاية المصالح كلها ودفع المفاسد فهو يساير الحياة وركب الحضارة فيأمر بطلب الأرزاق من جميع طرقها النافعة المباحة من تجارة وصناعة وزراعة وأعمال متنوعة، ولم يحرم إلا الأسباب الضارة التي تحتوي على ظلم وجور وبغي وعدوان وذلك من محاسنه وفيه الأمر بأخذ الحذر من الأعداء وتوقي شرورهم بكل وسيلة وقد حث على الائتلاف الذي هو الركن الأصيل للتعاون والتكافل على المصالح ومنافع الدين والدنيا ونهى عن الاختلاف والافتراق [7].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135]. إن الأمة الإسلامية تدرك ضرورة التربية الاقتصادية في عصر أصبح فيه السلاح الوحيدلقمة العيش ورغيف الخبز، فالدول الصناعية الكبرى تتحكم باقتصاد السوق العالمي، وتشن حرباً شعواء على الدول الصغيرة، من خلال تصريف بضاعتها التي تطرح بالأسواق بعد سيل عرم من الدعاية والإعلام، وفنون التسويق التي أصبح لها مناهج تُدرس في الجامعات. ولكن للأسف الشديد نجد بعض ضعاف النفوس الذين لم يتربوا تربية اقتصادية إسلامية صحية، لا يكبحون شهوات أنفسهم أمام سيل عرم من الملذات المبهرجة بالطعوم اللذيذة، والألوان البراقة، والعروض الخدّاعة. لقد تحولت الشعوب الصغيرة والدول الناشئة إلى مجرد مجتمعات استهلاكية وسوق لبضائع الدول المتقدمة ومنتجاتها – سواء أكانت زراعية أو صناعية – وتفرض عليها التبعية والخضوع لقرارات الدول الصناعية سواء من النواحي الاقتصادية والمالية أو من النواحي السياسة والعسكرية وهذا هو الاستعمارالجديد الذي تواجهه الشعوب الصغيرة الناشئة إذا استسلمت له ولم تجد وسيلة لمقاومته[8].

إن شعوبنا في حاجة إلى تربية اقتصادية تعلمها: التغفف عن الحرام والاقتصاد في الحلال، والقناعة بالقليل. والصيام عند اللزوم, تحريراً لإرادة الأمة من التبعية، وتثبيتاً لسيادتها واستقلالها [9].

3- التربية الاقتصادية الإسلامية خصبة تتولد عن الثمرات الطبيعية:

ويعالج القرآن المشكلات الإنسانية في شتى مرافق الحياة، النفسية والعقلية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجًا حكيماً، لأنه تنزيل الحكيم الحميد، يضع لكل مشكلة بلسمها الشافي في أسس عامة، تترسم الإنسانية خطاها، وتبني عليها في كل عصر ما يلائمها، فاكتسب بذلك صلاحيته لكل زمان ومكان، فهو دين الخلود، نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن، وحكومة وأمة، وهو خُلق وقوة، ورحمة وعدالة، وهو ثقافة ونظام، وعلم وقضاء، وهو مادة وثروة، وكسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة. والإنسانية المعذبة اليوم في كثير من أصقاع الدنيا المضطربة في أنظمتها المتداعية في أخلاقها، لا عاصم لها من الهاوية التي تتردى فيها إلاَّ القرآن[10]، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124].

والتربية الاقتصادية ليست جامدة كما أُسلفَ سابقا،ً ولكنها خصبة متجددة مواكبة لتطورات العصر.

والتطورات التي فيها نفع للعباد والتي لا تزال تتجدد في الحياة والمجتمع قد وضع لها هذا الدين قواعد وأسساً يتمكن العارف بالدين وبالواقع من تطبيقها مهما كثرت وعظمت وتغيرت بها الأحوال وهذا من كمال الدين، أما غيره من النظم والأسس فإنها وإن عظمت واستحسنت فإنها لا تبقى زمناً طويلاً بل تختلف باختلاف التطورات والتغيرات؛ لأنها من صنع البشر الناقصين في علمهم وحكمتهم وجميع صفاتهم [11]. ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]. وإذا كان الأصل في الشريعة الإسلامية إن الأفراد فيما يستهلكونه من الطيبات التي أحلّها الله، فإن هذا الأصل مقيَّد بعدم الإضرار بالمصلحة العامة، فإذا اقتضت المصلحة العامة أن يُقيَّد هذا الحق لظرف طارئة، وأحوال عارضة، رآها أُولو الأمر، فإن الشرع يساندهم فيما يتخذون من إجراءات مناسبة [12]. والحياة مليئة بالمغريات التي تفتن الناس في دينهم ودنياهم، والإسلام قد وضع معالم الطريق لذلك والتي تكفل النجاة من هذه المغريات والموبقات ألا وهي مجاهدة النفس، ومحاربتها والاستعانة بالعبادة من صلاة وصوم وطاعة حتى ينتصر المسلم على شهواته، وما التربية الاقتصادية إلا نوع من الطاعة والعبادة لله تعالى، والتربية الاقتصادية ليست عادة قديمة اندثرت، ولا قانوناً وضعياً لم يعد صالحاً لتطورات العصر الحديث، على العكس تماماً فالمتبصر يجد أن التربية الاقتصادية تواكب تطورات العصر وتصلح لكل زمان ومكان.

فإذا طُبقت التربية الاقتصادية في الدول الرأسمالية المادية أو الدول الاشتراكية الغربية لاستبدلت الفوائد الربوية بالزكاة، ولتحول فائض الإنتاج إلى الدول الفقيرة التي تعاني من الفقر والجوع والمرض. والعالم كله كان على مرأى ومسمع من المجاعة الفظيعة التي اجتاحت جنوب أفريقيا. فأين دعاة حقوق الإنسان من هؤلاء الجياع، العطشى، العراة، الذين يفترشون الأرض المقفرة، ويلتحفون السماء المظلمة، ويحتسون المياه الملوثة إن وجدت، ويطعمون الثرى المقفرة. وبالقابل صورة أخرى لأناس يتساوون مع من قبلهم بالحقوق، نجدهم يفترشون الأسرَّة الوثيرة، ويلتحفون الأغطية الناعمة الدافئة، ويجلسون على الأرائك المريحة، ويحتسون المياه الباردة والعصائر المثلجة، ويضعون على موائدهم ما لذ وطاب من صنوف وألوان لمختلف أشكال الفاكهة والطعام التي يرمى معظمها في القمامة على إنه بقايا طعام، وما يرمى ربما كان أكثر بكثير مما يستهلك.

وهنا البون الشاسع بين الطرفين، الجائع البائس، والمتخم المترف، والتوسط بين الطرفين، النموذج البشري المعتدل المتزن الذي لا ينسى حظه من الدنيا، ولا الآخرة.

—————————————————-

[1] بديوي، يوسف وقاروط، محمد، تربية الأطفال،1، 283.

[2] السحمراني، أسعد، الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، بيروت، دار النفائس، ط2، 1414هـ/1994م، 102.

[3] محمود، علي عبد الحليم، التربية الاقتصادية الإسلامية، 151.

[4] المرجع السابق، 185.

[5] قنطقجي، سامر، فقه المحاسبة، 80.

[6] قطب، سيد، (ت 1385ه/ 1966م)، نحو مجتمع إسلامي، بيروت، دار الشروق، ط 10، 1413هـ / 1993 م، 264.

[7] آل جار الله، عبد الله بن جار الله بن إبراهيم، كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه، المملكة العربية السعودية، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1418هـ/ 1997م، 34.

[8] القرضاوي، يوسف، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، 248.

[9] المرجع السابق، 250.

[10] حميد، صالح بن عبد الله، اتخاذ القرآن أساساً لشؤون الحياة في المملكة العربية السعودية، موقع الإسلام، 10.

[11] آل جار الله، عبد الله بن جار الله بن إبراهيم، كمال الدين الإسلامي، 38 وما بعدها.

[12] القرضاوي، يوسف، دور القيم والخلاق في الاقتصاد الإسلامي، 252.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى