الحياة بين (علمانية الغرب) و(علمانية المسلمين)!
بقلم د. فؤاد البنا
▪ من المعلوم أن رسالة عيسى عليه السلام قد تمّمت رسالة موسى عليهما السلام، وأنها كانت رسالة أخلاقية بَحتة إذ ركّزت على تهذيب طبائع بني إسرائيل التي تمرّغت في أقذار التراب وأوحال الطين، فتسلّحت بالعنصرية الإبليسية وأطلقت العنان للشهوات والنزوات مع إعطائها مَسْحة دينية؛ من خلال تحريف التوراة واتباع الأحبار الذين أحَلّوا أصنافاً من الحرام وأدخلوا أنواعا من الطيبات ضمن دائرة الحرام وفق هوى أنفسهم ومطالب كبرائهم!
▪ ما يهمنا هنا هو إيضاح أن رسالة عيسى جاءت لتقزيم الجانب المادي الذي طبع أخلاق ومعاملات اليهود بطبائع التراب التي تظهر في سلوك الحيوانات، ومن ذلك تزكية الذات وتضخيم أخطاء الآخرين، ومن هنا وجدنا المسيح عليه السلام يقول لهم: (من كان منكم بلا خطيئة فلْيَرجُمها بحجر) وهو يقصد المرأة التي اتُّهِمت بالزنى فسارعوا إليها كالوحوش يريدون رميَها بالحجارة، وعندما أرادوا الإيقاع به من خلال وضعه بين مطرقة قادة الرومان وسندان أحبار اليهود، سألوه: لمن نعطي الضرائب؟ فقال لهم: أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر!!
▪ وما حدث للتوراة من تحريف حدث للإنجيل بعد ذهاب عيسى إلى ربه موتاً أو رفعاً، وبعد أمد من الزمن وبعد اعتناق الأوروبيين للمسيحية زادت التأويلات والتحريفات حتى صار الرهبان ناطقين باسم الله، بل ومكتسبين لعصمته فهو وحده من لا يأتي كلامَه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وقد جعل هذا الأمر رجلَ الدين واجب الطاعة والاتباع وكأن لسان حالهم يقول: (وما آتاكم القُسس فخذوه وما نَهَوكم عنه فانتهوا)!
▪ وبفعل قداسة الدين وتحالف رجاله مع أصحاب السلطة؛ انقادت الشعوب لهذا الأمر، لكن الانحراف اتسع ليتدخل رجال الكنيسة في سائر العلاقات بما فيها العلاقة بين الإنسان وربه، حيث غُرست عقيدة الاعتراف أمام رجال الدين ودَفع الإتاوات على الذنوب والأخطاء وبيعت صكوك الغفران، وقدّمت الكنيسة رؤية متكاملة للوجود تسبّبت في محاربة قيم العلم والفكر والحرية والعدالة، وأقيمت محاكم التفتيش لمن يخالفون فهم الكنيسة ووصل الأمر إلى إعدام أربعين ألف عالم حرقا بالنار كما تتحدث مصادر التأريخ الأوروبي!!
▪ وبعدما بلغت الضغوطات التي شكّلها ثلاثي رجال الدين ورجال الإقطاع ورجال السلطة منتهاها؛ حدثت انفجارات عديدة وسط الشعوب ونُخبها العلمية، بدأت على شكل ثورات فكرية عقلية ثم صارت سياسية، ووصل بها الحال إلى أن حملت السلاح وتوسّلت بالعنف لتحقيق أهدافها في محاربة الكهنوت الديني والاستبداد السياسي والاستئثار الاقتصادي، ولذا فقد كان شعار الثوار الفرنسيين يقول: (اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس)!
▪ ولأن الحياة قد تعفّنت وتأسّنت في أوروبا بسبب فساد رجال الدين واستبداد الكنيسة بأمور الناس وتحكّمها بمصائرهم؛ فقد طبّق المنتصرون قاعدة فصل الدين عن الدولة وهي العلمانية الجزئية تارةً، وفي تارة أخرى فصلوا الدين عن الحياة وهي العلمانية الكُلّية، وفي هذه البيئة الجديدة ارتفع سقف الحريات الذي أثمر الليبرالية كمنظومة متكاملة في مجالات الحياة وكان مولودها السياسي هو الديمقراطية ومولودها الاقتصادي الرأسمالية، وظهر المنهج التجريبي فانتشرت العلوم وازدهت المعارف، وظهرت التكنولوجيا بكل ما فيها من مبتكرات من رحم هذا المنهج التجريبي في العلوم، فازدهرت عمارة الأرض وازدهرت الحياة، وقد ثبت أن رجال الإصلاح الغربي من البروتستانت قد استفادوا من جامعات المسلمين ومدارسهم ومن أفكارهم وخبراتهم في هذا المضمار.
▪ ووفقاً لطبيعة الحياة فإن الحضارة مثل الشمس تغرب هنا لتشرق هناك، فقد حدث نوع من تبادل المقاعد بين المسلمين والغربيين، إذ تسلّلت علل الأديان إلى الفكر الإسلامي ولم تستطع أن تنال من الإسلام نفسه نتيجة حفظ الله لدستوره القرآني، لكن التأويل الخاطئ لبعض الآيات واستدعاء أحاديث غير صحيحة وقراءة التراث بطريقة انتقائية وتحكيمه كأنه مصدر للتشريع والتوجيه؛ كل ذلك أدى إلى ظهور نمط من التدين المنقوص الذي أتى على الحضارة الإسلامية من أطرافها، ولولا جهود التجديد لأتى عليها من جذورها!
▪والتدين بطبيعة الحال هو طريقة فهم الناس للدين وطريقة تفاعلهم معه في أودية التطبيق ومضائق الاجتهاد، وقد أنتج التدين المنقوص الكثير من صور الاعتلال التي أفضت بدورها إلى حصر طاقة التدين في دائرة حقوق الله وهي العبادات اللازمة، لتخرج العبادات المتعدية المرتبطة بعمارة الأرض وحقوق الخَلْق من دائرة العبودية لله في أفهام وسلوكيات الكثير من المسلمين، وظهرت أجيال عديدة اعتقدت أن الطريق لعمارة جنّة الآخرة هي تخريب دنياها!
▪ومع كَرّ الليالي وفَرّ الأيام ظهرت تيارات كرّست نمطاً من العلمانية الغريبة في مجتمعات المسلمين، فقد أبرزت الإسلام في وعيها وحركتها كأنه دين لاهوتي لا دخل له بالناس، ودين أخروي لا شأن له بالدنيا، ودين طقوسي لا علاقة له بالمعاملات والأخلاق، حتى وجدنا انفصالاً مريعاً في الشخصية المسلمة، إذ رأينا مسلمين ينفعلون في محراب الصلاة دون أن تكون لهم أي فاعلية في محراب الحياة، ووجدنا مصَلّين يَبكون من شدة الوُجد حينما يناجون الله لكنهم حين يتعاملون مع الناس قد يُبكونهم من شدة الظُّلْم!!
▪إن هذا النوع من المسلمين يعرفون أن الله خلقهم للعبادة كما قال تعالى: {وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون}، ولا زالوا يكررون في كل صلاة: {إياك نعبد وإياك نستعين}، أما في واقع الحياة فإن الأمر مختلف عند كثيرين منهم، فعندما تدعو بعضهم للكَفّ عن اتباع عادات الآباء والأجداد وللنهل فقط من معين القرآن الكريم بحكم أنه النص المقدس المعصوم والصالح لكل زمان ومكان، إذ قضى الله في محكم قضائه بأنه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، فيَردّون عليك بلسان الحال كما قال قوم ثمود لنبيهم صالح: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا…}، ويتهمونك بقولهم: {تُريدون أن تَصدّونا عما كان يعبد آباؤنا}، وإذا أوضحت لهم بأن الاقتصاد مجال من مجالات العبودية لله، ولن يصبح محرابا للعبادة ونيل الرضى الإلهي ما لم يتم الالتزام بمنهج القرآن في التعامل مع المال؛ أجابوك بألْسنة حالهم كما قيل لنبي الله شعيب: {أصلاتُك تأمرُك أن نَترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء..}!!
▪وإذا كانت علمانية الغربيين قد أفضت إلى انتشار العلوم والمعارف وازدهار الحقوق والحريات، وإلى ازدهاء الفنون والآداب وشيوع الغنى والاستمتاع بالشهوات، مع جفاف روحي وقلق قلبي بالطبع نتيجة تعملق المادة وتقزّم الروح؛ فإن علمانية المسلمين قد تسبّبت في ضمور الحريات والحقوق وانكماش العلوم والفنون والآداب، وإلى شيوع التخلف وتكريس الانحطاط، مما أصاب أغلب المسلمين بالجهل والفقر والمرض، ولقد سأل مسلمٌ عالماً غربيا على معرفة بالإسلام: لماذا تَقدَّمتُم وتأخّرْنا؟ فقال باختصار شديد: لأننا تَرَكْنا وترَكْتم!!
▪ ومن يعرف طبيعة هذا الدين يعلم يقيناً أن الأمور المُشرقة في العلمانية الغربية موجودة في صميم الإسلام، وعلى سبيل المثال فإن:
– الحرية تقترن بالتوحيد حتى أن بعض العلماء وضعوها قبل الشريعة في ترتيب شُعَب الإيمان.
– والعدالة هي المقصد الأعظم للشريعة الإسلامية كما يؤكد علماء الأصول المسلمين .
– والعلم والفكر احتلا أكثر من سُدس آيات القرآن في مواضع وسياقات متعددة، حتى أنهما سبب اصطفاء الله لآدم من بين المخلوقات لنيل تكريم الله وحمل أمانة الاستخلاف.
– والوحدة قيمة مركزية تكاد أن تضاهي قيمة الوحدانية في الأهمية من سائر النواحي.
– والعمل هو أوسع العبادات وقتاً وأعظمها أجرا؛ إذ أنه من العبادات المتعدية التي يصل خيرها إلى أكبر عدد من الناس.
– واختلاف التنوع وآداب الحوار في الإسلام ليس لهما نظير في غيره، حتى أن القرآن يُعلّم النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هُدًى أو في ضلال مبين. قُلْ لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون}!
– وفي مجال البحث عن الحقيقة بتجرد يخلو من تأثير المُسَلَّمات المسبقة، علّم الله حبيبه محمداً أن يقول في هذا السياق: {قُلْ إن كان للرحمن وَلَدٌ فأنا أول العابدين}!
▪ وبجانب احتواء الإسلام على كل ما هو إيجابي ونافع من قيم الرقي الحضاري في العلمانية الغربية، فإن هذا الدين يحتوي على الجوانب الروحية والنفسية والفضائل الخُلقية التي تفتقدها العلمانية الغربية، والتي يُشْقي غيابها روح الإنسان ويُضْني قلبه، ويُسكن في جوانحه القلق والحيرة ويُشيع الأمراض النفسية، ويقتلع الطمأنينة من حياته ويجعله يركض في أودية الحياة كركض الوحوش في البراري، فإذا هو منتكس في إنسانيته ومرتكس في حيوانيته، وإذا بالشهوات والملذات التي يغرق فيها لا تغني عنه شيئاً أمام مشاعر الشقاء والضّنَك، حيث تفتك به مشاعر الفراغ ويَجلده الروح بِسِياط الجوع!!
▪ إن بإمكان المسلمين اليوم أن يعتزّوا بدينهم ويعتلوا به الآفاق، ذلك أنه يمتلك إكسير الأرواح وترياق النفوس، وتحتوي تعاليمه على كافة معادلات النهوض الحضاري، ثم إنه يُفسح المجال للعقل لتدبر النصوص المقدسة في الفهم والتنزيل والتطبيق، وللتفكر في آيات الآفاق والاستبصار بآيات الأنفس، مع دعوته للاستفادة من منجزات الحضارة الغربية وخبرات شعوبها، مما ثبت نفعُه في حياتهم وظهرت الحاجة إليه في حياتنا، فإن الحكمة ضالة المؤمن، وبذلك فقط فإننا نستطيع النجاح في التحرر من (علمانية المسلمين) ومقاومة (العلمانية الغربية)!
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)