مقالاتمقالات مختارة

الحوارات الجدلية والهوية الضائعة

الحوارات الجدلية والهوية الضائعة

بقلم د. مهدي أمين المبروك

تتنوع الاتجاهات الثقافية للأمم فمنها صاعدٌ نحو القمة وغيرهُ محافظٌ على القاع وسواه يرغب في الهبوط نحو الحضيض. شعبٌ يختار أن تكون هويته واضحة وآخر تَضيعُ هويتهُ بين ثنايا العابثين. يد تصنع الحريات وتحمي الإنسان وتوفر له مقومات الحياة الكريمة ورفاهية العيش المزدهر. وفي مقابلها أيادٍ شيطانية تفتح السجون لمجرد الحرية في التعبير وتهدر كافة مقدرات الناس وتجعلهم في ضنك العيش.

ليس ديناً ولا ثقافةً ولا حضارةً ولا نظاماً عادلاً يسمح بالعبث بمصائر العامة. لقد وُجد الإنسان على هذا الكوكب ليعيش فترةً من الزمن يستثمر الأرض ويُعمِّرها. ولكن الكثير من الجدل الهادم أضاع وافر الفرص المؤهلة له أن يحيا بكرامة وأن ينعم بالخير والسعادة. كثيرةٌ هي السجالاتُ بين الناس منها المفيد وآخر الذي يفيد طبقةً واحدةً تستأثر بالثروة وتقضي على طموح العالمين.

تُعدُ الحوارات التي تقدم الدليل المقنع والمعلومة الواضحة والدقة الكاملة المستندة على مصادر حقيقية إحدى مواصفات الأمم ذات الهوية المتحضرة، والتي تبحث عن الحقيقة حيث كانت. دون النظر إلى مكانة قائلها الاجتماعية في العصر الذي سكنه قبل أن تنتهي دورة حياته، فتلك الثقافة تصنع وتعمل وتبني وترسم وتشارك وترتقي، ولا يهمها كثير الكلام بل تهتم بالعمل المنتج المحقق للعدالة الباعثة على الأمن والراحة والاستقرار ثم حب الوطن والعمل على رفعته وازدهار مكوناته والحفاظ على منجزاته.

وبالمقابل يُسارع أصحاب الهوية الضائعة في حواراتهم إلى استخدام الكلام المرسل المستند إلى العبارات الأدبية الجميلة، فمبدؤهم كثرة الكلام تنتصرُ على أيّ دليل مهما كانت مصادره، فإذا اقتنع الحضور في ذاك الرأي وتركوا صاحب الحجة المقنعة شعر المتحدث بالفخر والعزة وبالمقابل أصاب المتأثرين داء عضال يجعلهم يرون الماء من بعيد وكأنه نهر عذب متدفق ينتفع منه الناس، فإذا وصلوا إليه لم يجدوا غير السراب. ثم يتسلسل الندم إلى قلوبهم كما تسلسل الجهل إلى عقولهم والخنوع إلى سلوكهم تجاه ذاك الذي يريهم الحقائق بطابعها المزيف.

ويستقوي بعض المحاورين على خصومهم بذكر أسماء تعود لشخصيات عاشت في الزمن الماضي وحظيت بمكانة اجتماعية مرموقة بفضل علمها أو نسبها أو غيره من مبادئ التفاضل الإنساني، فيأخذ ذكر الأسماء القديمة صفة النصوص المقدسة التي لا يمكن معارضتها بقول بشر، ويستمر الاستقواء بالشخصيات التليدة على حلبة النقاش حتى يصرع أحد المناقشين خصمه فيرديه على الأرض، ثم يُعلنُ انتصاره على آراء الآخرين، ولعل مستخدم هذه الطريقة في الحوار يرى في التراث القديم وأشخاصه أخصائيين بالحياة كلها وأكثر علماً عن ذاته من نفسه. ولم يدرك الحقيقة التي مفادها أنَّ شخصاً إذا غطاه الثرى فإن ذلك يعني أنَّ ماضياً لن يعود، واستمرار تخليد ذاك الزمن الذي عاش فيه إنسان هو أحد مصادر التخلف التي تمثل حالةً من العبث في الحاضر وإضاعة المستقبل فلكل زمان مكانه ورجاله، ربما علينا أن نستفيد من الماضي وأشخاصه، ولكن بالقدر اللازم لصناعة حاضر مشرق، يستفيد منه سكان الزمن الحاضر دون أن يستوطنه من حجبهم الثرى وطوت سيرهم اختلاف الأزمان.

يُعدد المحاور مصطلحات تعود إلى لغة ليست محل اختصاص الحاضرين معتقداً أنَّ ذلك سيرفع من شأن الكلام ويمكِّنه من تسديد العديد من الأهداف في مرمى المناقشين، فيشعر من يقابله بالقلق والضيق، وبعدها يصب رأيه على آراء الآخرين كبركان يدمر الطبيعة ويحرق الأخضر واليابس، فإذا استكان الحاضرون واختاروا المسالمة لاتقاء الشعور بالضعف أمام مصطلحات كبيرة عجزوا عن فهمها. فإنه يسيطر على مدخرات عقولهم ويستخدمها لحسابه الشخصي فيهلكهم ثم ينتهي معهم، فكومة القمامة واحدة وإن كانت أشكالها السابقة متعددة، ولكن إذا قاوم الجالسون السفاهة والسذاجة فإن الغضب سيجتاح ذاك المرائي ويقضي على زحفه نحو تدمير الحياة والإنسان.

يستعرض حامل الهوية الضائعة ثقافات وتحليلات لمجتمعات أخرى لم يدرسها الحاضرون ولم يتابعوا تطوراتها كي يعطي انطباعا عن ثقافته الواسعة ويصدمهم الصدمة الأولى في الاستهلال فيتقوَّل جمهور الهوية الضائعة: ما أعظم معرفته وما أوسع ثقافته! فإذا أراد أن يصف مشكلةً محليةً قارنها مع قضية في مكان آخر، ووصف الحل الذي وصلت إليه الثقافة الأخرى وقارنها مع مشكلته المحلية. يا لها من مضيعة للوقت وهدرٌ للجهود ومخالفةٌ لاتجاه البوصلة تضليل للعقول.

ويُفلح أهل الهوية الضائعة في تبديد الساعات الطويلة التي تخلو من الإنجاز الحقيقي فمثلاً 100 ساعة حوار من أزمانهم تعدل في ثقافة آخرين 15 دقيقة، وتتصف نقاشاتهم بكثرة الصراخ والأنين، ويسعى الجميع لفرض رأيه المستند على مركزه ونفوذه، ويكثرُ الهمس، ويتعدد اللمز، ويخرجُ الحوار عن أدبه متخذاً من الوضاعة منهجاً، ويتحدث من أضاع الهوية الثقافية قبل كل مسألة عن تأسيس للعمل، مما يدفعنا إلى الاعتقاد أنَّ أموالاً وأشخاصاً داخل عاصفة هائجة لا يملكون القدرة على التحكم في ذواتهم وإن زعموا السيطرة عليها لأنهم يستندون على محركات ضعيفة لا ترتقي بخير أمة أخرجت للناس نحو نهضة حقيقية.

ولصناعة هوية عربية واضحة المعالم يجب أن تظهر أخلاقيات الحوار وينتصر السلوك المتحضر على عدوه الفاسد، وما أحوجنا إلى ربيع ثقافي تتحكم فيه الحقيقة ويرتقي فيه العقل ويتدمر فيه الجدل وتنتشر ثقافة العمل وتقل سيطرة اللسان ومجادلاته العقيمة على مجريات الحدث ويوضع السفهاء في مقامهم الصحيح ولا يسمح للنفوذ أن يخدم تطلعاتهم المهلكة للحضارة والرقي ومن الجدير بالذكر أن يسعى المثقفون نحو تحقيق سياسة ناظمةً للعدالة ومسيطرةً على منهجية الحياة ينعم فيها الناس بالسعادة الرفاهية وتُدانُ فيها كل مظاهر التخلف والجهل وينسف فيها الجدال الذي لا فائدة ترجى منه.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى