مقالاتمقالات مختارة

الحنابلة الجدد .. لا داخلَ المذهب ولا خارجَه! | بقلم الشيخ مشاري الشثري

الحنابلة الجدد .. لا داخلَ المذهب ولا خارجَه! | بقلم الشيخ مشاري الشثري

(1)
لم تزلْ حقائق الحنابلة الجدد تتكشَّف، الواحدة تلو الأخرى، كلما نالهم عاصفٌ من المنهج، ولم يزلْ بنيانهم الخاوي تتهاوى لبناته، الواحدة تلو الأخرى، كلما طاف عليهم من النقد طائفٌ .. ومن آخر ذلك ما رأيتُ ورأيتَ من حَيْصَتهم حيال معتمد مذهب الحنابلة في الحكم على من قال بأن ما بين الدفتين ليس كلامَ الله وإنما هو عبارة عنه، وأنت خبيرٌ بأنها مقالة أشعرية بامتياز.
وما كان مني إلا أن نصصتُ على عظيم إشكالِ ذلك، لعظيم مغبَّته وآثاره، ابتغاءَ جوابٍ له، أو على أقل تقدير الإقرار بالإشكال ووقوعه، فلا يُستطالَ مِن بعدُ على مَن استشكله.
غيرَ أن القوم لم يفطنوا -ببلادةٍ سبقَ شرحُها- لأصلِ الإشكال ولا جهتِه، وكانت لهم في ذلك كوائنُ مضت الإشارة إليها في كتابةٍ سَلَفت.
إلا أن من أجلى مظاهر التتايع في الفهم والهزال في التصور ما رأيتُه من كثيرٍ منهم من إلزاماتٍ يستحْيي طالب الحق من إمرارها على ذهنه فضلًا عن تقلُّدِها والمحاماةِ عنها، ومن أخصِّ ذلك قولهم بأن ما كتبتُه يقتضي منِّي (أنا) تكفيرَ علماء الأشاعرة، وأني (أنا) أردتُّ بكتابتي تلك التقعيدَ لذلك!
ولا يخفى على عاقلٍ أني أتحدَّث عن تقرير مذهبي مشكل، وأن ما ذكروه من إلزاماتٍ إنما يتجه على ذلك التقرير لا عليَّ، وكنت أظنُّ ذلك من الوضوح بمكان .. ولكنْ علمتني التجارب ألَّا أستنيمَ إلى عقل حنبلي جديد!
وليت الأمرَ كان مقصورًا على هوامشهم، ولكنْ صرح بذلك كبيرهم عفا الله عنه، وفي سعيٍ منه للإبانة عن فساد ما قررتُه أخذ في إرهاب قارئه بأنَّ ما أنافح عنه يستلزم أن أبا الحسن الأشعري، والباقلاني، وابن فورك، والجويني، والغزالي، وابن عساكر، وووو = كفار، وأنه لا عذرَ بجهلٍ ولا تأويلٍ هنا عند الحنابلة، ثم أتى بختمه الصَّحَفِي المعتاد حين قال: (وليهنأ الدواعش). ثم اكتفى في سحق هذا اللازم بأنه معلومٌ فساده (بالضرورة عند الخاص والعام، والحنبلي وغيره) ثم مضى .. هذا منتهى قدرته في تحرير مسائل العلم.
أما الإشكال، والنصوص الباعثة عليه، فليس لها من كلامه أدنى التفاتة، وما يزعمه من فسادٍ معلومٍ بالضرورة من أعجب ما أنتَ راءٍ، وكأن الحكم على أمثال هؤلاء الأعيان الأكابر بالكفر أجنبي عن اللوائح الحنبلية، ولو قام هو بهزِّ أعطاف التراجم الحنبلية لَهَاله ما تضمنه التاريخ الغابر من شواهد لتكفير بعض أعيان الحنابلة لأعيان الأشاعرة، ولكنه يعلم ذلك ويظنُّ أن أحدًا لن يفجأَه به، ومع ذلك يأتي بوجهٍ لا ماءَ فيه ليعُدَّ القول بنحوه معلومًا فسادُه بالضرورة!

(2)
وأما أنا فخارجٌ من ذلك كفافًا، وبينت مرارًا أن ظاهر تقرير علماء الحنابلة مشكل جدًّا، وأنه لا خلاص من اعتياصه إلا بالنكوص عنه إلى غيره من أقوالٍ وروايات، والحنابلة أنفسهم في شروحهم يعطفون على القول بذلك القولَ بأن هناك أقوالًا أُخَرَ لا تقتضي ذلك الحكم على مَن قال بتلك المقالات، ليس في شأن تلك المقالة الأشعرية فحسب، بل في كل ما عدوه في ذلك السياق من مقالة كفريَّة، فالمسألة لا يقتصر إشكالها على ذلك، بل يمتدَّ لما وراءه، ومن أخصِّ مَن يذكرونه ممن هم على خلاف المعتمد الموفقُ ابن قدامة، فإنه لا يرى كفر المجتهد القائل بتلك المقالة الداعية إليها، وأما أنا -فيما أتقلده ديانةً لله تعالى- فقائلٌ بقول ابن تيمية من أن (التكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا، بل ولا فاسقا، بل ولا عاصيا، لا سيما في مثل «مسألة القرآن»، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجها من الحق فيتبعه ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه فيبقى عارفا ببعض الحق جاهلا ببعضه؛ بل منكرا له).
وليس المقامُ مقامَ بيان ما أتقلَّده، وما كنت أظن أني بحاجة إليه، ولكنها بلادة الخصوم حين تضطرُّك إلى مثل هذا.

(3)
إذًا، فما يدعيه هذا المعترض من فسادٍ معلومٍ بالضرورة منقوضٌ بما هو معلومٌ بالضرورة مما حوتْه الكتب والمصنفات مما جرى بين أعيان الحنابلة والأشاعرة من ذلك، ولا يحتاج الأمر سوى التفاتة عابرة إلى الوراء.
وعليه ليكون أكثرَ تماسكًا أمام ضَعَفَة مريديه أن يصمد إلى تلك النصوص ليعالجها معالجة حقيقية، لا أن يتعامى عنها ليتلو علينا أهواءَه، فأنْ يطمحَ إلى صياغة مشهد درامي عاطفي بين الحنابلة والأشاعرة، فذلك شأن يخصه، أما أن يلوي أعناق النصوص الحنبلية لتكون هي النصَّ المعتمد لمشهده، فهيهات!
هذا إذًا ما يتعلق بذلك الذي يراه معلومًا فساده بالضرورة.
ثمَّ:
ها هنا إشكالٌ آخرُ، أعرضه لننظر في صدق انتسابهم لمذهبهم وحكايتهم لما تضمنه حقًّا مما هو محكم عند دارسي المذهب والمتحققين به.
فما مضى بيانه من إشكال متعلقة بـ (تنزيلٍ) لقاعدة مقررة ومقالة مكفَّرة على ما عليه الأشاعرة، ويبقى إشكال آخر، لكنه هذه المرة ليس متعلقًا بفهم المذهب، بل بتأصيله! فلا ينبغي أن يظنَّ الواحد من أولئك القوم أن منتهى الإشكال يقف عند حدود تكفير أعيان الأشاعرة فقط بحيث إذا اصطلحنا على براءة المذهب من ذلك انقضى الليل وانفضَّ السامر .. لا .. بل فلننظر في أصل التأصيل للقضية، وهل هم ملتزمون بها أو لا؟
وذلك أن قاعدة المذهب (المحكمة البينة) أن القائل بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى في الآخرة، وأن العبد يخلق فعل نفسه، القائل بشيء من ذلك إن كان مجتهدًا داعيةً فهو كافر، وإن كان مقلدًا فهو فاسق .. ماذا يعني هذا؟ خذها بلغة كبير أولئك:
يعني ذلك أن كلًّا من الجاحظ، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، والخياط، وأبي عبد الله البصري، وأبي الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري، وقطرب، والأخفش الأوسط، وأبي علي الفارسي، والرُّمَّاني، والصاحب بن عبَّاد، وابن جني، والشريف الرَّضي، وغيرهم كثير كثير = كُفَّارٌ!
ولا يقف الأمر عندهم، فإن دائرة التأثير الاعتزالي، ولا سيما فيما يتعلق بتلك المقالات، قد امتدَّ لغيرهم، فتقلَّد تلك المقالات كثيرٌ ممن تأثر بهم، فمنهم أشاعرة وزيدية وإباضية.
بل امتدَّت بدعتهم لكثير من الفقهاء، ولا سيما الحنفيَّة، كأبي بكر الجصاص، أحد أكابر الفقهاء، فهو من نفاة رؤية الله تعالى في الآخرة.
أرأيتَ عظيمَ إشكال ذلك التأصيل من أساسه؟
ولتدرك غورَه، فما عليك إلا أن تصنع جدولًا مصدرًا بتلك المقالات، وتجرد كتب التراجم والطبقات لتنظر أيَّ لائحة تكفيرية للأعيان ستجني!
وقد كان جُدُد الحنابلة أولئك يستطيلون على السلفية المعاصرة وأئمة الدعوة النجدية بدعوى توسعهم في التكفير، مع أن قاعدتهم في ذلك هي قاعدةُ ابن تيمية النائيةُ عن ذلك، ثم ها هنا أعاد كبيرُهم الأمرَ بلا حياءٍ، مع أن اللازم عليه لا عليهم .. والآنَ، فلنَرَه أمام هذا المعتمد الحنبلي المحكم ولْننظر أي الفريقين أحقُّ بالأمن.
وإذا كانوا هو وأشباهه يراوغون بالنظر في التطبيقات المحتملة، أو بعض الممارسات الغالطة في ذلك، فإن شأنَ التأصيل أشدُّ وأنكى.
ومع ذلك، فعمَّا قليلٍ يأتي واحدُهم ليقول: لكن الحنابلة لا يكفرون الأعيان عمليًّا .. وها هنا تتسلسل البلادة، ويُرَدُّ عجزها على صدرها لتبدأ في مشهد جديد!

(4)
جملةُ القول:
إذا كنتُ فيما مضى قد أثرتُ إشكالًا في منطقة محتملة، ومع ذلك لم يُسَلِّمْ هؤلاء بذلك الإشكال رغم وضوحه، فلنختبر حقيقة موقفهم، ولننقل الحديث إلى ما قبل ذلك، إلى تلك المنطقة التأصيلية المحكمة البينة.
فما قول الحنابلة في أولئك؟ وما معتمد المذهب في حقهم؟ وما معتمد المذهب في حق من تأثر بهم فتقلَّد إحدى مقالاتهم المنصوص على التكفير بها في دواوين المذهب المعتمدة؟
الجواب مُدرَكٌ يعرفه من أنار الله بصيرته، فإن كان موفَّقًا أدرك إشكاله .. فليُجمِعْ أولئك الجُدُد أمرَهم، وليقفوا وقفةَ صدقٍ يحكون فيها المذهب على حاله دون تحريف أو مجمجة، فليقفوا، وليتقدمهم كبيرهم، وليقلْ بصوتٍ يُسمَعْ: بسم الله رب هذا الغلام .. إنهم كفار! حتى يثبت لأتباعه صدقَه في حكاية مذهبهم، بدل أن يفني عمره ليلَ نهارَ في رمي خصومه بعدمِ النزاهة والجبنِ عن حكاية المذهب في معاقد الإشكال.
إذا استبسلوا وحكوا مذهبهم في ذلك على وجهه .. حينها يليق به وبرهطه أن ينازعوا فيما بعدَ ذلك من انطباق حكم الحنابلة وامتداده على الأشاعرة القائلين بأن ما بين الدفتين ليس كلام الله تعالى وإنما هو عبارةٌ عنه، وأما أن يقفوا دون تصريحٍ بما عليه واقع المذهب في هذا الذي رأيتَ، ثم يأتون بشعاراتهم الصحفية، والرمي بالتكفير و«الدعشنة» فذلك الذي لا يروج إلا على أشباههم.
وخلصوا نجيًّا!

9/ 5/ 1440هـ

رابط المقالة:

https://drive.google.com/open?id=1PVu9t5DlKl92I34qlycqy-oupCE8L5ZV&fbclid=IwAR2-k51SgrUPQNHXs76OCNcqzkih0WFIvk1p71bJKWmKLw8DyyBt-HnGN5k

(المصدر: صفحة الشيخ مشاري الشثري على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى