الحكم الجبري: مقدمات ونتائج 2من 2
بقلم أكرم حجازي
الشرط الثالث: إقامة النظام الدولي
مع اكتشاف المادة والسيطرة عليها والانتقال من صيغة » الدولة الممتدة« إلى صيغة » الدولة القومية« باتت الطريق ممهدة لإقامة نظام دولي يمكِّن أوروبا من تقاسم النفوذ فيما بينها ويسمح بالسيطرة على العالم. وكانت سنة 1824 أولى بواكير النظام الجديد الذي أسسته أوروبا ودعت الدولة العثمانية، بخبث، للانضمام إليه. لكن ما كان على أوروبا أن تدركه، وقد فعلت مبكرا، أن الانتقال من صيغة العلاقات الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية بين الدول، إلى صيغة النظام الدولي لن ترى النور ما لم يتم تفكيك الدولة العثمانية بأية وسيلة، بوصفها آخر وأخطر » الدول الممتدة« والعابرة للقارات، وهو ما كان إلا أن يحصل في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1913 – 1916).
بدأ تفكيك قلب العالم الإسلامي فعليا ابتداء من أوائل القرن التاسع عشر. فاحتلت فرنسا الجزائر سنة 1832، وتونس سنة 1882، وفي نفس السنة احتلت بريطانيا مصر. وفي سنة 1911 احتلت إيطاليا ليبيا. وتبعا لذلك بدت مصر حاجزا فاصلا بين المغرب العربي ومشرقه.
بعد الحرب العالمية الأولى أقدمت الدول الاستعمارية الأوروبية على إنشاء أول منظمة دولية باسم عصبة الأمم سنة 1919، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ورثتها هيأة الأمم المتحدة. وضمت سلسلة من المؤسسات العامة والمتخصصة أبرزها مجلس الأمن الذي يضطلع بحسب الميثاق بمهمة الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. لكنه في واقع الحال ليس إلا » المركز« الذي يمتلك من أدوات القوة كالعلم والمعرفة ( تكنولوجيا التسلح) والعولمة (أدوات الاتصال والإعلام) و مصادر الطاقة ( النفط والغاز) والغذاء ( الإنتاج الغذائي والدوائي) ما يمكنه من التحكم والسيطرة والرقابة والقدرة على التدخل والحفاظ على امتياز الهيمنة على العالم.
ولأن النظام الدولي قابل للتفكك خاصة وأنه أقيم على أنقاض العالم الإسلامي القابل للالتحام، فقد حرص بناته على تحصين نفسه من الانهيار عبر ربطه بثلاثة مرابط في عقر ديار الإسلام. لذا لم يكن عبثا أن يكون:
(1) المربط اليهودي في بيت المقدس، وهو عبارة عن قاعدة عسكرية متقدمة لمنع أي شكل من أشكال الالتحام.
(2) المربط النصيري في الشام، ومهمته احتواء كافة حركات التحرر والتمرد التي ستنشأ ردا على تفكيك العالم الإسلامي والهيمنة.
(3) المربط العقدي المنتشر في كل العالم، حتى لو كان مركزه مهبط الوحي، والذي بموجبه جرى انتزاع الفتوى وتوظيفها في خدمة النظام الدولي وأمنه واستقراره، فضلا عن فرض الوصاية التامة للدولة القومية على الدين.
ثانيا: الوقوع في » الجبر«
ليست الشروط الثلاثة التي عرضناها إلا تعبيرا عن البنية التحتية لـ « الجبر»الذي سيخضع لسلطانه وتشريعاته كل بني البشر. أما العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي، فقد استأثر بنصيب الأسد من » الجبر« الذي صُبَّ عليه صبا. فماذا نجد؟
- الجغرافيا
أول ما يمكن أن نلاحظه في ظل » الجبر« هو انهيار معادلة الصراع العسكري بين » الكفر« و » الإيمان«، والتي كانت سائدة في أنماط الحكم الثلاثة السابقة ( النبوة والخلافة والملك العاض أو العضوض). فقد كانت وقائع الصراع بين العالم الإسلامي وملل الكفر تجري على الثغور. ورغم خسارة العالم الإسلامي الكثير من الأمصار والحواضر إلا أنه كان يكسب أيضا حتى في قلب أوروبا التي اخترق حصونها الكبرى. لكن بعد الحرب الأولى بات واضحا أن ملل الكفر أطبقت على العالم الإسلامي دفعة واحدة، ولم ينج مَصْرٌ واحد من الهيمنة، مما يعني (1) استحالة إفلات ولو دولة واحدة أو مجتمع إسلامي من المراقبة والسيطرة والتحكم، أو (2) استعادة القدرة على إقامة ملاذ آمن يمكن الانطلاق منه ثانية، أو (3) السعي لامتلاك سلطان العلم والمعرفة أو أية أدوات للقوة خارج السيطرة، لأن التحام العالم الإسلامي تحت نظام الخلافة، وفي ظل العلوم الرقمية مثلا، أمر يثير لدى » المركز« أشد درجات الفزع.
بل أن العالم الإسلامي تعرض مع نهاية الحرب العالمية الأولى إلى تمزيق، سياسي واجتماعي، شديد لم يزل قائما منذ مائة عام تقريبا. فقد قسمت (1) بلاد الشام إلى أربعة دول قومية، و (2) بلاد الترك إلى ستة دول، و (3) الجزيرة العربية إلى سبعة دول، و (4) المغرب العربي إلى خمسة دول، و (5) بلاد الهند إلى ثلاثة دول، و (6) الكرد تم حرمانهم من أي كيان سياسي وتوزيعهم على أربع دول إقليمية كبرى، و (7) بدت مصر، المنزوعة الهوية حتى الآن، حدا فاصلا بين المشرق العربي ومغربه.
ولعل أطرف ما حل في العالم العربي ظهور دول لا يزيد عدد السكان فيها، غداة إعلان استقلالها، عن أقل من بضعة عشرات من الآلاف مع مساحة من بضعة مئات أو كذا ألف كيلو متر مربع، بحيث لو وقف أحد ما على طرف الدولة من مرتفع بسيط يمكنه رؤية الطرف الآخر. مع ذلك اتخذت هذه الدول من مجالس شوراها أو شعبها مسميات من نوع » مجلس الشعب« أو » مجلس الأمة«!! واستنبتت لها تاريخا غالبيته الساحقة من وثائق الحكومة البريطانية. وغني عن البيان أن دولا بهذا الحجم لا يمكن أن تتمتع بأية فرصة في الاستمرارية خارج » المركز« الذي أنشأها.
- الدين
بما أن الإسلام، في السياسة، هو أصلا نظام حكم أكثر منه دولة، فقد حرص النظام الدولي » الجبري« على انتزاع سلطان الأمة ممثلا بنظام الخلافة انتزاعا بالقوة القاهرة. وفي المقابل أُخضِع إخضاعا تاما لمنظومات القوة الدولية وشرائعها الوضعية. ومن الطبيعي، في ظل الجبر، أن يتم إسقاط الشريعة ليس كمرجعية في الحكم فحسب بل وكنمط حياة. وأكثر من ذلك فقد جرى إشاعة وتعميم الفلسفات والمذاهب الوضعية والشرائع الدنيوية والثقافات المنحطة باعتبارها نتاج إنساني وقيم كونية.
وبدا الدين ونظم التعليم الشائعة متطابقة مع مدخلات » الجبر« تطابقا تاما. وغدا الاعتقاد والعبادة والتفكير والتأهيل والتعليم والثقافة والعمل والتجارة والاقتصاد وكافة أشكال التلقي، حتى في الأحلام والرؤى، خاضعة لما تفرزه ثقافة » الجبر« وعلومه .. تعيش وتنمو وتنتج وتشتغل وتستهلك وتصالح وتعادي وتنام وتصحو بموجب كينونته وأدواته ومناهجه وآلياته المعرفية والذهنية. وتبعا لذلك صار حال الأمة كما قال عز وجل: » كالأنعام بل هم أضل سبيلا«!!! فقد تلقت من الدين ما يوافق » الجبر« ويشرِّع له، وتلقت من العلوم ما يبقيها تحت » الجبر«، وحصلت على التكريم بما جعل من المستبد حكيما، والفاشي القومي بطلا، واللبرالي مسلما، والماركسي شهيدا، والعالم الخائن والملبس جليلا، والإعلامي المرتزق مخضرما، والمجاهد إرهابيا. وبررت قوى » الجبر« العالمية وبعض أدواتها انحطاط الأخلاق والقيم بالحرية، ومظاهر الدعارة بالجرأة، وقدمت العمالة والخيانة بوصفها وجهة نظر، … وأخيرا جرمت التكفير وبرأت المجرمين عبر ما يسمى بـ » حرية الضمير« كما ورد في الدستور التونسي.
في المحصلة فقد حطم » الجبر« كل المرجعيات الدينية والأخلاقية والقيمية والتاريخية، ولم يعد ثمة مرجعية دينية أو أخلاقية أو قيمية يمكن الاحتكام إليها في فض النزاعات الاجتماعية والخصومات، وتوالى استنزاف المرجعيات حتى قاربت التمايزات الاجتماعية والفضائل على الزوال، وتوحدت الثقافة العدائية ما بين الفئات العمرية لتسير بالمجتمع نحو التصادم الحتمي، بل أن عدوانية المجتمع ظهرت ضد نفسه أكثر مما ظهرت ضد أعدائه وخصومه، سواء في الجامعات والمدارس والأسواق والشوارع والأحياء وحتى المساجد أو بين الأقارب والعائلات والقبائل .. وأكثر من ذلك فقد بدا أن الأمة قابلة للانقسام وخاسرة على كل مستوى إلا من حقوق المستبدين وطوائف الأيديولوجيا والأقليات التي غدت مقدمة على أية حقوق.
- الهوية
في ظل » الجبر« خسر الاجتماع الإسلامي، على مستوى الفرد والجماعة، وجوده التاريخي كأمة وهوية، وتم استبدالهما بـ » الدولة القومية« بصيغتها السياسية، وفي حمولتها التاريخية ومرجعياتها الأوروبية القائمة على الظلم والاستعباد والعداء المطلق للدين. واستبدلت الحدود العقدية بالحدود الوطنية، والشريعة بالدستور.ولعله من الطريف ملاحظة أن الدولة القائمة حاليا في العالم الإسلامي لا تمت له بأية صلة تذكر لا من قريب ولا من بعيد، وليس لها أية هوية تذكر إلا من التبعية والخضوع لـ » المركز«. فلا هي دولة إسلامية تُعْرَف، ولا هي دولة عربية تُعْرَف، ولا هي وطنية، وكذا الأمر فيما يتعلق بالهوية الأيديولوجية للنظام السياسي؛ فلا هو ماركسي يُعْرَف، ولا هو اشتراكي، أو رأسمالي، أو لبرالي، أو علماني، أو فاشي، أو نازي. ولأنها، دولة ونظام، خاليان من أية هوية أو مرجعية محددة، إلا من كونهما خليطا » أيديولوجيا« أشبه ما يكون بـ» طبيخ النّوَرْ«، فقد جرى التعبير عنهما إعلاميا واجتماعيا وسياسيا وحتى شرعيا بدولة فلان وعلان، ودولة حفظه الله وسدده .. أو دولة أطع ولو جلد ظهرك وأخذ مالك .. أو دولة البطانة الصالحة التي تعينه إذا عزم وتذكره إذا نسي .. وأخيرا دولة البلطجة والشبيحة!!!
إنها باختصار دول » المركز« في أبشع مكوناتها ومرجعياتها وحمولاتها التاريخية وأفعالها وجرائمها ووحشيتها .. وهويتها هويته أصلا وفصلا ومنبتا. أما نظمها السياسية فهي أدوات » الجبر« المؤتمنة عليها. ومع كل هذا تجد من يصفها بـ » دولة القانون« أو من يردد ببلاهة عجيبة … » وأفتخر«!!!!!
وبحسب » أيديولوجيا النّوَرْ« هذه فمن الممكنأن تجتمع المتناقضات في الشخصية المسلمة كما تجتمع في الحركات والجماعات الإسلامية، بحيث نجد إسلاميا يؤمن باللبرالية حتى النخاع ويدافع عنها كما يدافع عن العلمانية حتى الممات، أو ماركسيا يقرأ القرآن ويُصلى عليه في الجامع ويُدفن في مقابر المسلمين، أو وطنيا عنصريا يتخذ من الفكر القومي منهج حياة له، أو اشتراكيا برجوازيا يعيش قمة الرأسمالية، أو عالما شرعيا وهو للدين محرف وللقتل مشرع وللفتنة محرض، أو قاضيا عن الظلم مدافع وللحقوق مضيع، أو فنانا وهو في النفاق مبدع، أو فاجرة في التكريم أما مثالية، أو رويبضة في شأن العامة يتحدث، … . ولو أسقطنا هذه الثنائيات المتناقضة على مناحي الحياة لوجدناها في الدين والسياسة والثقافة والتعليم والتجارة والاقتصاد والاجتماع والصحة وغيرها.
ولعل أسوأ ما خلفته » أيديولوجيا النّوَرْ« هي تلك الثقافة العجيبة اللامبالية التي استوطنت في صميم الفرد والمجتمع. وفي ظلها، تماثلت ثقافة الفرد والمجتمع والدولة. وجردت ثلاثتهم من أية مسؤولية شرعية أو أخلاقية أو حتى موضوعية تجاه الآخرين، حتى صار من المستحيل تَصوُّر أي حضور ذي جدوى لعقيدة الولاء والبراء، بل أن المستقر والشائع والمألوف أن نجد فردا يُقمَع أو مجموعة تُضطَّهد أو شعبا يُذبَح دون أن يحرك أحد، حتى في الجوار، ساكنا.
- حكم الكفر. إذ بخلاف الأنماط الثلاثة السابقة فإن » الحكم الجبري« هو النمط الوحيد الذي أخرج العالم الإسلامي من سقف التوحيد وزج به تحت سقف الكفر العالمي. وتبعا لذلك ستجد الأمة نفسها تحت نمط » الحكم الجبري« ضحية لـ:
- قوى الهيمنة العالمية كالصليبية واليهودية والرافضة والبوذية والهندوسية بكل ما أفرزته من قوى حليفة ومادية باطشة، وأيديولوجيات وضعية ونظم سياسية وفلسفية سائدة، وأنماط حضارية وثقافية معيوشة، يمكن أن تتقبل أية ديانة أو مذهب أو فرقة أو جماعة إلا الإسلام شكلا ومضمونا؛
- القوى المحلية الحارسة للدولة القومية وهويتها وولاية الأمر فيها كالدول العميقة والموازية وأجهزتها الأمنية وجيوشها ومؤسساتها ومراكزها المالية والاقتصادية والإعلامية والعلمية والمعرفية إلى جانب أقلياتها وعلمائها ومفكريها ودهمائها وشيوخها ومرجعياتهم؛
- الجهل المدقع والثقافات الغريبة التي استوطنت في وعي العامة وسلوكها حتى أمست أنماط حياة قادرة، بوعي أو بدون وعي، على الاستهانة واللامبالاة في الأصول الشرعية وما تفرضه من قواعد سلوك إلى حد إجهاضها، والاكتفاء بلغة » ما علينا« .. » وحد الله« .. » صلي عالنبي، صلينا« .. » إن شاء الله« … » مفهوم مفهوم« .. » مش مختلفين؛ ولكن«!
(المصدر: رسالة بوست)