الحكم الجبري: مقدمات ونتائج 1من 2
بقلم أكرم حجازي
ليست الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب العالم الرأسمالي وكذا انتشار الإباحية والفقر والغلاء وانحدار القيم وسيادة العلاقات العدوانية بين الدول والنظم من جهة وفيما بين الناس من جهة أخرى إلا علامات تدل على أن البشرية والمعيش الإنساني وصل إلى طريق مسدود، جعلها تبدو وكأنها تنعطف بسرعة لا مثيل لها. وبالتأكيد فإن الثورات الشعبية العربية تمثل رأس حربة هذا الانعطاف، لاسيما وهي تقدم نموذجا مميزا للاحتجاج الإنساني على الظلم الذي بات يستوطن في كل مكان.
و بطبيعة الحال لن تستسلم قوى » الجبر« وأدواته المحلية، كعادتها، قبل أن تخوض منازلتها الأخيرة بحيث تتجلى سنة التدافع الإنساني على مشاهد مؤلمة من الكرّ والفرّ، سلماً أو حرباً، وعلى امتداد الاجتماع الإنساني في الأرض. لكنها منازلة لا يمكن أن تنتهي إلا بإزالة الفساد وصلاح الخلق وعبادة الله في الأرض. وفي هذا الوقت الذي تتهافت فيه الأيديولوجيات وتُستنزف فيه آخر المذاهب الفلسفية والمادية، وتفقد صلاحيتها للاستهلاك البشري؛ وحيث لن يكون ثمة بديل لملء الفراغ إلا الإسلام، ستبدو الحاجة ملحة إلى دور فعال للعلماء بعيدا عن الانزواء أو أية أجندات سياسية أو أمنية، إبراءً للذمة في الخلافات التي تضرب الأمة خاصة في قلب هذا التدافع العاصف.
نحن أمة تعيش في زمن » الجبر« حيث لا صوت للإسلام والمسلمين إلا بشق الأنفس. وقد لا يهم الأمة أن تدرك إنْ كانت في أول » الجبر« أو في آخره. لكن يهمها أن تعلم ولو سببا واحدا يمنع العلماء من التوقف عميقا عند هذه المرحلة، والتحصن بأهل الرأي والمشورة والنصح والعلم والمعرفة، كي تكون قراءاتهم وفتاواهم مبنية على وضوح المشهد برمته وليس على جزء منه، ولتقديم كل ما يلزم من الفهم الشرعي والموضوعي الذي يسمح للأمة بأن تعرف حقوقها وواجباتها وتستبين طريقها دون تخبط أو كوارث عقدية وبشرية. فلا يصح ولا يجوز، وليس عدلاً؛ بل ومن الظلم الفادح، أن يتصدى خواص الأمة وعامتها لمسائل هي من اختصاص العلماء الشرعيين أكثر من غيرهم، فكيف بمن يتصدر شأن العامة من الدهماء والمغرضين والجهلة والمتنطعين؟
وعليه؛ فإذا كان من حق الأمة أن تحتمي بكلمة العلماء الربانيين الذين لا يخشون في الله لومة لائم فمن الواجب عليهم أن يستجيبوا ويقروا، بشكل قاطع، أن الأمة واقعة فعلا تحت » الحكم الجبري«، وأنهم يتحملون أمانة إخبارهم، بشكل قاطع أيضا، بماهية التوصيفات الشرعية لهذا النمط من الحكم، وكل ما أفرزه » الجبر« من قضايا خلافية تروج وتدافع (عن) أو تحارب وتجاهد النظام الدولي وشرائعه ونظمه السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية والتعليمية والثقافية والقيمية.
في هذه الحلقة الأولى من سلسلة » الجهاد الشامي ومسارات الفتنة« سنشرع في التأصيل لموضوع » الحكم الجبري«، بمقدماته ونتائجه، ثم في معاينة أنماط التفكير التي أنتجت ما نعتقده عقلا جبريا قرأ المسائل العقدية بلغته وليس بلغة الشرع. فماذا نجد؟
- الجبر لغةً وشرعا
» الجبر« في بعض المحتوى اللغوي هو القهر والإكراه، ويقال: » جَبَرَهُ على الأمر وأجْبَرَهُ: أي قَهَرَهُ عليه، وأكْرَهَهُ على الإتيان به«. و » رجل جَبَّار: أي مُسَلَّط قاهر«، و » الجَبَّارُ هو: الذي يَقْتُلُ على الغَضَبِ و القَتَّال في غير حق«. وفي التنزيل: » وإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ«، وكذلك قول الرجل لموسى عليه السلام: » إِن تُرِيدُ إِلا أَن تكونَ جَبَّاراً في الأَرض«، أَي » قتَّالاً في غير الحق، وكله راجع إِلى معنى التكبر«، أي، وبحسب اللغة،إلى» العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد«. وفي السياق اللغوي يمكن ملاحظة الشمول في عبارة » جَبَّاراً في الأَرض«!! بمعنى أن » الجبر« يقع على جميع من في الأرض وليس على جزء منها.
وفي التعبير السياسي الشائع فـ » الجبر« هو » الهيمنة«. و » اسم الفاعل« منها في اللغةهو» المُهَيمِن«، و» اسم المفعول: المُهيمَن عليه«. و » هيمن المُصلِّي: قال آمين«، أي: » اللهم استجب« أو » ليكن كذلك«، وهي هنا تفيد الخضوع والتسليم. وعن هيمنة الكتاب ورد في التنزيل: » مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ«: أي، بحسب تفسير السعدي، » مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية«. ويقال: » هَيْمَنَ الطَّائِرُ عَلَى فِرَاخِهِ: أي رَفْرَفَ«، و » أَحْكَمَ هَيْمَنَتَهُ: أي سَيْطَرَتَهُ وسَطْوَتَهُ«، ويقال أيضا: » هَيْمَنَ على كذا: أي سيطر عليه وراقَبه وحفِظَه«.
أولا: شروط الدخول في » الجبر«
إذن » الجبر« ( = الهيمنة ) مفهوم ينطوي على معاني العمومية والشمولية، ويتأسس على » العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد«، وتبعا لذلك سيمتلك من السمات المميزة التي تمكنه من ممارسة: (1) القهر والإكراه ( التسلط)، و (2) إحكام السيطرة والسطوة (الإخضاع)، و (3) الرقابة، و (4) الحفظ، على كل من في الأرض، تحت تهديد » القتّال في غير الحق«. فما هي الشروط التي توفرت في مجموعة بشرية بحيث باتت الطريق للدخول في مرحلة » الجبر« ممهدة؟
الشرط الأول: عصر العلم والمعرفة
فقد توجت المرحلة الوضعية التي مرت بها أوروبا في تحقيق صدمة حضارية تمثلت بانتقال البشرية من المرحلة البيولوجية إلى المرحلة الميكانيكية مع مطالع القرن 19. هذه النقلة العلمية والمعرفية تعني على وجه التحديد:
- أن أوروبا تمكنت من تعريف المادة والقدرة على السيطرة عليها والتحكم بها ومن ثم تشكيلها كيفما تشاء. فالمادة هي مجموعة من الجزيئيات. وكي نتلمس قيمة التعريف يكفي أن نعرف أن العالم الرقمي الذي يقوم على تكنولوجيا » النانو« يعرف وحدة » النانو« بكونها تساوي جزء من مليار جزء!!! فإذا كانت الحضارة التي نشهدها قد مرت من العصر الميكانيكي إلى العصر الصناعي ثم التكنولوجي وأنتجت هذه الهيمنة بكل موجوداتها وتجلياتها الوحشية التي نعرفها فماذا ستنتج تكنولوجيا » النانو« القادمة؟ وأي حضارة سنعيشها؟
- وأن أوروبا بانتقالها النوعي تمكنت من الاستثمار في الزمن ومراكمته بصورة لا مثيل لها. فما كان يستهلك من الزمن لإنجازه أياما أو شهورا أو سنوات صار من الممكن إنجازه ربما في ساعات، وهذا يعني الاستحواذ على كم هائل من الوقت لا يمكن تخيل مخرجاته في شتى قطاعات التشغيل والحياة الإنتاجية، وبالمقارنة مع ما يمكن أن توفره العلوم الرقمية من الوقت فسيكون الأمر أبعد من قدرة رواد هذه العلوم على التخيل.
ولمزيد من الإيضاح يمكن ملاحظة أنه قبل العلوم الرقمية كانت وكالة نازا الأمريكية للأبحاث الفضائية تحتاج إلى 20 دقيقة كاملة للتواصل ذهابا مع مركبة فضائية ومثلها كي تتلقى الجواب!!!! لكن مع انفجار تكنولوجيا العلوم الرقمية انتهى عصر إهدار الوقت ودخلنا في عصر استثماره. وحين تصبح العلوم الرقمية هي نمط الحياة الذي يميز الدول والشعوب فلا شك أن مراكمة الوقت ستبلغ أرقاما فلكية. وبمقارنة بسيطة يمكن القول أن الإنسان في العصر التكنولوجي سار بسرعة الطائرة والصاروخ .. لكنه في العصر الرقمي قد يسير بسرعة الضوء.
- وأن أوروبا صارت بحاجة إلى مراكمة ما تحتاجه من ثروات وموارد للاستثمار في العلم والمعرفة، وللصرف على الانطلاقة الصناعية. ولتحقيق ذلك لا بد من انطلاق العربة الاستعمارية بكل وحشيتها باتجاه دول العالم كافة.
- وتعني، وهو الأهم، أن أوروبا العقلانية غدت مؤهلة لامتلاك أدوات القوة النوعية التي تمكنها ليس فقط من الوصول إلى أبعد نقطة ترى فيها مصالحها، بل والحفاظ على هذه المصالح سواء كانت موجودة في المكان نفسه أو بعيدة عنه.
ميزة هذا الشرط أن المعرفة والعلم هما بالضرورة امتيازات ومكاسب قيمية ومادية خاصة بقوى الجبر العالمية نفسها، وبالتالي فهي ليست قيما كونية ولا امتيازات قابلة للتقاسم والمشاركة مع البشرية. وتبعا لذلك فلا معنى لأية مفاهيم تتحدث عن وحدة الإنسانية والمساواة والعدالة والتسامح والحرية والديمقراطية … كأسس بنيوية لاكتساب أدوات القوة وإنتاجها إلا في ذات منظومة الجبر. أما خارج المنظومة فليس ثمة مبرر أو وظيفة لترويجها إلا للاستهلاك البشري وليس للإنتاج.
الشرط الثاني: إقامة » الدولة القومية«
تعتبر بريطانيا، بنظر المؤرخين السياسيين أقدم دولة ظهرت بالمحتوى السياسي المؤسسي الراهن، وقد تشكلت في أعقاب الثورة الإنجليزية (1640 – 1660) في صيغة اتحاد سياسي من إنجلترا وويلز واسكتلندا في 1/5/1707. ولأن بريطانيا بروتستانتية فلم تتأثر أوروبا التي تدين غالبيتها بالمذهب الكاثوليكي كثيرا، إلا في أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789.
قبل ولادة » الدولة القومية« كانت أوروبا أشهر ميدان في الصراع بين الفرق الدينية المسيحية التي لعنت بعضها، وكفرت بعضها بعضا، وخاضت حروبا طاحنة فيما بينها لقرون طويلة ومظلمة ودموية؛ فقد كان من الطبيعي أن تتميز أوروبا بكونها ساحة للصراعات الفكرية الناجمة عن هيمنة الكنيسة، باعتبارها المسؤولة الوحيدة عن نمط الحياة واحتكار التشريع فيما يجوز ولا يجوز. وعلى وقع المعاناة والثمن الباهظ الذي دفعه العلماء من أرواحهم وأجسادهم شق » العقل الوضعي« طريقه إلى الحياة الأوروبية، واستطاع أن يتجاوز المرحلتين » الميتافيزيقية« و » المثالية« ويبلغ المرحلة » الوضعية«.
وفي السياق كانت أوروبا أول ميدان في الصراع على » فكرة القومية« التي بدأت كـ » نزعة« تغزوها منذ أواخر القرن 18، إلى أن تبلورت واستقرت كمفهوم على وقع الحروب الدموية والحراك السياسي واللغوي والإرادة العامة في العيش المشترك والاقتصاد وحتى الثقافة والقيم والأيديولوجيا وصولا إلى البايولوجيا التي طبعتها بالطابع التنافسي والعنصري الاستعلائي. وفي النهاية أسفرت عن تفكك الصيغة الإمبراطورية في الاجتماع الإنساني الأوروبي إلى صيغة قومية على شاكلة البريطانيين، السلاف، الألمان، اليهود، …. .
في المحصلة فإذا كانت النشأة التاريخية لـ » الفكر القومي« الأوروبي ليست إلا نتاج أصيل لكل هذه الصراعات والأفكار؛ بما فيها » عصر الأنوار« الذي عج بالفلسفات الوضعية كاللبرالية والعلمانية والعنصرية والمذاهب المادية كالاشتراكية والرأسمالية والماركسية، فإن » الدولة القومية«، لا يمكن أن تكون إلا الابنة الشرعية لهذا » الفكر «، ولأنها قامت على أنقاض » الدولة الدينية« فهي بالضرورة والنشأة معادية للدين بقطع النظر إنْ كان وضعيا أو سماويا، صحيحا أو محرفا. ومع نمو النزعة القومية لم يعد الناس يتعارفون فيما بينهم على خلفية الانتماء الديني، كأن يقال: هذا مسلم وذاك مسيحي أو يهودي أو مجوسي أو بوذي أو هندوسي … . وتبعا لذلك لا تقيم » الدولة القومية« أي وزن للدين في الحياة العامة، ولا تستعمله إلا كمعطى وظيفي في الحشد الاجتماعي لتحقيق أغراض سياسية أو اجتماعية. بل أننا لن نجد على وجه الأرض دولة واحدة تحكم بموجب الدين. ويشمل ذلك دولة اليهود في فلسطين التي أسسها العلمانيون والملاحدة اليهود بنسبة تزيد عن 80%. ولم تكن اليهودية بحد ذاتها هدفا بقدر ما كانت، ولمّا تزل، مشروعا سياسيا لمنظومة استعمارية صرفة جرى تغطيتها بلباس توراتي مزعوم.
لكن أطرف ما في » الدولة القومية« أنها شابهت الكنيسة في استلهامها لإرث الحضارتين اليونانية والرومانية وحتى المسيحية، ولم تتخل أبدا عن ثنائية » الأسياد« و » العبيد«!! فالنظام الفيودالي الذي ساد أوروبا تحت حكم الكنيسة لم يكن إلا استيحاء، وإلى حد كبير، من الفلسفة الإغريقية ذاتها في تجلياتها » الإفلاطونية« للمجتمع والدولة من جهة،وللعلاقة بين » الأسياد« و» العبيد« من جهة ثانية، حيث لم يكن ثمة » مجتمع« ولا » مواطن« ولا حتى » إنسان« بقدر ما كان هناك » أسياد« و » عبيد«. لذا ليس غريبا أن يقوم النظام الدولي الراهن على ذات الثنائية فيما يسمى زورا بالعصر الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان. ومن يقرأ كتاب أفلاطون المسمى الجمهورية ( The city) فضلا عن النظريات العنصرية والوحشية في » مبدأ السكان« و » أصول الاقتصاد السياسي« لروبرت مالتوس (14 /2/1766- 23 /12/1834) و » الأمير« لميكيافيلي (3 /5/1469- 21 /6/1527) سيعلم جيدا حقيقة » الدولة القومية« المتوحشة التي تتغنى بها أوروبا، وتشكل الوحدة السياسية المركزية للنظام الدولي القائم حاليا. ولا يغير من هذه الحقيقة التاريخية الوثيقة الشهيرة التي كتبها فلاسفة التنوير في أعقاب الثورة الفرنسية باسم: » حقوق الإنسان والمواطن«! حيث لم يكن ثمة إنسان ولا مواطن ولا مجتمع في أوروبا. وهي ذات الوثيقة التي أقرتها هيأة الأمم المتحدة في 10/1/1948 باسم » الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«!!! إعلانهم ومشكلتهم وليس مشكلة العالم الإسلامي والمسلمين. ولم تصلنا هذه المشاكل إلا لما قامت « الدولة القومية».
لذا لم يكن غريبا، مع هكذا مرجعيات، أن تكون » النازية« و» الفاشية« و» العنصرية« و » الفوضوية« و » الأممية« و » الصهيونية« و » الماسونية« منتجات أصيلة لـ » الفكر القومي« الأوروبي أولا، و لـ » الدولة القومية« ثانيا، وليست بدعا من القول. هذه الحمولة أثبتت مخرجاتها، بالوقائع القاطعة، أنها أشد دموية من » الدولة الدينية« في أوروبا. فـ » الدولة القومية« هي التي قادت حملات الاستكشاف الضخمة في العالم، وهي التي انطلقت في حملات استعمار واستعباد وقهر الشعوب، وهي التي نشطت في عمليات نهب منظمة لثروات الأمم، وهي التي أفرزت قيمها حربين عالميتين، وقنابل ذرية اختُبِرت فاعليتها على البشر، وهي التي أودت بحياة عشرات الملايين من ضحايا الإبادة والحروب والتعذيب، وهي التي زرعت أنظمة الاستبداد ورعتها، فضلا عن تفكيك العالم الإسلامي.
(المصدر: رسالة بوست)