مقالاتمقالات مختارة

الحضارة الغربية.. حضارة متوحشة بجدارة!

الحضارة الغربية.. حضارة متوحشة بجدارة!

بقلم فداء الدين السيد عيسى

لا يُغرينّك ما وصلت له أوروبا اليوم من رقي سياسي واجتماعي واقتصادي – ظاهرياً – فهناك ما تخفيه هذه الحضارة من دموية مفرطة وعنصرية مقيتة تحمل توقيع استعلاء الرجل الأبيض. التوقيع الذي ورثه الغرب اليوم عن حضاراته السابقة وهو يُشكّل التوجّه السياسي والشعبوي للأمّة الغربية. المتابع بوعي لمسيرة الغرب المُعاصر يجد أنّها جنين مشوّه لحضارات سبقتها والتي كانت تسعى للتخلّص من أي حضارة مقاربة لها ولا تقبل بما يُسمّى بحوار الحضارات كما يروج البعض في غفلة عن التاريخ البائس والواقع المتلوّن حضارة لا تقبل سواها متنفّذاً وصاحب السلطة المطلقة.

القارئ المُتنبّه للتاريخ يرى انفراد الحضارة الغربية عبر تاريخها الطويل بالإقصائية التي لا ترى الآخر من منظور تشاركي بقدر ما تراه منافسا لدوداً وعدواً محتملاً. والتاريخ شاهد لا يكذب. ترى ذلك واضحاً عند وصول الأوروبيين لأستراليا مثلا إذ لم يبقى فيها سوى آثار من الشعوب الأصلية حتى باتوا يدرسونهم على أنّهم فلكلور وانثروبولوجيا. يُمكنك قول ذلك عن الهنود الحمر في أمريكا عندما تم إبادتهم إبادة تامّة ودموية وعن العبودية والعنصرية يُمكن أن تقراً مئات التقارير التي تتحدّث عن عدد الأفارقة الذين تم استعبادهم ونقلهم من إفريقيا إلى أمريكا يُقال أنّهم وصلوا لأكثر من 13 مليون شخص. واقرأ تاريخ الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الأندلسيون على يد الحضارة الأوروبية في محاكم التفتيش لتكتشف بما لا يدع مجالاً للشك بأنّها حضارة قامت على الدماء والإقصاء وطرد الآخر.

ثم اقرأ بعد ذلك عن الحضارة الإسلامية الراقية والتي يظهر مدى إشراقها من المجتمع النبوي الأول ستجد في هذا المُجتمع بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبو بكر العربي أي من الجنس اليافثي والجنس الحامي والجنس السامي مُجتمع جمع بين جنبيه كل الناس. أذكر أنّي قرأت مرة لمؤرخ أوروبي جملة يقول فيها: أنّ الحضارة الوحيدة التي سمحت بوجود أعداد من الحضارات المهزومة أكثر من الحضارة المنتصرة هي الحضارة الإسلامية إذ فتحوا بلاد فارس والهند وتركيا فكان العرب الفاتحين أقلية مقارنة بالسكان الأصليين وهذا على العكس تماماً من الحضارة الغربية الطاردة للآخر. إذن الحرية التي يتشدق بها الغرب اليوم – من وجهة نظر عدد من المفكّرين – كاذبة و صنم كبير من العجوة يأكل منه الغرب وقتما يشاء ويعبدها حينما يشاء. بينما الحقيقة المرّة أنّ المبادئ التي يتفاخر بها كلّها تحت أقدامه عندما تُقرع أجراس المصلحة والخطوط الحمراء هي مُجرّد ألوان.

كان لمحمد علي باشا دور كبير في نشر حملات التغريب التي تم ممارستها على الأمة إذ أرسل الكثير من الطلاب للغرب لدراسة العلوم التطبيقية وأرسل معهم مجموعة من الأئمة

كانت الحضارة الأوروبية تعيث في الأرض فساداً واستعماراً حتى ظهرت الحضارة الإسلامية والتي كانت تحمل طيفاً واسعاً من القيم والمبادئ التي جعلته متيناً ومتناسقاً مع نفسه وقادراً على استيعاب الشعوب المختلفة. أدّى ذلك لشعور أوروبا بالخطر والخوف من الوافد الجديد فحاولت مراراً التغلّب على الحضارة الإسلامية بالسلاح والحملات العسكرية وذلك من خلال الحروب الصليبية والتي كان آخرها حملة لويس التاسع والتي فشلت فشلاً ذريعاً وأسر على إثرها الملك فما الحل إذن؟

الحل في تغيير الأفكار بحيث لا يتعامل معك كعدو بل كصديق (مراوغ) المقصود بذلك: إعادة برمجة العقل المسلم للتعامل مع الحضارة الغربية كمنقذ وحامل لقيم الحرّيات والديمقراطية بينما هو في الواقع يُساند انقلابات عسكرية أو يُزوّر انتخابات أو يدعم مالياً ليأتي بُحكّام من بني جلدتنا يظلمون الناس ويسعون في الأرض فساداً ثم عندما تطلب الشعوب الانعتاق من هذا الظلم يتبارى الغرب لتقديم عروض الحماية والرحمة ومساندة الانتقالات الديمقراطية يحصل ذلك بكل خبث بل في أحايين كثيرة على ألسنة من يتكلم بلغتنا ويدين بديننا يشبهوننا كثيراً لكنّهم الحُرّاس المخلصون للمصالح الغربية في المنطقة.


لقد سعت الحضارة الغربية للتخلّص من الحضارة الإسلامية وخطرها على الغرب وعلى الرجل الأبيض من خلال ثلاثة وسائل خطيرة:
1- التبشير: حملات تستغل حالات الفقر والجهل والضعف و تبتز الشعوب. ساهمت الحملات ايضا بشكل غير مُباشر في نشر الفكر القومي بهدف تفكيك الأمة المسلمة الواحدة من خلال الجامعات التبشيرية في لبنان كما فعل بطرس البستاني على سبيل المثال.

2- الاستشراق: يدرسون كافّة البنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربية. يحفظون لغتنا. يترجمون كتبنا. يدرسون النفسية والشخصية المسلمة وينشئون أقسام ومراكز وجامعات وكراسي مُتخصصة في كلّ علم شرقي. وقد أسهب إدوارد سعيد في تحليل اهتمام الغرب بالشرق في كتابه الشهير: الإستشراق.. المعرفة السلطة الإنشاء.

3- الاستعمار: والذي أظهر الوجه الحقيقي للغرب الهمجي في تعامله مع الآخر حرباً أو سلماً وهنا أريد فقط أن أشير على عجالة للجانب الفكري والإيديولوجي الذي ساهم في دعم الاستعمار لبلادنا. عليك أن تعلم مثلا أن فيكتور هوجو صاحب رواية البؤساء والذي يُعتبر من الأدباء التقدميين قال كلمته المشهورة أيام الغزو الفرنسي للجزائر: اذبحوا الأمّة الملعونة! وقد كتب مرة أن إفريقيا لا تملك تاريخاً فبرر بذلك الغزو والقتل. وقد ذكر جارودي عددا من أدباء الغرب الذين كانت لهم آراء عنصرية حول الشرق والإسلام وذكر من بين هؤلاء هيجو وفلوبير اللذين كتبا عن شرق منحط لا قيمة له وكذلك فعل شاتوبريان ولامارتين وجيرار دي نرفال وغيرهم الكثير.

كان لمحمد علي باشا دور كبير في نشر حملات التغريب التي تم ممارستها على الأمة إذ أرسل الكثير من الطلاب للغرب لدراسة العلوم التطبيقية وأرسل معهم مجموعة من الأئمة. أحد هؤلاء الأئمة الذي كان له الأثر الكبير: رفاعة الطهطاوي والذي كان أوّل من ساهم في نقل مفاهيم الوطن والمواطنة والدستور والحرّيات والاختلاط الخ – ولسنا هنا في معرض التقييم مع أو ضد – لكنها كانت المرّة الأولى التي تُنقل بشكل غربيّ بحت في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وصارت بعد ذلك المعايير التي يتم من خلالها تقييم مختلف المفاهيم وبذلك انقلب المقياس الفكري من مقياس ينبع من الإسلام وفكرته الصافية لمقياس تم إعداده على عين الغرب وعلى تؤدة.

أتت ثورات الربيع العربي والتي تُعتبر دليلا كبيرا على أنّ الشعوب بدأت تعي واقعها وتعرف حقوقها وكسرت حاجز الرعب الذي ظنّ الغرب أنّنا لا يُمكن أن نتجاوزه وأنّ الحرب الثقافية الكبيرة لم تستطع أن تسلخ الأمّة عن هويتها

رويترز

ثم تبعه في هذا المسار خير الدين التونسي والذي ألّف كتابه المعروف (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) وكانت لديه أفكار تجديدية وإصلاحية لكنّه لم يُسلّم تماماً للحضارة الغربية كما فعل غيره من المفكرين التي كادت أن تذوب – وبعضها ذاب كلّياً في المفهوم الغربي للحياة والحكم والتفكير – وقد عرض عليه السلطان عبد الحميد أن يستلم رئاسة الوزراء لتنفيذ مفاهيمه الإصلاحية ومساعدة الدولة العثمانية على تجاوز الأزمات والتحديات.

ساهم الاستعمار الإنجليزي لمصر واستجداء الخديوي توفيق بهم لضرب الدولة العثمانية حيث كان لهم أسهم كبيرة في قناة السويس وكذلك كان لهم مُبرّر للتدخّل ألا وهو وجود أقليات في الإسكندرية ((لحمايتهم!!)) وصار لهم يد طولى في المنطقة وبدأت المعارك الفكرية ووسائل الاستعمار الحديثة تهزّ الكيان المسلم. ساهم في ذلك مجموعة من الكتّاب والمفكرين ككتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) والذي كان قريباً من اللورد كرومر والقصر الملكي في مصر وردّ عليه مجموعة من العلماء وأحدث كتابه ضجّة كبيرة ومن أكثر الكتب التغريبية التي ساهمت في إثارة صدمة كبيرة كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي). وكتاب قاسم أمين والذي أثار ضجة كبيرة جداً (المرأة الجديدة) وهكذا فُتح الباب على مصراعيه لنشر الأفكار التغريبية والغريبة على مجتمعاتنا وأمّتنا.

شارك في ذلك تبنّي المؤسسات الرسمية المدعومة من الغرب هذه الأفكار عليك أن تعرف مثلا أنّ المُستعمر الفرنسي بجبروته لم يستطع أن يُلغي مجلة الأحكام الشرعية في سوريا حتى وصل حسني الزعيم بدعم أمريكي فألغاها مباشرة. كذلك ساهمت الطبقة المثقفة والغنية في تبنّي الأفكار التغريبية والتي سيّرت الإعلام لنشرها بين العامّة وتطبيع الأفكار شيئاً فشيئاً من خلال جرعات مدروسة. خذ مثلاً بسيطاً: من أعظم المناسبات الدينية لدى المسلمين شهر رمضان يتم الآن تجييره بشكل بشع ليصبح شهر الأفكار التسويقية للمسلسلات والإعلانات والحفلات – وهذا ليس عبثا – بحيث يُرسل رسائل مختلفة تماماً عن القيم الأصيلة لشهر الروحانيات والعبادة والتكافل الاجتماعي.

ثم أتت ثورات الربيع العربي والتي تُعتبر دليلا كبيرا على أنّ الشعوب بدأت تعي واقعها وتعرف حقوقها وكسرت حاجز الرعب الذي ظنّ الغرب أنّنا لا يُمكن أن نتجاوزه وأنّ الحرب الثقافية الكبيرة لم تستطع أن تسلخ الأمّة عن هويتها. إنّ ما يُبقينا اليوم حجر عثرة في طريق الإقصاء من الخريطة هي المفاهيم الإسلامية الصلبة ومشاعر المقاومة الفكرية والاعتزاز بالهوية وارتباط الشباب بالفكر الراقي ومشاريع الصحوة والتمسّك بالثقافة الإسلامية.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى