الحصاد التربويّ والقيميّ لطوفان الأقصى
بقلم رانية نصر “عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” (خاص بالمنتدى)
إن ما يراه العالم من أحداثٍ دموية، وجرائمَ بربرية يوميّة ومجازر مُروّعة على يد هذا الجيش الغاصب بحق أهلنا الصّامدين في غزّة إنما هي جرائم حربٍ وإبادة جماعية تخالف المعاهدات الدولية كلها ومواثيق حقوق الإنسان، وتتنافي وأحكامَ الشرائع السّماوية والوضعيّة، وتسحق الإنسانية والأخلاق والمبادئ والقيم التي اتفق عليها العالم أجمع، لا سيما في ظل الاستهداف الوحشي والمُتقصّد للأطفال والنساء والمستشفيات ومراكز إيواء اللاجئين.. لكنه قدر الله ووعده لنا بالنصر .. فالنصر آت لا محالة لكنه تمحيص واختبار للعباد، قال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ آل عمران:141.
وكعادتها المحن والأزمات تأتي وتأتي معها الدروسُ والعِبَر، وإنّ معركة طوفان الأقصى أفرزت لنا مخرجات تربوية وقيميّة جليّة ما كانت لولا هذا الطوفان العظيم، بعد أن كادت تتلاشى في وجدان الناس إثر الانتكاسات المتوالية التي مَرّت بها الأمة، وإثر اليأسِ الذي تملّك نفوسَ الشباب بعد ثورات الربيع العربي، وجهود التطبيع، والتّواطؤ الدولي والتخاذل الإقليمي.
إن طوفان الأقصى جاء ليجدّد الدماء في عروقنا من جديد، ولِيُبدد راية الطغيان والكفر، فالإسلام لا يموت، قد يمر بمراحل ضعف لكنه لا يموت أبداً، جاء هذا الطوفان ليحيي قلوبنا ولِيعيد بناء فكرنا ويُعمّر أرواحنا بعد أن حلّ بها الخراب ونخر فيها سوس اليأس، جاء ليبعث لنا رسائل تربوية مركّزة من قلب الخندق، من عُمق الأنفاق ليُنير لنا الآفاق، جاء طوفان الأقصى ليُجلّي القيم الآتية:
القيمة الأولى: في ترسيخ العقيدة.
جاء طوفان الأقصى مُثبّتاً لعقيدة المسلمين بوعد الله لهم بقرب زوال هذا الكيان الغاصب، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ الإسراء:7، ولقد أساءت المقاومة الباسلة وجه العدو بكل براعة واقتدار من خلال كسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وأصابت كبرياءه وغطرسته في مقتل، ونحن في أمس الحاجة اليوم لترسيخ العقيدة من جديد في زمن انتشرت فيه الشُّبهات والأباطيل حول الإسلام.
القيمة الثانية: في ترسيخ الإيمان.
قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ الأنفال:60، فغزّة التي خرّجت منذ شهورٍ قليلة أكثرَ من ثلاثةِ آلاف حافظٍ وحافظةٍ؛ هي غزة التي حقّق رجالها مجدَ العبور العظيم في 7 أكتوبر، فكان الإعداد النفسي والروحي والإيماني سبيلاً راشداً وطريقاً منيراً لتحقيق النّصر على أرض المعركة؛ فالنصر يأتي مع التزام المحاريب والجِدّيّة والإخلاص.
عُبّاد ليلٍ إذا جنّ الظلام بهم
كم من عابدٍ دمعَهُ على الخد أجراه
أما النهار أُسْد غاب إذا نادى الجِهادُ بهم
خرجوا للموت يستجدون رؤياه
القيمة الثالثة: في الصبر والثبات والقوة.
إن الله تعالى امتحن المؤمنين بحبهم لهذا الدّين بالابتلاءات والفتن، امتحن ثباتهم وصبرهم وتصديهم للظلم والباطل، ولقد أثبت هذا الشعب حبَّه لهذا الدّين وسطّر بالدماء تاريخاً مجيداً وجديداً لعز وعزة هذه الأمة؛ فقد تشربوا معاني القرآن الكريم وكان متجلياً في عقولهم ووجدانهم وسلوكهم في تحمل هذا الابتلاء؛ فالحرب والدماء والهدم والمآسي لم تزدهم إلا إيماناً وثباتاً وعزماً وإرادة أقوى لمواصلة المسير، فطوفان الأقصى أثبت أنّ شعب فلسطين هو الشعب الذي لا يُقهر بإذن الله.
القيمة الرابعة: في إعادة إحياء قيمة الجهاد.
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ آل عمران:142، معركة طوفان الأقصى أحْيَت قيمةَ الجهاد والاستشهاد في نفوس الأمة، صححت المفاهيم وأعادت توجيه بوصلة الإيمان في قلوبنا بعد أن كادت تتلاشى بتشويه المناهج التربوية في كثير من الدول العربية والإسلامية ومحوِ باب الجهاد من الكتب، بل وجعل التربيةَ الإسلاميةَ مادةً غير أساسية، قال رسول الله ﷺ: ﴿إذا فسدَ أَهْلُ الشَّامِ فلا خيرَ فيكم﴾ صحيح الترمذي، وفسّر أهل العلم أن مُقتضى الفساد يعني ترك الجهاد بالضرورة، فأعاد طوفان الأقصى قيمة الجهاد إلى مكانه الصحيح في العقل والوجدان والسلوك، فلا نصر بلا جهاد، ولا صوت يعلو فوق صوت البندقية.. ولا صوت يعلو فوق صوت الجهاد.
القيمة الخامسة: في إعادة إحياء ضمير الأمة.
طوفان الأقصى أحيا ضمائر الأمة وشحذ الهِمم نحو الانتصار للمسجد الأقصى، حيث كانت تُدنَّس باحاته من خلال القرابين التوراتية على يد الجماعات اليهودية المتشددة بهدف فرض التقسيم المكاني والزماني في صمت دولي وإقليمي ومحلي مخزٍ ومَعيب، فطوفان الأقصى حققت مقاصد عليا للإسلام عبر تعزيز هذه القيم المنسيّة.
القيمة السادسة: في العودة للدين والدخول في الإسلام.
لقد رأينا دخولَ عددٍ كبير من الأجانب إلى الإسلام بعد طوفان الأقصى والتزامَ كثيرٍ من الشباب المسلم وتمسكهم بالدين أكثر وأكثر، فطوفان الدماء قد جدد دماء الإيمان في عروق الشعوب، وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا” ففائدة الموت أنه يحيي الناس ويوقظ ضمائرهم، ويحثهم على العمل والجد أكثر لأنهم أدركوا حقيقة قصر الحياة وزوالها.
القيمة السابعة: في المعاملة الأخلاقية مع الأسرى.
إنّ خوض المعركة وأسرالأعداء لا يتنافى مع مبادئ الدّين الإسلامي في التّعامل بأخلاق الإسلام واحترام كرامة الإنسان حتى لو كان أسيراً، فالأسير له حقوق وليس حيواناً كما وصف جيش الاحتلال اللاأخلاقي شعب غزة وأطفالها، فدين الإسلام دين الإنسانية والأخلاق والرحمة، لذا حُق لهذا الدّين العظيم أن يسود وينشر وأن يكون خاتم الرسالات لخاتم الرسل.
القيمة الثامنة: في بث الوعي ولفت الإدراك.
طوفان الأقصى بث الوعي في وجدان المسلمين نحو حقيقة الصراع بيننا وبين الصهاينة بأنه صراع ما بين حق وباطل بالدرجة الأولى وليس بين أحزاب وتكتلات، وأنه صراع الأمة الإسلامية مع الباطل، وأنه صراع ما بين خير وشر، وأنه صراع عقدي وديني أصيل وكم تحتاج الأمة اليوم هذا الوعي في الشباب ليحدد بوصلته بدقّة وليقوم بمسؤولياته تجاه قضايا أمته ومقدساته.
القيمة التاسعة: في تلاحم شعوب الأمة وتعاضدها.
إن الخير في هذه الأمة باق إلى قيام الساعة، فقلوب الأمة تحركت مع هذا الطوفان بطوفان النصرة والحرقة دفاعاً عن راية الإسلام، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى﴾ رواه مسلم، فهما تكالبت علينا الأمم؛ تبقى هذه الأمة متعاضدة ومتلاحمة في الدفاع عن عقيدتها ودينها وإسلامها، ومن هذه القيمة اكتسبت خيرتها وأفضليتها على سائر الأمم.
القيمة العاشرة: في أنّ الحق لا يُستجدى.
كرّس طوفان الأقصى لقيمة أن الحق لا يُستجدى، إنما يُنتزع انتزاعاً، وأن المطالبة بالحق مشروعة بل وواجبة شرعياً وإنسانياً وأخلاقياً، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ الحج: 39.
كل هذه القيم وغيرها كانت حصاد معركة طوفان الأقصى التربوي والقيمي، هذه المعركة التي لم تضع أوزاها بعد تمخّض عنها عشرات الدروس والعبر، وكم نحن بحاجة لهذه الدروس اليوم في تربية أولادنا لإخراج جيل قادر على تحمل مسؤولياته وواجباته وتحمل أمانة حمل راية الإسلام والدعوة والجهاد، نسأل الله تعالى النصر العاجل والمُؤزّر لإخواننا في غزة وعموم فلسطين، وأن يظهر هذا الدّين على الدين كله، وأن يكرمنا بصلاة فتح على أعتاب المسجد الأقصى.
اللهم آمين.. اللهم آمين