الحرِّيَّات وحقوق الإنسان في صحيفة المدينة
بقلم د.علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إنَّ الصَّحيفة تدلُّ بوضوحٍ، وجلاءٍ على عبقرية الرَّسول صلى الله عليه وسلم في صياغة موادِّها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعضٍ؛ فقد كانت موادُّها مترابطةً، وشاملةً، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقِّق العدالة المطلقة، والمساواة التَّامَّة بين البشر، وأن يتمتَّع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم، بالحقوق والحرِّيَّات بأنواعها.( الدقس، 1994،ص420) يقول الأستاذ محمد سليم العوَّا: «ولا تزال المبادئ التي تضمَّنها الدستور – في جملتها – معمولاً بها، والأغلب أنَّها ستظل كذلك في مختلف نُظُم الحكم المعروفة إلى اليوم… وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها، في أوَّل وثيقة سياسيَّة دوَّنها الرَّسول صلى الله عليه وسلم ».( أبو فارس، 1986، ص65)
فقد أعلنت الصَّحيفة: أنَّ الحرِّيات مصونةٌ؛ كحرية العقيدة، والعبادة، وحقِّ الأمن… إلخ، فحرية الدِّين مكفولةٌ: «للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم». قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرآه فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256] وقد أنذرت الصَّحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ، أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصَّت الوثيقة على تحقيق العدالة بين النَّاس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة.
لقد أوجب الإسلام على الحكَّام أن يقيموا العدلَ بين النَّاس دون النّظر إلى لغاتهم، أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعيَّة، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحقِّ، ولا يهمُّه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء، أو أعداء، أغنياء، أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل.
إنَّ تربية المجتمع المسلم وإعداده لقيادة الإنسانيَّة بخصائصه؛ التي احتواها منهجه التربويُّ حفيَّةٌ أشدَّ الحفاوة بِشِرْعَةِ العدل، وإقامته بين الأفراد، والجماعات، والأمم، والشُّعوب؛ لأنَّ العدل في شمول مواطنه هو دعامةُ القيادة الموفَّقة.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135] .
وهذا نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في تكليف المجتمع القياديِّ المسلم بتحقيق العدل على أتمِّ صوره، وأكمل أحواله، فالعدل على النفس، وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس، وأبعد البُعَدَاء، وفي قوله تعالى: ﴿كُونُوا﴾، أمرٌ للمجتمع المسلم، في جميع أفراده، وجماعاته، أينما حلُّوا من أرض الله، وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة، أو المتباعدة، وهو أمر كينونة يُشْعر بمادَّته بالإلزام، والالتزام، والتَّهيُّؤ والآنبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة، وفي قوله تعالى: بصيغة ﴿قَوَّامِينَ﴾، إيماءٌ إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من النهوض بإقامة معالم العدل بكلِّ ما أوتي من قوة مادِّية، ورُوحية، مشمِّراً علىساق العزم في بذل الجهد، والتحفُّز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل الاجتماعيِّ.
أمَّا مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوصٌ صريحةٌ في الصَّحيفة حولها، منها: «أن ذمَّة الله واحدة»، وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم»، وأنَّ «المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون النَّاس»، ومعنى الفقرة الأخيرة: أنَّهم يتناصرون في السَّراء والضَّرَّاء (الفقرة 15). وتضمَّنت الفقرة (19): أنَّ «المؤمنين يُبيء بعضهم على بعضٍ، بما نال دماءهم في سبيل الله»، قال السُّهيلي – شارح السيرة – في كتابه (الرَّوض الآنف): «ومعنى قوله يبيء: هو من البَوَاء، أي: المساواة».( القاسمي، 1990، ج1، ص38)
ويعدُّ مبدأ المساواة أحد المبادئ العامَّة الَّتي أقرَّها الإسلام، وهو من المبادئ الَّتي تساهم في بناء المجتمع المسلم، ولقد أقرَّ هذا المبدأ، وسبق به تشريعات، وقوانين العصر الحديث، وممَّا ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها النَّاس! ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتَّقوى. أَبَلَّغْتُ؟» [أحمد (5/411)] .
إنَّ هـذا المبدأ كان من أهم المبادئ الَّتي جذبت الكثيـر من الشُّعـوب قديماً نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوَّة للمسلمين الأوَّلين.( متولي، 2008، ص385)
وليس المقصود بالمساواة هنا، (المساواة العامَّة) بين النَّاس جميعاً في أمور الحياة كافَّةً، كما ينادي بعض المخدوعين، ويرون ذلك عدلاً؛( الميداني، 1999، ج1، ص624) فالاختلاف في المواهب، والقدرات، والتَّفاوت في الدَّرجات غايةٌ من غايات الخلق؛ ولكنَّ المقصود المساواةُ؛ الَّتي دعت إليها الشَّريعة الإسلاميَّة، مساواةٌ مقيَّدةٌ بأحوالٍ فيها التَّساوي، وليست مطلقةً في جميع الأحوال، فالمساواة تأتي في معاملة النَّاس أمام الشَّرع، والقضاء، والأحكام الإسلاميَّة كافَّةً، والحقوق العامَّة دون تفريق بسبب الأصل أو الجنس، أو اللَّون، أو الثروة، أو الجاه، أو غير ذلك.( الصلابي،1999،ص463)
إنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإسلام سواسيةٌ، الحاكم، والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس، واللون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكَّام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواء؛ ولذلك كانت الدَّولة الإسلاميَّة الأولى، تعمل على تطبيق هذا المبدأ بين النَّاس وكانت تراعي الاتي:
ـ إنَّ مبدأ المساواة أمرٌ تعبُّديٌّ، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
ـ إسقاط الاعتبارات الطَّبقية، والعُرْفية، والقبليَّة، والعنصريَّة، والقوميَّة، والوطنية، والإقليمية، وغير ذلك من الشِّعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانيَّة، وإحلال المعيار الإلهيِّ بدلاً عنها للتَّفاضل، ألا وهو التَّقوى.
ـ ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ولا يُراعى أحدٌ لجاهه، أو سلطانه، أو حسبه ونسبه؛ وإنَّما الفرص للجميع، وكلٌّ على حسب قدراته، وكفاءاته، ومواهبه، وطاقته، وإنتاجه.
ـ إنَّ تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدَّولة الإسلاميَّة، يقوِّي صفَّها، ويوحِّد كلمتها، وينتج عنه مجتمعٌ متماسكٌ متراحمٌ يعيش لعقيدةٍ، ومنهجٍ، ومبدأ.
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتمِّ ما قد تحتاجه الدَّولة، من مقوِّماتها الدُّستوريَّة، والإداريَّة، وعلاقة الأفراد بالدَّولة، وظَلَّ القرآن يتنزَّل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السِّياسة، وشؤون المجتمع، وأحكام الحرام والحلال، وأسس التَّقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدَّولة المسلمة في الدَّاخل، والخارج، والسُّنَّة الشريفة تدعم هذا، وتشيده، وتفصِّلـه في تنوير وتبصرةٍ، فالوثيقة خطَّت خطوطاً عريضة في التَّرتيبات الدُّستورية، وتُعَدُّ في قمَّة المعاهدات الَّتي تحدِّد صلة المسلمين بالأجانب الكفَّار المقيمين معهم، في شيءٍ كثيرٍ من التَّسامح، والعدل، والمساواة، وعلى التَّخصيص إذا لُوحِظَ أنَّها أوَّل وثيقةٍ إسلاميَّة، تُسَجَّل، وتنفَّذ في أقوامٍ كانوا – منذ قريب – وقبل الإسلام – أسرى العصبية القَبَلِيَّة، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلُّط، وبالتَّخوض في حقوق الآخرين، وأشيائهم.( فيض الله، 1986،ص30)
كانت هذه الوثيقة، فيها من المعاني الحضاريَّة الشيء الكثير، وما توافق النَّاس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وأنَّه لا بدَّ على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها، فهل حدث هذا الالتزام.( الجمل، 1989، ص 261)
____________________________________________
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه،2004م،ص504-509
كامل سلامة الدقس، دولة الرَّسول(ﷺ) من التَّكوين إلى التَّمكين، دار عمَّار – عمَّان، الطَّبعة الأولى، 1415هـ 1994م
محمَّد عبد القادر أبو فارس، النِّظام السِّياسيُّ في الإسلام، دار الفرقان، الطَّبعة الثانية 1407هـ 1986
ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإسلامي، دار النفائس، الطَّبعة السادسة 1411 هـ 1990م
عبد الحميد متولِّي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، الطَّبعة الأولى، دار المعارف.1429ه-2008م
عبد الرَّحمن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلاميَّة وأسُسها دار القلم – دمشق.1420ه-1999م
عليٍّ محمَّد الصَّلاَّبي، فقه التَّمكين في القرآن الكريم، دار البيارق – عمَّان، الطَّبعة الأولى 1420ه 1999م.
محمَّد فوزي فيض الله، صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، دار القلم – دمشق، الدَّار الشَّاميَّة – بيروت، الطَّبعة الأولى، 1416هـ 1996م.
أحمد عبد الغني النجولي الجمل، هجرة الرَّسول(ﷺ) وصحابتُه في القرآن والسُّنَّة دار الوفاء، الطَّبعة الأولى، 1409 هـ 1989.