بقلم أحمد الأيوبي .. أمين عام التحالف المدني الإسلامي في لبنان
يتخذ الرئيس سعد الحريري منحى سلبياً في علاقته بدار الفتوى وبمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان من خلال ممارسات بعيدة كل البعد عن شعار دعم الإعتدال الذي يرفعه في مقاربة موقع دار الفتوى الديني والوطني ، رغم كل مشاهد المجاملة الظاهرة.
فالحريري يتصرف وكأن دار الفتوى ملكيةٌ حزبية ، يتدخل في الكبيرة والصغيرة ، في حين يلوذ مفتي الجمهورية بالمعالجة الهادئة وبالممانعة الإيجابية وسط أزمة صامتة بين الطرفين ، لا تجد تنفيساً لها إلا من خلال وسطاء الخير الذين يسعون لرأب الصدع حفاظاً على المصلحة الإسلامية العليا.
• مسار تراكميّ سلبي
سبق للحريري أن وضع ثقله للتدخل في مباراة القضاة الشرعيين ، وطلب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ضرورة تجنيب المحاكم الشرعية التدخلات وترك المباراة والكفاءة تحكم التعيينات ، لكن الحريري بقي مصراً على ممارسة كل أنواع الضغوط ، مما أنتج حالات اعتراض علنية وجدت طريقها إلى وسائل الإعلام.
وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن إطلاق آلية الإصلاح في مؤسسات دار الفتوى ، إذا كان رئيس الحكومة يتدخل ليتحكم بمفاصل المؤسسة الإسلامية الأم ، ولماذا لم يوقع الرئيس الحريري حتى الآن مرسوم مناقلات القضاة الشرعيين الذين يتقاضون رواتبهم منذ قرابة الشهرين ، في حين تعاني المحاكم من شغور واسع وكبير يهدد مصالح المسلمين؟!
وكيف يمكن أن يأخذ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى دوره ، وهو الذي استحوذ السياسيون على أعضائه ، فحولوا الكثيرين منهم إلى مجرد ممثلين لهم ، فساد الجمود وحلّ الشلل.
وكيف يمكن تقوية دار الفتوى كمرجعية وطنية إذا كانت تتعرّض لحصار يحول دون تطوير مؤسساتها ومرافقها ، وهذا السؤال شامل طبعاً لكل المرجعيات السنية ، إضافة إلى الرئيس الحريري ، لكن التركيز عليه كونه رئيس مجلس الوزراء ، وهل حصارُ الدار هو تمهيد لإسقاطها لصالح ما يُحضّر من مشاريع لعلمنة لبنان؟
.. والحريري هو الوحيد الذي أعلن قبوله بالزواج المدني ، وإن كان قد خفـّف حينها من وطأة تأييد بالقول إنه لن يزوّج إبنه زواجاً مدنياً ، وأنه يريد أن يكون هذا الأمر إختيارياً.
يحارب الرئيس الحريري دار الفتوى وبشكل معلن وصريح عبر عزلها عن ملفات هي في صلب عملها ودورها ، مثل قضايا مكافحة الإرهاب ، حيث سبق لتيار المستقبل أن نظم أيام رئاسة الرئيس تمام سلام مؤتمراً تحت عنوان “نحو استراتيجية وطنية لمكافحة التطرف والإرهاب” من دون دعوة مفتي الجمهورية ودار الفتوى ، وهنا نتساءل: كيف يمكن صياغة خطة وطنية لمواجهة التطرف ، إذا كانت مؤسسة الإعتدال الكبرى (دار الفتوى) مستثناة ومغيبة؟!
ويمارس الحريري سياسة تهميش وإلغاء لدار الفتوى من خلال خطوات تشريعية وحكومية تضرب هوية المسلمين ، كما هو الحال في اعتماد يوم الجمعة يوم عمل ، بدل الإستجابة لمطالب دار الفتوى التاريخية منذ الإستقلال حتى اليوم باعتماد يوم الجمعةيوم عطلة رسمية في إطار التوازن الطائفي والوطني.
ورغم تقديم الكثير من الملاحظات على قانون العنف الأسري ، إلا أن الحريري ، مرره عبر كتلته في مجلس النواب ، ثم قام يتوقيع التعديلات التي قدمها وزير العدل (العوني) سليم جريصاتي على هذا القانون ، والقاضية بنقل صلاحية النظر بشؤون القاصر من القضاء الشرعي إلى قاضي الأحداث ، دون العودة إلى دار الفتوى ، في تجاهل واضح لرأي الدار وموقفها وموقعها الملزم للإستشارة وأخذ الرأي ، مع طرح سؤال بديهي: ما هو المنطق في نقل الصلاحية من القاضي الشرعي إلى قاضي الأحداث ، خاصة أن الضوابط الشرعية لا تقلّ عن البنود القانونية في الحفاظ على حق القاصر ، ثم ألا يمكن التفاهم على صيغة قانونية تراعي الشؤون الشرعي ولا تتضارب مع مقاصد حماية مصالح القاصر؟!
وكيف يستجيب الحريري وغيره من النواب لجمعيات متطرفة ترفع شعارات لا ترضى عنها شرائح واسعة من اللبنانيين ، ويتجاهل ملاحظات دار الفتوى بما تمثـّل من عمق ديني وثقل وحضور وطني؟!!
وإذا كان ثمة حديث عن الفساد ، فإن هذه الإشكالية تشمل القضاء كاملاً ، والشكوى تتصاعد في كل أرجاء قصور العدل ، والجميع يؤكد أن هناك قضاة شرفاء وأن هناك قضاة وقعوا في مستنقع الفساد ، وليس هناك منطق في هذه الخطوات ، سوى إرادة واضحة للرئيس الحريري وتياره في نقل لبنان من الدولة المدنية التي تحترم الأديان إلى الدولة العلمانية التي تـُقصي الدين من الحياة ، ومن هنا نفهم لماذا يرفع الحريري شعار الإعتدال ويقوم بإقصاء دار الفتوى.
يحتفظ مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان بسكينته وحكمته وهدوئه في مقاربة واقع يدرك أنه قد يكون الأسوأ في تاريخ المسلمين القريب ، وهو يرى مواقع السنة تتهاوى في الدولة وتراجع وزنهم أمام الآخرين ، لكنه لا يخرج عن إعتداله وحكمته ، ويرفض اللجوء إلى السجال والإعلام ، ونحن نعلم أن طرح هذا النقاش علناً لن يرضيه ولن يكون من مؤيديه ، لكننا نرى أن السيل قد بلغ الزبى ، وسكوت المجتمع المسلم عن ما يجري لم يعد جائزاً.
• مسؤولية شاملة
نحن نرى أن المسلمين في لبنان لم يستوعبوا بعد حقيقة ما يجري من تمرير للقوانين التي تستهدف هويتهم الدينية والحضارية ، ولهذا اخترنا أن نفتح الباب أمام النقاش المعلن ، مؤكدين أن بقية القيادات السنية مسؤولة عن ما يجري حسب حجمها وإمكاناتها. فالرئيسان فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي مسؤولان وليس من المنطقي غيابهما عن هذه الإستحقاقات ، وليس مقبولاً السكوت عنها لا في مجلس النواب ولا على المستوى السياسي والشعبي.
إن هذا المسار الذي شارك فيه السواد الأعظم من نواب المسلمين يجب أن يكون محفزاً في الإنتخابات النيابية المقبلة على القيام بحساب عسير لكل هؤلاء الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا مجرّد موظفين وأدوات برتبة نواب!
كما أن الحركات والجمعيات الإسلامية تتحمّل مسؤولية التأخر في الحركة ضد ما يجري ، وهذا يجب تداركه ، حتى لا يكون تحركها مرهوناً بظرف سياسي ، بقدر ما هو مرتبط بالقضية الواجب التحرك لأجلها.
ليس في هذا الكلام إسقاط للمسؤولية عن دار الفتوى بل هو تحديد لحجم المسؤوليات وطبيعتها. خاصة ان من يمثلنا في السلطة هو من يقود هذا الإتجاه الخطر وقد بتنا نفهم اكثر من أي وقت مضى سكوته عن الأصوات التي تخرج في مؤسساته تتطاول على الدين وتستهزئ بثوابته.
يبقى السؤال: إذا كان اعتدال دار الفتوى قد ضاقت به صدر الرئيس الحريري ، فماذا يبقى من المسلمين ليتسع صدره لهم ، مع التذكير بأنه اليوم على رأس السلطة التنفيذية لأنه يمثـّل المسلمين السـنـّة المتمسكين بمحاكمهم الشرعية وبأحوالهم الشخصية والذين لا يحتاجون إلى مجموعة خارجين على أديانهم ومذاهبهم ليصلحوا لهم شؤونهم القانونية والشخصية؟!
وهنا ندعو إلى تفعيل الإصلاح في القضاء الشرعي ، حتى لا يـُفهم من هذا الموقف أنه رضى عن بعض الممارسات التي تستدعي المعالجة السريعة ، فالحقّ أولى أن يُـتـّبع ، لكن الحل يبقى بالإصلاح لا بالإلغاء.
لا يصلح لبنان لأن يكون دولة دينية لأي طائفة أو مذهب ، لكنه لا يصلح أيضاً أن يكون دولة علمانية متطرفة تحارب الدين وتـُخرجه من حياة المواطنين ، وإذا كنا ضد التطرف ، فلا يمكن خوض المواجهة مع المتطرفين إلا بالإعتدال الديني ، فلا اعتدال بلا دين.
(المصدر: موقع لبنان 360)