مقالاتمقالات مختارة

الحرية والحريات في عهد الفاروق.. مشاهد مضيئة

الحرية والحريات في عهد الفاروق.. مشاهد مضيئة

بقلم د. علي الصلابي

إن مبدأ الحرية من المبادئ الأساسيَّة؛ الَّتي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الرَّاشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرِّيَّات العامَّة للنَّاس كافَّة ضمن حدود الشَّريعة الإِسلاميَّة، وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإِسلام لحرِّيَّة النَّاس -جميع النَّاس- دعوةً واسعةً وعريضةً، قلَّما تشتمل على مثلها دعوةٌ في التَّاريخ، وقد أسهم مبدأ الحرِّيَّة مساهمةً فعَّالةً بانتشار الدِّين الإِسلاميِّ، وبتسهيل فتوحات المسلمين، واتِّساع رقعة دولتهم؛ لأنَّ الإِسلام كرَّم الإِنسان، وكفل حرِّياته على أوسع نطاق، ولأنَّ النُّظم السِّياسيَّة الأخرى السَّائدة آنذاك في دولة الرُّوم والفرس كانت أنظمةً استبداديَّةً، وتسلُّطيَّةً، وفئويَّةً، قاسى بسببها الرَّعايا وبصورةٍ خاصَّةٍ المناوئون السِّياسيُّون، والأقلِّيات الدِّينيَّة أشد درجات الكبت، والاضطهاد، والظُّلم. وقد تجلى هذا المبدأ بأبهى صوره في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذه بعض المشاهد والمواقف التي تشهد على احترام الحرِّيات في زمن الفاروق رضي الله عنه:

1ـ حرية العقيدة الدِّينيَّة:

إن حركة الفتوحات في عهد الفاروق الَّتي قام بها الصَّحابة تشهد على احترام الإِسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إِكراه أحدٍ في الدُّخول في الإِسلام، حتَّى إِنَّ الفاروق نفسه جاءته ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجةٌ عنده، فقال لها: أسلمي؛ تسلمي، إِنَّ الله بعث محمَّداً بالحقِّ، فقالت: أنا عجوزٌ كبيرةٌ، والموت إِليَّ أقرب، فقضى حاجتها، ولكنَّه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إِكراهها على الإِسلام، فاستغفر الله ممَّا فعل، وقال: اللَّهمَّ إِنِّي أرشدت، ولم أكره!

وكان لعمر ـ رضي الله عنه ـ عبدٌ نصرانيٌّ اسمه: (أشق) حدَّث فقال: كنت عبداً نصرانيّاً لعمر، فقال: أسلم حتَّى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ لأنَّه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبيت، فقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. فلمَّا حضرته الوفاة أعتقني، وقال: اذهب حيث شئت. وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم، وطقوس عبادتهم في معابدهم، وبيوتهم، ولم يمنعهم أحدٌ من ذلك؛ فقد أورد الطَّبريُّ في العهد الَّذي كتبه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأهل إِيلياء (القدس) ونصَّ فيه على إِعطاء الأمان لأهل إِيلياء على أنفسهم، وأموالهم، وصلبانهم، وكنائسهم، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه: بسم الله الرَّحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص لأهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملَّتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبرِّهم، وبحرهم، وأكَّد ذلك العهد بقوله: على ماضي هذا الكتاب عهدُ الله وذمَّة رسوله، وذمَّة الخليفة أمير المؤمنين، وذممُ المؤمنين.

لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرِّيَّة الاعتقاد في المجتمع، ولخَّص سياسته حيال النَّصارى، واليهود بقوله: وإِنَّا أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم، وألا نحمِّلهم ما لا يطيقون، وإِن أرادهم عدوُّهم بسوءٍ قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلِّي بينهم وبين أحكامهم، إِلا أن يأتوا راضين بأحكامنا، فنحكم بينهم، وإِن غيَّبوا عنَّا؛ لم نتعرَّض لهم.

وقد ثبت عن عمر: أنه كان شديد التَّسامح مع أهل الذِّمَّة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: إِنَّ عمر -رضي الله عنه- مرَّ بباب قومٍ وعليه سائلٌ يسأل ـ شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصر ـ فضرب عضده من خلفه وقال: من أيِّ أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهوديٌّ، قال: فما ألجأك إِلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة، والسِّنَّ، قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إِلى منزله، فرضخ له بشيءٍ من المنزل، ثمَّ أرسل إِلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا، وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم! ووضع عنه الجزية، وعن ضربائه، وقد كتب إِلى عمَّاله معمِّماً عليهم هذا الأمر. وهذه الأفعال تدلُّ على عدالة الإِسلام، وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرِّفق برعاياه ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرِّيَّة الدِّينيَّة معلماً بارزاً في عصر الخلافة الرَّاشدة، مكفولةً من قبل الدَّولة، ومصونةً بأحكام التَّشريع الرَّبَّانيِّ.

2ـ حقُّ الأمن، وحرمة المسكن، وحرِّيَّة الملكيَّة:

ومن المنطلق القرآني، والممارسة النَّبويَّة تكفَّل الفاروق في عهده للأفراد بحقِّ الأمن، وحقِّ الحياة، وسهر على تأمينهما، وصيانتهما من أيِّ عبثٍ، أو تطاول. وكان الفاروق -رضي الله عنه- يقول: (إِني لم أستعمل عليكم عمَّالي ليضربوا أبشاركم، ويشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلِّموكم كتاب ربِّكم، وسنَّة نبيِّكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فليرفعها إِليَّ حتَّى أقصَّه منه)، وجاء عن عمر أيضاً قوله: ليس الرَّجل بمأمونٍ على نفسه إِن أجعتُه، أو أخفتُه، أو حبستُه أن يقرَّ على نفسه.

وقوله هذا يدلُّ على عدم جواز الحصول على الإِقرار، والاعتراف من مشتبه به في جريمةٍ تحت الضَّغط، أو التَّهديد سواءٌ أكانت الوسيلة المستعملة بذلك مادِّيَّة (كحرمانه من عطائه، أو مصادرة أمواله) أو معنويَّة (كاللجوء إِلى تهديده، أم تخويفه بأيِّ نوع من العقاب) وجاء في كتابه لأبي موسى الأشعريِّ بصفته قاضياً: (واجعل للمدَّعي حقّاً غائباً، أو بيِّنة أمداً ينتهي إِليه، فإِن أحضر بيِّنته؛ أخذت له بحقِّه، وإِلا وجهت عليه القضاء، فإِنَّ ذلك أنفى للشَّكِّ)وهذا القول يدلُّ على أنَّ حقَّ الدِّفاع كان محترماً، ومصوناً.

وفيما يتعلَّق بحرمة السكن فقد كانت مكفولةً، ومصونةً في عهد الفاروق، وعصر الخلفاء الرَّاشدين، وأمَّا حرِّيَّة الملكيَّة؛ فقد كانت مكفولةً، ومصونةً أيضاً في عصر الخلفاء الرَّاشدين ضمن أبعد الحدود الَّتي تقرُّها الشَّريعة الإِسلاميَّة في هذا المجال، فحين اضطر عمر -رضي الله عنه- لأسبابٍ سياسيَّة، وحربيَّة لإِجلاء نصارى نجران، ويهود خيبر من قلب شبه الجزيرة العربيَّة، إِلى العراق والشام أمر بإِعطائهم أرضاً كأرضهم في الأماكن الَّتي انتقلوا إِليها احتراماً منه، وإِقراراً لحقِّ الملكيَّة الفردية؛ الذي يكفله الإِسلام لأهل الذمَّة مثلما يكفله للمسلمين، وعندما اضطر عمر إِلى نزع ملكيَّة بعض الدُّور من أجل العمل على توسيع المسجد الحرام في مكَّة، ولم يكن دفعه للتَّعويض العادل إلا اعترافاً منه، وإِقراراً بحقِّ الملكيَّة الفرديَّة؛ الَّتي لا يجوز مصادرتها حتَّى في حالة الضَّرورة إِلا بعد إِنصاف أصحابها.

3ـ حرية الرأي:

كفل الإِسلام للفرد حرِّيَّة الرأي كفالةً تامَّةً، وقد كانت هذه الحرِّيَّة مؤمنةً، ومصونةً في عهد الفاروق، فكان عمر -رضي الله عنه- يترك الناس يبدون آراءهم السَّديدة، ولا يقيِّدهم، ولا يمنعهم من الإِفصاح عمَّا تكنُّه صدورهم، ويترك لهم فرصة الاجتهاد في المسائل الَّتي لا نصَّ فيها، فعن عمر: أنَّه لقي رجلاً، فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌّ، وزيدٌ بكذا. قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك، والأمر إِليك ؟ قال: لو كنت أردُّك إِلى كتاب الله، وإِلى سنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وسلم)؛ لفعلت، ولكنِّي أردُّك إِلى رأيٍ، والرَّأي مشتركٌ ما قال عليٌّ، وزيد.

وهكذا ترك الفاروق الحرِّيَّة للصَّحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهاديَّة، ولم يمنعهم من الاجتهاد، ولم يحملهم على رأيٍ معيَّنٍ. وكان النَّقد، أو النُّصح للحاكم في عهد الفاروق، والخلفاء الرَّاشدين مفتوحاً على مصراعيه، فقد قام الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يخطب، قال: أيُّها الناس! من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً، فليقوِّمه. فقام له رجل، وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا! فقال عمر: الحمد لله الَّذي جعل في هذه الأمة مَنْ يقوِّم اعوجاجَ عمرَ بسيفه.

وقد جاء في خطبة عمر لما تولَّى الخلافة: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإِحضاري النَّصيحة. واعتبر الفاروق ممارسة الحرِّيَّة السِّياسيَّة البنَّاءة (النَّصيحة) تعد واجباً على الرَّعيَّة، ومن حقِّ الحاكم أن يطلب بها: أيُّها الرَّعية إِنَّ لنا عليكم حقّاً: النَّصيحة بالغيب، والمعونة على الخير. وكان يرى أنَّ من حقِّ أيِّ فردٍ في الأمَّة أن يراقبه، ويقوِّم اعوجاجه؛ ولو بحدِّ السَّيف؛ إِن هو حاد عن الطَّريق، فقال: أيها النَّاس من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً؛ فليقوِّمه.

وكان يقول: أحبُّ النَّاس إِليَّ مَنْ رفع إِليَّ عيوبي، وقال أيضاً: إِنِّي أخاف أن أخطأ فلا يردَّني أحدٌ منكم تهيُّباً منِّي. وجاءه يوماً رجلٌ، فقال له على رؤوس الأشهاد: اتَّق الله يا عمر! فغضب بعض الحاضرين من قوله، وأرادوا أن يُسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إِذا لم تقولوها، ولا خير فينا إِذا لم نسمعها، ووقف ذات يوم يخطب في النَّاس، فما كاد يقول:

(أيُّها النَّاس! اسمعوا، وأطيعوا) حتَّى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر! فقال عمر بهدوءٍ: لِمَ يا عبد الله ؟! قال: لأنَّ كلاًّ منَّا أصابه قميصٌ واحدٌ من القماش لستر عورته وعليك حُلَّة! فقال له عمر: مكانك، ثمَّ نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله: أنَّه قد أعطى أباه نصيبه من القماش؛ ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصَّحابة، وقال الرَّجل في احترام وخشوع: الآن السَّمع والطَّاعة يا أمير المؤمنين! وخطب ذات يومٍ، فقال: لا تزيدوا في مهور النِّساء على أربعين أوقيَّةً، وإِن كانت بنت ذي القَصَّة ـ يعني: يزيد بن الحصين ـ فمن زاد ألقيت الزِّيادة في بيت المال. فقالت امرأة معترضةً على ذلك: ما ذاك لك! قال: ولم؟ قالت: لأنَّ الله تعالى قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} [النساء: 20]. فقال عمر: امرأة أصابت، ورجلٌ أخطأ.

وجاء في رواية: أنَّه قال: اللَّهمَّ غفراً! كلُّ إِنسانٍ أفقه من عمر، ثمَّ رجع، فركب المنبر، فقال: أيها الناس! إِنِّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النِّساء في صدقاتهن على أربعمئة درهمٍ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبَّ، وطابت به نفسه، فليفعل. إن ما سبق من المشاهد والمواقف لخير دليل على مدى احترام الفاروق لقيمة الحرية وحرصه على صونها، وقد طبقها بالقول والفعل وعلى كافة الصعد، وما من شهادة أدل على مكانة الحرية عند عمر من مقولته التي خلدها التاريخ حين خاطب عمرو بن العاص قائلاً: “يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”. وكذلك كانت خلافته، فهو حرٌ يحكم أحراراً عن تراض منهم وتوافق، لا عن جبر وإكراه. وهو حكم عدل وتحرير، لا حكم ظلم واستعباد.

 ——————————————————————————————————————–

المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب، مكتبة التابعين، القاهرة، ط1، (2002)، صفحة 129:119.

* حمد الصمد، نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، صفحة 168:163، 200:192.

* محمد أبو عجوة، المجتمع الإسلامي دعائمه وآدابه، مكتبة دبولي، ط1، (1999)، صفحة 165.

* إدوارد غالي، معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، مكتبة غريب، ط1، (1993)، 41.

* عبد الرحمن الحميضي، القضاء ونظامه في الكتاب والسنة، منشورات جامعة أم القرى، ط1، (1989)، صفحة 48.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى