مقالاتمقالات مختارة

الحرية في عصر النيوليبرالية

الحرية في عصر النيوليبرالية

بقلم باباني ناياك

ترجمة: علي آدم عيسى

تحرير: هلا اليوسف

 

يواجه العالم اليوم أصعب أزمةٍ له بعد الحربين العالميتين. لقد أصبحت شرعية النُظم الدّولية المدعمة بمعاهدة صلح وستفاليا وتناسخها بعد الحرب في مهب الريح، وفقدت الأحزاب السياسية ثقة الجمهور وغدت شرعيتها محط تساؤل.

وفي حين اخضعت الرأسمالية النيوليبرالية الدول والحكومات وتراجعت بيئة الحريات، تتمتع الأقليّة الأوليغارشيّة الحاكمة بحرية السيطرة المطلقة على السوق. ولم يعد محرجًا اظهار بعض من هذه الدول والحكومات ميولاً سلطوية وفاشية.

وترتب على ذلك صعودا هائلا لقوى اليمين في المجتمعات وفي السياسة بصفة خاصة؛ إن النظام الرأسمالي النيوليبرالي يزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية والعالم اليوم يمر بأزمة واضحة المعالم، ففي مقابل معاناة الكثيرين يعيش عدد قليل جدا من الناس حياة مزدهرة، الأمر الذي أدى الى ظهور اليوتوبيا الرأسمالية.

وأدت عقود من ضعف الأجور وخصخصة الموارد العامة وتحرير القواعد وأنظمة الحماية إلى تركُز القوى السياسية والاقتصادية في أيدي القلة.

 صعود اليمين ودوره في خلق التفاوت الطبقي:

يشهد العالم اليوم أعلى أشكال التفاوت الطبقي في التاريخ؛ وظهر التهميش الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والإحباط  السياسي كأبرز المميزات المحددة للنيوليبرالية التي تضخ الحياة في شرايين اليمين.

وهنا، يلعب صعود اليمين دورًا أساسيًا في إعادة إنتاج وتطبيع التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتنامية في العالم. ذلك أن التفاوتات المتنامية في العالم لم تحدث بين عشيّة وضحاها وليست حدثًا عارضًا او ظاهرةً طبيعيّة، فالتسارع الواسع المطرد لعدم المساواة والتهميش هو نتاج السياسات النيوليبرالية – مشروع الرأسمالية – الذي اضر بالمجتمع عن طريق تفكيك أسسه الجماعية.

كما أدى الإنبهار بالفردانية إلى صعود مجتمع تتشكل فيه الأفعال الفردية عبر مُثُل المنفعة والمتعة والرضا. والمعيار الذهبي للقبول الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي يتلخص في الهيام بعبارة “الرجال والنساء الذين صنعوا نجاحهم بأيديهم”.

النيوليبرالية وتدمير الوعي الجمعي:

إلى جنب ذلك تمضي النخب النيوليبرالية ومناصروها في نشر سردية نيوليبرالية لتدمير الوعي الجمعي للجمهور، من خلال ممارسة سلطتهم غير الشرعية. كذلك يرتبط ارتفاع الشعور بالوحدة والأمراض العقلية مثل الاكتئاب بنهج الليبرالية الجديدة.

إذ تكفلت الليبرالية الجديدة بتشكيل الوعي الجمعي بمعزل عن الواقع المادي والاجتماعي للشعوب ففُصلتها عن ماضيّها وحاضرها من أجل الحفاظ على فكرة واحدة : “لا بديل عن النيوليبرالية إلا النيوليبرالية”. تلك الدعاية أسهمت بصعود القوى اليمينية الدينية والثقافية في السياسة، راسمة معانٍ جديدة للحياة الفردية من خلال الترويج لفكرة تحمل القهر والتسلط والفقر باسم المصلحة الوطنية.

لقد أصبحت استراتيجية للحكم وآلية للتحكم.

هذه الاستراتيجية دفعت إلى تصاعد وتيرة المطالبة بالحرية المطلقة من ناحية وتناقص الحرية الفردية من ناحية أخرى. فالقوى اليمينية تهاجم فكرة الحرية ذاتها التي تزعم الليبرالية الجديدة أنها تروّج لها. وعليه أصبح الارتفاع المباغت للتناقضات الفجّة جزءًا لا يتجزأ من الليبرالية الجديدة كمشروع ممهد للرأسمالية.

وفي كتابه “الطريق إلى العبودية” (1944)  يرى الكاتب النمساوي فريدريش هايك أن السياسات الحكومية تدمر الحرية الفردية. وقد أخذ الهايكيون – أتباع فريدريش هايك  – الأمر إلى أبعد من ذلك إذ زعموا أن الدولة والمجتمع يمثلان عقبتين أمام الحرية الفردية.

إن تأسيس فريدريش هايك لجمعية مونت بيليرين المدعومة من قبل الاثرياء تهدف لتعزيز النيوليبرالية كمذهب، فلا يزال إرثه يتمظهر في رسالة ورؤية ووظائف معهد كاتو ومعهد أمريكان إنتربرايز ومؤسسة التراث في واشنطن ومعهد الشؤون الاقتصادية ومركز دراسات السياسات ومعهد آدم سميث في لندن والعديد من مراكز الفكر النيوليبرالية الأخرى، ويتم تمويل هذه المنظمات والشبكات من قبل المصرفيين والصناعيين والأثرياء لتعزيز النيوليبرالية بإسم الحرية الفردية والديمقراطية. وتروّج مؤسسات الفكر وبيوت الخبرة هذه للفكرة القائلة بأن السوق الحرة وثقافتها الاستهلاكيّة تُسهل الحرية الفردية.

وفي كتابه “الرأسمالية والحرية” (1962)، قدم الاقتصادي الامريكي ميلتون فريدمان دفاعاً عن الحرية الاقتصادية ضمن مجتمع ليبرالي في ظل رأسمالية تنافسية. وقد أرست فلسفة ميلتون فريدمان الأسس لديمقراطية السوق التي تتعارض مع فكرة الديمقراطية نفسها. وأتى طرح هذه الفكرة المخادعة عن الحرية بهدف السيطرة على السوق، وهي الأساس لنمو الرأسمالية خلال القرنين الماضيين.

لقد حان الوقت لتحطيم هذه الأسطورة.

الليبرالية الجديدة وكبح الحريات الفردية:

تخفي الليبرالية الجديدة كمشروع قصور وضعف السوق والرأسمالية، وتضمن كبح الحرية الفردية للأشخاص سواء كمستهلكين أو مواطنين. فالحرية ليست فرديّة مجزأة كما تروّج لها الليبرالية الجديدة. نحن نعلم إن حرياتنا مترابطة وتعتمد على بعضها البعض. إنها عملية تحرّر جماعي أو استسلام جماعي.

لذا، من المهم فصل وإنقاذ فكرة الحرية والتعبير عنها وعن روحها الجماعية بعيدا عن القوى اليمينية والنيوليبرالية.

هذه العملية تعتمد على رغبتنا الجماعية في التعلم من الحقائق اليومية للناس وتجاربهم المترابطة في ظل الأنظمة الرأسمالية المختلفة الحاكمة. يجب التعبير عن مخاوف الناس ووعيهم الجمعي بالسعي إلى إيجاد بدائل للتعبير عن أنفسهم بدون حواجز مؤسسية وهيكلية. فتأكيد حق “تقرير المصير” في شكله الفردي والجماعي هو أساس الحرية والديمقراطية الذي تسحقه الرأسمالية النيوليبرالية والقوى اليمينية.

لاشك أن التقاليد التعدّدية للحرية والديمقراطية تشكل تهديدات وجودية للرأسمالية والقوى اليمينية. لأن كلتَا القوتين تعتمدان على ادعاءات أصولية ووظيفية أعيد انتاجها مرارا، وهي تدمج الحرية والديمقراطية وفقًا لنظرتهما العالمية وغير الليبرالية. كما أن تاريخ الليبرالية الجديدة يظهر تقاربها مع الطغاة والحكومات الاستبدادية. فقد وضع الاقتصاديون الليبراليون الجدد من مدرسة شيكاغو كل مهاراتهم تحت تصرّف الديكتاتور التشيلي أوغوستو بينوشيه، من أجل اسعاف الاقتصاد التشيلي، الذي حطم حياة الملايين.

وترى المنظرة السياسيّة الأمريكيّة ويندي براون في كتابها “على أنقاض النيوليبرالية: صعود السياسات المعادية للديموقراطية في الغرب ” (2019) ، بأن النيوليبرالية أرست الأسس للسياسات المعادية للديمقراطية في العالم الغربي من خلال تفكيك الأسس السياسية والاجتماعية للحياة الفردية.

وفي كتابها “القيم الأسرية: بين النيوليبرالية والمحافظة الاجتماعية الجديدة” (2017)، تكشف أستاذة علم الاجتماع ميليندا كوبرعن التحالف الشيطاني بين النيوليبرالية والسياسة المحافظة.

يعزز هذا التحالف القيم والأخلاق الأسرية الرجعية التي تحد من حرية الفرد وكرامته بغية تعزيز قوى السوق. وقد أشارت المرأة الحديدية -النيوليبرالية-  في بريطانيا، مارغريت تاتشر  ذات مرة إلى أن الاقتصاد ما هو إلا وسيلة، وأما الغاية فهي تغيير قلب وروح المجتمع، بما يتلاءم مع مصالح قوى السوق.

من شأن هذه السردية الإيديولوجية أن تشرخ المجتمع وتظهر افراده كمجموعة من الأفراد المهتمين فقط بمصلحتهم الذاتية، وهي تدمر التضامن الديمقراطي والنظام الاجتماعي سعيا وراء حرية السوق.

وبهذه الوسيلة، تتشابك النيوليبرالية والاستبداد مع بعضهما البعض. فالديمقراطيات تضبط المواطنين كي يحققوا مصالح الرأسمالية، ومن خلال ذلك يتم تحويل دولة الرفاهية إلى “دولة بوليسية” من أجل حماية مصالح الطبقات الرأسمالية. وبالتالي تتضح الالتزامات العملية للحكومات في تحويل السلطة من العمال إلى رؤس الاموال، ومثل هذه العملية غير العادلة تجري على الصعيد العالمي بواسطة التطبيع مع الهجمة النيوليبرالية على روح الحرية الفردية والجماعية على حد سواء، ويكون الهدف مواصلة هيمنة الرأسمالية كنظام عالمي دون منازع.

وتعمل الهالة الاعلامية للطبقة الرأسمالية بصورة مفرطة من أجل تحويل الأفراد إلى مستهلكين وتحويل المجتمعات من مجتمعات مستهلكة حسب الحاجة إلى مجتمعات رغبوية. هذه التحولات مهمة وضرورية لبقاء الرأسمالية. وهي تحل التناقضات الداخلية للرأسمالية بسبب الإنتاج المتزايد وتحرّرها من الأزمات، في حين تسجن العامل في إطار مجتمع قائم على الرغبة بحثا عن الحرية الوهمية.

إن تحقيق الحرية والكرامة الفردية يعتمد على قدرات الفرد على فك ارتباطه من براثن الرأسمالية النيوليبرالية والقيود السياسية. فلا توجد طريقة أخرى لتحقيق الحرية الفردية التي تعطي معنى للحياة في رؤاها الفردية والجماعية على حد سواء.

(المصدر: موقع أثارة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى