الحرم الإبراهيمي.. تاريخ رابع الأماكن المقدسة عند المسلمين
إعداد علي سعادة
فيما تواصل قوى اليمين الإسرائيلي خطواتها العملية على الأرض في بناء حي يهودي وسط مدينة الخليل، فقد كان اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس دولة الاحتلال رؤوفين ريفلين، الحرم الإبراهيمي في أيلول/ سبتمبر عام 2019 بداية مرحلة جديدة من تهويد مدينة الخليل. ويومها قال نتنياهو بعجرفته المعهودة إنه “لن ينجح أحد في طردنا من هذا المكان، وسنبقى في الخليل إلى الأبد”.
وأضاف بصلف: “كانوا على يقين أنهم اقتلعونا من هذا المكان مرة واحدة وإلى الأبد، لقد ارتكبوا خطأ مريرا”.
المسجد الإبراهيمي، أو الحرم الإبراهيمي الشريف، نسبة إلى النبي إبراهيم “خليل الرحمن”، يعتبر أقدم بناء مقدس مستخدم حتى اليوم دون انقطاع تقريبا، وهو رابع الأماكن المقدسة عند المسلمين بعد الحرمين المكي والمدني والمسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين عامة، والثاني في فلسطين. ويقال إنه بني فوق مغارة مدفون فيها كل من النبي إبراهيم وزوجته سارة، وولدهما إسحاق وولده يعقوب وزوجتيهما رفقة وليئة. وتذكر بعض الروايات أن الأنبياء آدم ونوح وسام ويوسف مدفونون هناك أيضا.
يقع في البلدة القديمة لمدينة الخليل جنوب الضفة الغربية في فلسطين، وهو يشبه في بنائه المسجد الأقصى، ويحيط بالمسجد سور عظيم مبني من حجارة ضخمة يصل طول بعضها إلى 7 أمتار، ترجع أساساته لعهد هيرودس الأدومي في فترة حكمه للمدينة، بعدها قام الرومان ببناء كنيسة في مكانه، ثم هدمت بعد أقل من 100 عام على يد الفرس، لتتحول بعدها إلى مسجد في العصور الإسلامية الأولى.
بعد ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب كان الفتح الإسلامي لبلاد الشام، وسيطر المسلمون بقيادة عمرو بن العاص على منطقة الخليل عام 634 ميلادية بعد “معركة أجنادين” ضد البيزنطيين، وفي تلك الفترة لم تكن الخليل ذات أهمية حيث أزال الفرس منها مظاهر الحضارة، وكان المسجد الإبراهيمي مجرد سور مهمل.
ومع الفتح الإسلامي، وبعد اعتناق الأهالي الإسلام، اعتبروا الحير (السور) مكانا مقدسا، فجعلوه مسجدا يزورونه ويصلون فيه، ويقيمون المساكن حوله.
وفي عهد الدولة الأموية، حظيت مدينة الخليل بشكل عام والمسجد الإبراهيمي بشكلٍ خاص بعناية الأمويين، فقاموا بأعمال البناء، فسقفوا المسجد، ووضعت قباب لمدافن الأنبياء، وبنوا المشاهد فوق الأضرحة، وأخذت الأبنية تتسع حول المسجد.
وفي عهد الدولة العباسية استمر اهتمام الخلفاء في مدينة الخليل والمسجد الإبراهيمي، ففي بداية العهد العباسي، فتح باب في السور الشمالي الشرقي بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف، وتم تركيب باب حديدي له، وزين المسجد وفرشه بالسجاجيد، وأدخل على عمارته إصلاحا كبيرا. وفي أواخر القرن التاسع الميلادي كان بناء ما يعرف بـ”المُغطّى” وهو سقف ساحة المسجد الرئيسية، إضافة إلى بعض الغرف لإسكان الزوار.
وفي ظل سيطرة الدولة الفاطمية على الشام ومدن فلسطين ومنها الخليل عام 972 ميلادية تطورت العمارة في المسجد، وتوسع المسلمون في نشاط المسجد فبنوا دورا للزوار حول المبنى، وبناء القباب على قبور إبراهيم وسارة.
وقعت مدينة الخليل في أيدي الصليبيين عام 1099 فقاموا باستهداف المسجد الإبراهيمي بمجرد دخولهم المدينة، حيث قام القائد الفرنسي بيير دي نوربون بالاعتداء على المسجد والاستيلاء على كل النفائس الموجودة داخله. وفي عام 1100، قام الصليبيون بتحصين المدينة، وقام الأمير جودفري أول حكام بيت المقدس ببناء قلعة حصينة بجانب المسجد الإبراهيمي عرفت باسم قلعة “القديس أبراهام”.
وقام الصليبيون بتحويل المسجد إلى كنيسة أطلقوا عليها اسم كنيسة “القديس أبراهام” واتخذوا منها مركزا دينيا لكل المناطق المجاورة.
وبقي الوضع كما هو إلى أن استطاع القائد صلاح الدين الأيوبي أن يعيد مدن فلسطين كلها إلى حاضنة المسلمين في عهد الدولة الأيوبية وذلك بعد “معركة حطين” عام 1187، لينهي بذلك الوجود الصليبي في الخليل والمنطقة. ومع استعادة المسجد الإبراهيمي من الصليبيين، حولت الكنيسة إلى مسجد من جديد دون تغيير جذري للمبنى.
وفي العهد المملوكي ازدهرت الحركة المعمارية في مدينة الخليل عامة وما يتعلق بالمسجد الإبراهيمي خاصة، فجددت القبة الرئيسية للمسجد عام 1268، ورتبت الأخشاب والمقاصير والأبواب، ودهن ما يحتاج منها إلى الدهان، وجددت شواهد الأنبياء، وأصلحت أماكن الوضوء.
وفي عهد الدولة العثمانية وبعد “معركة مرج دابق” عام 1516، انتشر في عهدها العلم والعلماء في المسجد الإبراهيمي، وزين المسجد بالكتابات والآيات، بالإضافة إلى الشبابيك والقناديل والمزهريات المعدنية والشمعدانات.
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات الإنجليزية مدينة الخليل ووضعت تحت الانتداب البريطاني، وشكل “المجلس الإسلامي الأعلى” لرعاية شؤون الأماكن الإسلامية في المدينة. وكان من أبرز الأعمال التي قام بها هذا المجلس: تعمير المنبر، وقصارة وتكحيل المسجد، وتبليط مصلى الجاولية وتكحيل سطحه وإنشاء ميضة في ساحة القلعة.
وبعد أن انسحبت بريطانيا من فلسطين عام 1948، خضعت مدينة الخليل رسميا إلى حكم الأردن، بعد قرار وحدة الضفتين عام 1950، والذي جعل الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وقد أنجزت في ذلك العهد إصلاحات عديدة وهامة للمسجد الإبراهيمي، فزادت العناية فيه وتحسنت أوضاعه وزاد عدد موظفيه.
وقعت مدينة الخليل تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران/ يونيو عام 1967، ومنذ ذلك التاريخ، شرع المستوطنون الإسرائيليون بالاستيطان في محيط المدينة ثم في داخلها، كما بدأت القوات الإسرائيلية والمستوطنون اعتداءاتهم على المسجد الإبراهيمي منذ اليوم الأول لاحتلال المدينة بهدف تحويله إلى معبد يهودي.
وتوالت الاعتداءات على المسجد؛ وبحسب باحثين، فإن جميع هذه الاعتداءات كان يقوم بها المستوطنون، بحماية مباشرة من الجيش والشرطة الإسرائيلية.
وكان يوم الجمعة الدامي منتصف رمضان الموافق 25 شباط/ فبراير 1994، يوما حزينا وغاضبا بعد أن دخل الإرهابي الصهيوني باروخ غولدشتاين المسجد الإبراهيمي بإذن القوات الإسرائيلية، وكان المسلمون يصلون صلاة الفجر، حاملا معه بندقية آلية وعددا من الذخائر المجهزة، وما لبث أن فتح النار على المصلين، فاستشهد على الفور 29 فلسطينيا، وأصاب أكثر من 150 آخرين بجروح، وقام الجنود الإسرائيليون الموجودون في الحرم بإغلاق أبواب المسجد لمنع المصلين من الهرب، كما أنهم منعوا القادمين من خارج الحرم من الوصول إلى ساحته لإنقاذ الجرحى. وتمكن المصلون من السيطرة على المستوطن وقتله.
وكرد فعل على المجزرة، وفي نفس اليوم، اندلعت الاحتجاجات في فلسطين وبلغ عدد الشهداء الذين سقطوا نتيجة المصادمات مع الاحتلال 60 فلسطينيا وأغلقت سلطات الاحتلال المسجد والبلدة القديمة لستة أشهر بهدف التحقيق في المجزرة، وشكلت لجنة لتقصي الحقائق باسم “لجنة شمغار”، والتي خرجت بتقريرها بعد 4 أشهر بإدانة عامة للمجزرة وبرأت الحكومة والجيش.
وكان لتقرير لجنة “شمغار” الأثر الأكبر على أوضاع مدينة الخليل عامة، وعلى أوضاع المسجد الإبراهيمي، فقد خرجت بتوصيات عديدة عقب أحداث مذبحة الحرم الإبراهيمي كان أخطرها تقسيم الحرم الإبراهيمي بين المسلمين واليهود.
وفي أعقاب توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال عام 1993، وقع عام 1997 اتفاق لاحق بشأن الخليل يقسمها إلى قسمين: (H1) التي تخضع للسيطرة الفلسطينية، و(H2) تحت السيطرة الإسرائيلية.
وحول الاحتلال جزءا من المسجد إلى كنيس يهودي فأصبح 60 في المائة من مساحته لليهود، والباقي للمسلمين وقامت بفصل هذين الجزئين عن بعضهما بحواجز وبوابات حديدية محكمة ووضعت فيها ثكنات عسكرية للمراقبة.
وأعلنت سلطات الاحتلال عام 2010، ضم المسجد الإبراهيمي ضمن قائمة التراث اليهودي، وأنها ستشمل موقع المسجد في الخطة الوطنية لحماية وإعادة تأهيل مواقع التراث، ما أثار احتجاجات من الأمم المتحدة والحكومات العربية. وصوتت “اليونسكو” لاحقا بأغلبية أعضائها باعتبار المسجد الإبراهيمي جزاء أصيلا من التراث الفلسطيني الإنساني.
وتنشر السلطات الإسرائيلية 22 حاجزا حول الحرم الإبراهيمي، منها تقريبا 6 حواجز تعيق دخول المصلين إلى المسجد بجانب المضايقات التي يواجهها الزوار الذين يزورون المسجد من الجانب الفلسطيني.
وفي عام 2017 أدرجت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة “اليونسكو”، البلدة القديمة في الخليل على لائحة التراث العالمي، في قرار حظي بدعم 12 دولة، فيما امتنعت 6 دول، وصوتت ضده 3 دول.
وفي حينه اعتبر الفلسطينيون أن قرار اليونسكو “يدحض بوجه قاطع كافة الادعاءات الإسرائيلية المطالبة بضم الحرم الإبراهيمي إلى الموروث اليهودي، ويؤكد هوية الخليل الفلسطينية”.
لقد تغير كل شيء منذ المذبحة، وأصبحت الحياة صعبة في الخليل كل يوم، وبعد 26 عاما على المجزرة لا تزال سلطات الاحتلال تعاقب الضحايا وتنغص عليهم حياتهم عبر 4 مستوطنات إسرائيلية داخل مدينة الخليل، أقحمت وسط المجتمع العربي الفلسطيني المتجانس بالكامل. وتتم مواصلة بناء الأحياء الاستيطانية وسط الأحياء العربية.
(المصدر: عربي21)