مقالاتمقالات مختارة

الحركة الإسلامية.. والواجهات الثلاث

الحركة الإسلامية.. والواجهات الثلاث

بقلم أ. د. أحمد الريسوني

في كلمته الافتتاحية للجمع العام الوطني الثاني لحركة التوحيد والإصلاح

بسم الله الرحمان الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله وآله أجمعين
أما بعد
حضرات السادة العلماء والدعاة والشخصيات الوطنية، حضرات الإخوة رؤساء وممثلي الجمعيات والهيئات الإسلامية، حضرات السادة والسيدات الكرام ضيوفنا الأعزاء، الإخوة الأفاضل الصحفيين، أيها الإخوة والأخوات جميعا،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ومرحبا بكم في هذا اللقاء الأخوي الذي نفتتح به الجمع العام الوطني الثاني لحركة التوحيد والإصلاح، وإنه ليسعدنا ويشرفنا أن يحضر معنا ويشاركنا في افتتاحنا هذا هؤلاء الأجلاء الفضلاء من أهل العلم والدعوة والوطنية والعمل الإعلامي. شكر الله مسعاكم وتفضلكم بهذا الحضور وجزاكم الله خير الجزاء.
إن هذا الجمع العام الذي نسميه “الثاني”، إنما هو بالنظر إلى التأسيس الجديد الذي عرفته هذه الحركة بعد انبثاقها عن الوحدة الاندماجية التي تمت بين “حركة الإصلاح والتجديد” و”رابطة المستقبل الإسلامي” سنة 1996، وإلا فإن هذه الحركة هي حصيلة جهود ومبادرات تعود إلى نحو من ثلاثين سنة خلت. وهذه الجهود والمبادرات إنما هي جزء من الحلقة المعاصرة لحركة الانبعاث والتجدد الإسلامي بالمغرب.
وإن النظر في تجربة هذه العقود الثلاثة لينبئنا أن الحركة الإسلامية المعاصرة قد عملت ويجب أن تعمل على ثلاث واجهات:
1 القيام بالوظيفة الدعوية والإصلاحية داخل المجتمع.
2 معالجة التحديات والمواجهات التي تقع فيها أو تفرض عليها.
3 إصلاح الذات وترشيد المسارات.

والحقيقة أن النجاح واستمرار النجاح على الواجهتين الأولى والثانية، لن يأتي إلا بالنجاح على الواجهة الثالثة، فلابد أن نعرف ونعترف بأن قدرا كبيرا من المشاكل والمتاعب ومن التعثرات والانتكاسات التي تعاني منها الحركات الإسلامية، إنما هو منها ومن ذاتها ومما عملته أيديها: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) (آل عمران 165).
وحينما أنظر في هذه العقود الثلاثة التي عايشتها، أجد أن ما تحقق من منجزات ونتائج طيبة يرجع بنسبة كبيرة إلى العمل المتواصل على الواجهة الثالثة، بما لا يقل عن دور الجهود والتضحيات المبذولة على الواجهتين الأولى والثانية. وبفضل الإصلاح المستمر للذات والترشيد المتواصل للمسارات، والتطوير المتجدد للمؤسسات، بفضل هذا كله تثمر الجهود والتضحيات وتتعزز النتائج والمكتسبات.
إن جمعنا هذا ليس سوى محطة على هذا الطريق، وخطوة على هذه الواجهة، وإن حرصنا على انتظام هذه المحطات في مواعيدها، وحرصنا على أن تتم بكامل النزاهة والاستقامة، وأن تمر في رحاب الصدق والإخلاص، وفي أجواء التناصح البناء، لهو سبيلنا السديد لترقية ذاتنا وترشيد مسيرتنا، معتمدين في ذلك أولا وأخيرا على الله تعالى راجين فضله وتوفيقه (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) (الكهف(17

حضرات السادة العلماء والدعاة والشخصيات، أيها الإخوة والأخوات،
إن الحركة الإسلامية بموازاة مع تجديد نفسها وإصلاح ذاتها تتحمل كذلك مسؤولية الإصلاح داخل صفوف مجتمعها. وحينما أقول “الحركة الإسلامية” فإنما أعني كل من يتحرك بالإسلام وللإسلام، وكل من يدعو إلى الإسلام ويسعى إلى الإصلاح على أساسه وبهديه، والنهوض بالإسلام، سواء كانوا أفرادا أومنظمات أو مؤسسات أو جمعيات، أو غير ذلك من الأسماء والمسميات.
هؤلاء جميعا يتحملون قبل غيرهم وأكثر من غيرهم مسؤولية الإصلاح والتوعية والتعليم والتربية داخل صفوف المجتمع وبين أفراد المجتمع.
إن دعاة الإسلام وحملة الرسالة الإسلامية لا يسعهم أن يتغافلوا عن أحوال مجتمعنا ومواطنينا ومدى حاجتهم إلى الإصلاح والتوجيه والتأطير التربوي والاجتماعي. كما لا يسعهم أن يجاملوا الجماهير وأن يدغدغوا عواطفها بالثناء والمدح والتطمين، على غرار العبارة الشهيرة “ولا يخصنا سوى النظر في وجهكم العزيز”.
لقد أخذ الله تعالى علينا أن نتناصح ولا نحابي، وأن نبين ولا نكتم، وأن نقول الحق لا نخشى في الله لومة لائم. ونحن نجد اليوم ناسا كثيرين من دعاة التغيير والنضال والإصلاح قد تركزت أنظارهم على الدولة ومؤسساتها وعلى الحكومة و أعمالها، فأصبحوا لا يرون الفساد إلا فيها ومنها، ولا يرون الإصلاح إلا لها وبها. كما نجد الأحزاب السياسية التي يفترض فيها أن تكون في صدارة من يعتنون بتكوين المواطنين وترقيتهم لا تكاد تتذكرهم وتتجه إليهم إلا لطلب حضورهم في المهرجانات الحزبية أو لطلب أصواتهم في المواسم الانتخابية، بل إن كثيرا من الممارسات السياسية الرسمية والحزبية على مدى الأربعين سنة الماضية لم تزد الطين إلا بلة، وأصبحت هي نفسها مصدرا من مصادر الإفساد للمجتمع وللمواطنين، تحتاج إلى من يصلحها ويصلح المجتمع من آثارها.
إن الأمية الدينية، وشيوع الثقافة اللادينية، والنزعة الفردية الأنانية، وفقدان المناعة الخلقية، وتفشي الرذائل والموبقات، وسيادة الانتهازية والزبونية على حساب الآخرين، بل على حساب الوطن والمجتمع كله، والاستعداد التام لخرق القوانين والقيم لأدنى مصلحة أو نزوة شخصية… كل هذه العيوب والآفات وأخوات لها كثيرة، أصبحت ضاربة الأطناب في مجتمعنا، تنخر كيانه وتعوق تقدمه وتنميته، وتفسد عليه دنياه وآخرته.
إن علماء الإسلام ودعاة الإسلام والعاملين في الهيئات والمؤسسات الإسلامية هم طليعة من يقع على عاتقهم العمل والإصلاح والإنقاذ على هذا الصعيد. وهذه جبهة مشتركة ومهمة موحدة، لا تختلف فيها جماعة عن أخرى ولا عالم عن آخر ولا داعية عن غيره، ولا فرق فيها بين السلفي والصوفي، ولا بين الرسمي والشعبي، ولا بين المنتمي واللامنتمي.
ولذلك ندعو في حركة التوحيد والإصلاح إلى فتح الاتصالات والمشاورات، وإلى التعاون والتنسيق في هذه الجبهة المشتركة وهذه المهمة الموحدة، دونما حساسية أو التفات إلى الاعتبارات السياسية والاختلافات الفكرية أو المذهبية أو التنظيمية.
إن ما هو إسلامي بلا خلاف، وما هو وطني بلا نزاع، وما هو مصلحة وخير لوطننا وشعبنا وأمتنا ودولتنا، يجب أن نلتقي فيه وننخرط جميعا في إنجازه والدفاع عنه، وأن يكمل بعضنا بعضا ويلتحق بعضنا ببعض ويدعم بعضنا بعضا في كل خطوة وكل مبادرة من هذا القبيل. فإذا دعيتم فأجيبوا، وإذا استنفرتم فانفروا.

حضرات السادة الكرام:
إن هذا الوطن العريق، وهذا الشعب المسلم الأصيل، إنما بنى كيانه وشخصيته، وثقافته وحضارته وحقق إنجازاته وأمجاده وعزته واستقلاله، بالإسلام وشريعته. ومنذ عرف الإسلام لم يبتغ غير الإسلام دينا، ولا رضي غير شريعته قانونا ونظام حياة. وهو والحمد لله لا يزال متمسكا بهذا ووفيا له، ولا يقبل بديلا عنه. ونحن جميعا مع غيرنا من أبناء جيلنا وعصرنا مؤتمنون في هذه الحقبة على هذه الأمانة العظمى وهذا الإرث النفيس. بل واجبنا أن نقوم بالترميم والتجديد لما انهدم أو انخرم من قواعد الدين وأحكامه. فنحن نرث أيضا ركاما ثقيلا من العوامل التي صنعت تخلفنا ومازالت تعيق تقدمنا ونهضتنا. فثقافة الانحطاط وممارسات التخلف وعوامل الضعف والعجز، مازالت تعيش وتعشش في مجتمعنا. وقد انضافت إليها مخلفات الحقبة الاستعمارية التي ضربت أوتادها وأرست مؤسساتها، ومكنت لأوليائها ووكلائها. حتى أصبحت جل شؤون المغرب المسلم اليوم، تحت “رحمة” هؤلاء الأولياء والوكلاء، أو تحت تأثيرهم ونفوذهم وقبضتهم على الأقل، ولقد بلغ الاغتراب ببعض هؤلاء المغربين أنهم لم يعودوا يطيقون سماع شيء من الإسلام. بل إن بعضهم أصيبوا مؤخرا بنوع من الهستيريا حينما
سمعوا كلاما مجرد كلام عن الشريعة وتطبيق الشريعة.
إن الشريعة الإسلامية التي نعمل على أساسها ونعمل على تعزيز مكانتها وتجديد فاعليتها هي شريعة المودة والرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء/107) (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (الروم/21) وهي شريعة العدل والقسط (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد/25) وهي شريعة الإيمان والإحسان ومكارم الأخلاق (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة/177) (إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون) (النحل/90). إنها الشريعة التي وصفها الإمام ابن القيم رحمه الله بكلماته النيرة، حيث قال: “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل
كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها. وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل. فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح… وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها. وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها…” (أعلام الموقعين 3/3).

حضرات السادة الكرام،
إننا مع إيماننا المطلق بالشريعة الإسلامية، نؤمن كذلك بضرورة التجديد والاجتهاد والإبداع في إطارها وفي ظل مبادئها وفي نطاق حدودها. كما نؤمن كذلك بضرورة الانفتاح والاستفادة من غيرنا، والتعامل الإيجابي المتبصر مع كل مستجدات عصرنا ومع كافة الثقافات والحضارات.

أيها السادة الأفاضل،
إن قضايانا المغربية الوطنية، لا تنسينا قضايا أمتنا الإسلامية. فنحن جزء لا يتجزأ من أمة الإسلام، ألا وإن كبرى قضايا المسلمين في هذا العصر هي قضية فلسطين السليبة، التي نزل بأهلها أكبر مظالم هذا العصر وأشد محنه، وإن الشعب الفلسطيني المستضعف إذ يعاني من تسلط العدو الصهيوني بمنتهى وحشيته وهمجيته، قتلا وتعذيبا وتجويعا وترويعا وتهجيرا وتخريبا، ليعاني أيضا من مرارة الخذلان والإهمال من الدول الشقيقة، ومن حكامها وحكوماتها. فلم يبق له بعد الله عز وجل إلا شيء من المدد المعنوي أو المادي من الشعوب والمنظمات الشعبية وقادتها ومناضليها. فكيف إذا تقاعس هؤلاء وتشاغلوا بشؤونهم؟!
إن القضية الفلسطينية يجب أن تبقى قضية وطنية لشعبنا وبلدنا، وقضية داخلية لمنظماتنا، وقضية عائلية داخل أسرنا، وقضية شخصية في حياتنا، لكي يعلم هذا الشعب المظلوم المستضعف أننا معه إلى النهاية، ولكي يعلم العدو الغاصب أننا ضد عدوانه واغتصابه إلى النهاية.
وإذا كان الشعب الفلسطيني هو الضحية الأولى للمخططات والممارسات الصهيونية الإجرامية الجهنمية، فإن اليهود هم الضحية الثانية، حيث جعلتهم الصهيونية والكيان الصهيوني وقودا لآلتها الحربية ولحروبها المتواصلة منذ ما يزيد عن نصف قرن. لقد أصبح اليهود المجلوبون إلى فلسطين يعيشون بين الموت والخوف من الموت، أو الخوف من المستقبل المجهول لأن الظالم الغاصب لا يمكن أن يأمن أو يطمئن أو يستقر. وقد كان هؤلاء اليهود آمنين مطمئنين في أوطانهم الأصلية، ومنها المغرب الذي غادره مئات الآلاف منهم، بعد أن شحنتهم المنظمات الصهيونية بالأوهام، ثم شحنتهم ورحلتهم إلى فلسطين. مع أنهم كانوا ينعمون في هذا البلد الكريم بكامل حقوقهم ومستلزمات عيشهم مع جميل الرعاية وحسن المعاملة.
وإننا حينما ننتقد أنصار الكيان الصهيوني والمتعاملين معه، لا نفرق في ذلك بين يهودي وغير يهودي، كما أننا في الوقت نفسه نؤكد أن اليهود المغاربة المتمسكين بوطنهم ووطنيتهم، لهم كامل حقوق المواطنة ولهم منا البر والقسط ونتقرب إلى الله بالعدل معهم والإحسان إليهم، كما هو مقتضى آي القرآن. فهذه مبادئنا وعليها ينبني سلوكنا.
ثم بهذه المناسبة إننا ندعو الحكومة المغربية لكي تسهل للشعب المغربي، ولأحزابه ومنظماته، كافة أشكال التضامن المادي والمعنوي، مع الشعب الفلسطيني الشقيق دون أي عرقلة أو تضييق، وذلك جزء من أضعف الإيمان.
(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج40.(

حضرات السادة والسيدات، أيها الإخوة والأخوات،
أجدد لكم شكرنا على تلبيتكم الدعوة واعتزازنا بهذا الحضور الذي شرفتم به جمعنا ونورتم به جلستنا. نسأل الله تعالى أن يرحم شهداءنا الأبرار وينصر إخواننا في أرض الأنبياء الأطهار. نسأله سبحانه لأمتنا كل خير وسداد وعزة ورشاد. كما نسأله عز وجل أن يحفظ ملكنا أمير المؤمنين وأن يوفقه للخير ويعينه عليه، وأن يريه الحق حقا ويرزقه اتباعه، ويريه الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه، إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(المصدر: موقع الدكتور أحمد الريسوني)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى