بقلم راجي سلطاني
للعبادة في حياة الأفراد دور لا يطاوله أي دور آخر، إلى الحد الذي نستطيع أن نقول فيه: إن العقيدة هي أساس بناء الإسلام، والجانب العبادي هو الحوائط والقوائم والأعمدة فيه، وبقية الأشياء الأخرى تأتي من بعد، ولا بيت من غير أساس، وكذلك لا بيت من غير حوائط وقوائم وأعمدة.
وفي ذلك يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الأشهر: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ) (رواه البخاري ومسلم).
وفي هذا الحديث يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على أن بناء الإسلام لا يُبنى إلا على العقيدة والعبادة، وكل شيء من بعدهما هو للإضافة والتحسين والتجميل في هذا البناء القائم.
ومن هذا يتبين لنا، أن دور الحركة الإسلامية وأفرادها في القيام بواجب الدعوة إلى الله، وواجب إيقاظ الأمة من غفلتها بالتعليم والتوعية، وواجب الحركة والجهاد من أجل إقامة الدولة الإسلامية التي يكون الحكم فيها لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والوقوف في وجه أعداء ذلك المشروع من أنظمة حاكمة طاغية، وعدو خارجي تاريخي حاقد -كل هذا الدور العظيم لا يأتي إلا من بعد الأساس في البناء الإسلامي للأفراد (العقيدة والعبادة)، بل ومن بعد الجانب الأخلاقي والسلوكي كذلك.
ومع أن الدعوة إلى الله وإلى دينه فرض فرضه الله على المسلمين، وأن العمل لإقامة دولة الإسلام وتحكيم شرع الله فيها هو فرض كذلك فرضه الله على المسلمين، إلا أن الفروض تتمايز وتختلف في درجة فرضيتها، فمنها فرض الكفاية الذي يسقط عن الأمة بقيام البعض به، ومنها فرض العين الذي لا يسقط عن أحد إلا بقيامه بعينه به.
وفي فرض العين نفسه، هناك فرض العين الذي مكانه الصدارة والتقديم، وهناك فرض العين الذي مكانه التبعية والتأخير.
ومن هنا، فإن أوجب واجبات الحركة الإسلامية أن تسعى أولاً لضبط أفرادها عقائدياً وعبادياً، ثم أخلاقياً وسلوكياً، ثم تنطلق بهم بعد ذلك يميناً وشمالاً، قد اكتمل بناء دينهم، واستووا على سوقهم، يعجبون الزراع ويغيظون الكفار.
إن أوجب واجبات الحركة الإسلامية أن تسعى أولاً لضبط أفرادها عقائدياً وعبادياً، ثم أخلاقياً وسلوكياً، ثم تنطلق بهم بعد ذلك يميناً وشمالا
أما أن تنشغل الحركة وتغرق حتى شحمتي أذنيها في العمل الحركي والسياسي والخدمي، فيسير الأفراد في ركابها وتحت عباءتها، كأنهم أفراد حزب سياسي أو مؤسسة اجتماعية، لا ورد لهم من قرآن، ولا نصيب لهم من قيام ليل، ولا تلهج ألسنتهم بذكر الله، فهذا هو الضلال الكبير، وأخشى أن ينطبق على أمثال هؤلاء قول الله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً،الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} [الكهف:103].
الأمر وصل في الحركة الإسلامية في سنواتها الأخيرة، ومع أجيالها الجديدة إلى ما يشبه الظاهرة.
فالعصر عصر طغيان العمل السياسي والحركي، وعصر طغيان الإعلام ووسائل التواصل، والثورات السياسية والفكرية والدعوية والحركية.
ووصل الأمر ببعض أبناء الحركة الإسلامية إلى الغرق في الواقع، بدلاً من متابعته ومراقبته والعمل على تغييره، إلى الحد الذي ملأ على الأفراد أوقاتهم وأفكارهم، فما عادوا يلتفتون إلى عبادة؛ نفلاً وفرضاً.
بدلاً من أن يصبح العمل السياسي فرعاً من فروع العمل داخل الحركة الإسلامية، أصبح هو العمل كله، وتضاءلت بجانبه كل فروع العمل الأخرى: التربوية، والدعوية. فتغيرت الأولويات، وطغى ماحقه التأخير على ما حقه التقديم.
بدلاً من أن يصبح العمل السياسي فرعاً من فروع العمل داخل الحركة الإسلامية، أصبح هو العمل كله، وتضاءلت بجانبه كل فروع العمل الأخرى: التربوية، والدعوية
ورأينا في صفوف الحركة الإسلامية من يجلسون ليتابعوا الشأن السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي بالساعات الطوال، ولا يقومون لقراءة قرآن، ولا لقيام ليل، ولا حتى لصلاة فرض في وقته وحينه.
ورأينا في صفوف الحركة الإسلامية من يبالغون في الحراك السياسي والاجتماعي، إلى الحد الذي يأكل كل أوقاتهم وحياتهم، وهم مع ذلك لا يكادون يحسنون قراءة القرآن، ولا يحسنون الصلاة بخشوعها وأحوالها.
ولقد رأينا في صفوف الحركة الإسلامية من يبيتون طوال الليل أمام الشاشات، ثم ينامون قبل الفجر بقليل، ولا يقومون له، وليس في برنامجهم ولا ترتيبهم شيء يسمى صلاة الفجر!
بل رأينا في صفوف الحركة الإسلامية من يشتعلون عملاً وحركة، ومع ذلك لا يصلون في المساجد إلا نادراً، بل يتركون بعض الصلوات فلا يصلونها أبداً، لا في المسجد ولا في غيره.
رأينا في صفوف الحركة الإسلامية من يشتعلون عملاً وحركة، ومع ذلك لا يصلون في المساجد إلا نادراً، بل يتركون بعض الصلوات فلا يصلونها أبداً، لا في المسجد ولا في غيره
ورأينا في صفوف الحركة الإسلامية سقطات أخلاقية وسلوكية كبيرة.
الحركة الإسلامية ليست إلا مجموعة من البشر، وليست مجموعة من الملائكة بأي حال من الأحوال .
هي مجموعة من البشر اجتمعوا فيما بينهم من أجل دعوة الناس والعمل لدين الله مع تربية أنفسهم وتأديبها وتصويبها.
ومن المنطقي والمقبول أن تتم هذه الأدوار معاً في نفس الوقت والحين: تربية النفوس ودعوة الغير والحركة لأجل المشروع الإسلامي الكبير.
ومع هذا السير المشترك في كل المسارات، يجب أن يبقى الأصل أصلاً والفرع فرعاً، وبعبارة أدق: يجب أن يبقى الأصل الأول أولاً، ويبقى الأصل الثاني ثانياً، والثالث ثالثاً، لا أن يتقدم الثاني أو الثالث على الأول، بل ويتوارى الأول إلى حد التلاشي واللاوجود.
الأمر وصل إلى حد الظاهرة كما قلنا، في السنين الأخيرة والأجيال الجديدة، والمسؤولية في ذلك مشتركة بين الحركة وآليات عملها واهتماماتها، وبين الأفراد كذلك.
وإن المسحة العبادية الصوفية التي مسح بها الإمام حسن البنا جماعته وحركته، لا بد لها أن تبقى، فبغيرها تتحول الجماعة والحركة إلى حزب سياسي، يبعد عن الله ودينه، بقدر بعد أفراده عن عبادة الله يوماً بعد يوم.
إن المسحة العبادية الصوفية التي مسح بها الإمام حسن البنا جماعته وحركته، لا بد لها أن تبقى، فبغيرها تتحول الجماعة والحركة إلى حزب سياسي، يبعد عن الله ودينه، بقدر بعد أفراده عن عبادة الله يوماً بعد يوم
ويجب أن يتنبه الجميع لذلك؛ حركة وأفراداً، حتى لا نصل ليوم شبيه بذلك اليوم الذي قال فيه الإمام البنا حين شارف على نهاية رحلته: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لعدت بالإخوان إلى قراءة المأثورات”.
وذلك لما بلغ الأمر بالجماعة إلى حد الإغراق في السياسة والحركة، مع الاختلاف حولهما والتنازع فيهما، وحينها ود الإمام البنا أن لو عاد الزمان به إلى البدايات الأولى، بدايات العبادة والذكر، والوهج الرباني الروحاني.
فإن لم ينتبه الجميع لذلك، فسنصل ليوم شبيه، يقول فيه الأكثرون ذلك، بل ويهربون بالكلية من نار السياسة والحركة والاختلاف والتنازع والتشرذم، والتي لا تنطفيء إلا بعبادة الله، وذكر الله، وكلام الله، والحال مع الله.
(المصدر: موقع بصائر)