الحركة الإسلامية بين الخطّ السّياسي والخطّ الاستراتيجي
بقلم ناصر حمدادوش
بالرّغم من الصّبغة الدّينية والطبيعة التنظيمية المؤدلجة للحركة الإسلامية، وبالرّغم من السّياقات التاريخية والظروف القاسية التي مرّت بها، والتي كانت من أكبر ضحايا الأنظمة الشمولية، إذ لم تسلم من كلّ أنواع الظلم والتزوير والاغتيالات والاعتقالات والانقلابات…
وبالرّغم من محاولات التركيز عليها واستهدافها أكثر من غيرها من التيارات، إلاّ أنّها استطاعت أن تتجاوز مرحلة المزايدات عليها بالانغلاق والتمركز على الذات إلى مرحلة المراجعات العميقة ومنها إلى الأبعاد التجديدية المعاصرة.
ومع الاعتراف ببعضِ قصورها الذّاتي وتراجع رأسمالها الشّعبي واهتزاز رمزيتها المجتمعية، إلاّ أنّها استطاعت أنْ تتحلى بالجرأة الأدبية والشّجاعة الفكرية بإخضاع تجربتها البشرية لأدبيات المراجعات النقدية، والتي أصبحت قناعةً جماعية وعملاً مؤسّسيًّا يرتقي إلى التجديد الوظيفي والتخطيط الاستراتيجي والتفكير الإبداعي.
ومع ذلك لابدّ من الاعتراف بأنّ مشروعها لم يعُد يغري بعمومياته وكلّياته، وأنّ وظيفة ومبرّرات تأسيس الحركة الإسلامية في مئوية الصّحوة بالتركيز على واجب الدّعوة، تختلف تمامًا عن وظيفة ومبرّرات تجديدها في مئوية النّهضة بالتركيز على واجب الوصول إلى الدولة لصناعة النهضة ومنها إلى الحضارة، ليقينية أنّ “المستقبل لهذا الدّين”، وأنّ “الإسلام هو حضارة الغد”، مصداقا لقوله تعالى: “يريدون ليُطفئوا نورَ الله بأفواهِهم، والله مُتِمٌّ نورَه ولو كرِهَ الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودِين الحقِّ ليظهِرَه على الدّين كلِّه ولو كرِهَ المشركون”. (الصف: 8، 9)، بغضّ النظر عن الأشخاص أو التنظيمات التي تستحقّ ذلك التمكين.
إنّ هذه الرّوح النّقدية وبكلّ هذه الشفافية والوضوح، هي تحرّرٌ من عقدة التعصّب التنظيمي، وهي نوعٌ من تعريض الحركة الإسلامية لأشعّة الشمس والتفكير بصوتٍ مرتفع، بعيدًا عن الدهاليز التنظيمية المغلقة، والصّراعات والتجاذبات الداخلية، ومآلات القولبة والنّمذجة لعقول ونفسيات الأفراد، التي يغلب عليها الانبهار بالذّات وتمجيد القيادات وتقديس الأفكار والتعصب للتنظيم، والتي يغيب معها العقل الاستراتيجي.
ومن هذه المراجعات العميقة في الحركة الإسلامية: الاختيار الإرادي للانتقال من التنظيم الهرمي المحوري إلى التنظيم الشّبكي الرّسالي، ومن الطبيعة الشمولية المنغلقة إلى الطبيعة التخصّصية المنفتحة، ومن وَحدة التنظيم إلى وَحدة المشروع.
ويقوم خيار الذّهاب إلى التخصّص الوظيفي على القناعة المبدئية بأنّ شمولية المنهج والفكرة والمقاصد لا يعني بالضّرورة شمولية التنظيم، وهو ما يطرح فكرةَ تقدّم الولاء للمشروع على فكرة الولاء للتنظيم، وهو ما يفرض أنّ تكون المؤسّسات المتخصِّصة في حالة توازنٍ وتكاملٍ وليست في حالة تنافسٍ أو تآكل، فلا المؤسّسة الحزبية ذراع سياسيّ للجماعة، ولا المؤسّسة الدّعوية ذراع مرجعيّ للحزب، وهو ما يحرّرنا من النقاش التقليدي والجدال التاريخي العقيم بين الجماعة والحزب، وأيُّهما الأصل وأيُّهما الفرع.
ونعترف بأنّ الهندسة التنظيمية للحركة الإسلامية كانت في بعض مراحلها التاريخية اضطرارية وليست اختيارية.
في عهد السرّية فرَض الأمرُ الواقع تضخّم الوظيفة الدّعوية والتربوية على حساب الوظيفة السّياسية، وأخذ التشكُّل الأوَّل للحركة الإسلامية طابع الجماعة الدّينية السّرية والمؤدلجة.
وفي سنوات الانفتاح والأزمة السّياسية فرَض الأمرُ الواقع تضخّم الوظيفة السّياسية على حساب الوظيفة الدعوية والتربوية، وهي نتيجةٌ حتميةٌ وواقعيةٌ انسجمت مع الحتمية النّصّية، إذ أنّ الضحيّة الأولى لأيِّ فتنةٍ أو أزمةٍ هو الدّين، مصداقًا للحديث النبوي الشّريف: “إيّاكم وفسادُ ذات البَيْن، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشّعر، ولكن تحلق الدّين.”.
فتخلّت الحركة الإسلامية عن الدّعوة كوظيفةٍ أساسية من أجل التمكين للدّين في المجتمع، وانجذبت تلقائيًّا إلى السّياسة من أجل التمكين للحزب في الدولة.
وبقي الجدل قائمًا بين أولوية التغيير من الأعلى على مستوى خطّ السّلطة، على اعتبار قاعدة: “النّاسُ على دِين ملوكِهم”، واستصحاب التأصيل الشّرعيِّ الجاهز: “إنّ الله يزَعُ بالسّلطان ما لا يزَع بالقرآن”، وبين الأولوية في التغيير من الأسفل على مستوى خطّ المجتمع، على اعتبار قاعدة: “كما تكونوا يُولّى عليكم”، والتأصيل الشّرعي الجاهز أيضًا: “إنّ الله لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسِهم.” (الرّعد: 11).
كما أنّه من أخطر الاختلالات التي تعاني منها الحركة الإسلامية أيضًا هي سيطرة رجل التنظيم والتنفيذ على رجل الفكر والتخطيط، وهو ما جعل الحركة الإسلامية من الناحية الواقعية والموضوعية أبعد عن التوازن في العمل بين خطّي المجتمع والسّلطة، وأبعد عن الوصول إلى الحكم، ولا تلبث أن ينكشف ظهرُها لإكراهات قصورها الذاتي، ولسطوة موازين القوى الداخلية والخارجية عليها.
وبالمقابل هناك أزمةُ صفٍّ قياديٍّ تقليديٍّ، عجز عن الانسجام والتكيّف مع متغيرات البيئة الداخلية والخارجية للحركة الإسلامية، ومنها عدم استيعابه لحتميات التجديد وإعادات التشكّل في المراحل التاريخية والمفصلية للوطن ولها، ومنها: الانتقال من السّرية إلى العلنية، والتوازن بين العمل السّياسي والعمل المجتمعي، ما جعل مواقفها خاضعة للاضطرار أكثر منها للاختيار، مع إشكالية الدّقة في التمييز بين واقعية المواقف السّياسية، ومبدئية المواقف الدّعوية، ما سبّب إحراجًا تاريخيًّا وأخلاقيًّا في بعض التناقض الظاهري لمسيرة العمل الإسلامي، تسبّب في تقهقرٍ سياسي وانحسارٍ شعبي وترهّلٍ تنظيمي وغيابٍ دعوي وضعفٍ تربوي.
وهو ما يستدعي حتمية إعادة التشكّل والذهاب إلى التجديد في البُعد الفكري والتنظيمي للحركة الإسلامية وهي تنتقل من عصر الصّحوة إلى عصر النّهضة، وتحديدًا في العلاقات التنظيمية بين الهياكل والمؤسّسات: سواءٌ في العلاقات التنظيمية الداخلية، في إطار توزيع وإدارة الوظائف الأساسية، وخاصة بين الوظيفة السّياسية والوظيفة الدّعوية، وباقي الوظائف المجتمعية والعلاقة مع المجتمع المدني.
أو على مستوى العلاقات الخارجية بين الأقطار، وتحديدًا في العلاقة مع الإخوان المسلمين، إذ اتّجهت أغلب الحركات الإسلامية إلى فكّ الارتباط التنظيمي العابر للحدود معهم، وإيجادُ صيغٍ مرنةٍ في التنسيق والتعاون والتكامل، حتى لا يطغى ذلك التحكّم التنظيمي على خصوصية الأقطار، وسيادة مؤسسات تلك الحركات، والخدش في ولائها للأوطان، والدّوْس على قوانين ودساتير تلك الدول.
إنّ من مظاهر التوفيق بين الخطّ السّياسي والخطّ الاستراتيجي للحركة الإسلامية هو عدم الاستسلام أو الإحباط بسبب الخيبات المتكرّرة على مستوى الخطّ السّياسي والتمكين للحزب في الدولة، والثبات والاستمرار في الكفاح على مستوى الخطّ الاستراتيجي والتمكين للدّين (الهويّة والقيم) على مستوى المجتمع.
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)