مقالاتمقالات مختارة

الحركات الإسلامية والاستحقاقات السياسية.. التطبيع نموذجا

الحركات الإسلامية والاستحقاقات السياسية.. التطبيع نموذجا

بقلم محمود عثمان

بعد قرار الرباط، في 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، استئناف العلاقات مع إسرائيل، أصبح المغرب رابع دولة عربية تعلن هذا العام تطبيع علاقاتها مع تل أبيب بعد الإمارات والبحرين والسودان.

وأضحى حزب “العدالة والتنمية” (إسلامي)، قائد الائتلاف الحكومي بالمغرب، محل سجال حاد بأوساط الحركات الإسلامية، فأدبيات الحزب، منذ تأسيسه عام 1967، ترفض مطلقا التطبيع مع إسرائيل.

وشهدت الساحة المغربية ردود أفعال متباينة، عقب الإعلان عن استئناف العلاقات المغربية الإسرائيلية مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

فبينما لاقى اعتراف واشنطن ترحيبا واسعا، اختلفت المواقف والآراء بشأن إعادة العلاقات مع إسرائيل، برعاية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.

وأبلغ العاهل المغربي محمد السادس، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال اتصال هاتفي، بأن الرباط ملتزمة بحل الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وبأن المفاوضات هي السبيل الوحيد للتوصل إلى حل نهائي ودائم وشامل.

** تطبيع أم إعادة للعلاقات

الفرق كبير بين التطبيع وإعادة العلاقات. فالتطبيع يعني قيام علاقات طبيعية بين شعبي دولتين. أما تبادل العلاقات السياسية والدبلوماسية فيدل على تأسيس علاقات رسمية على مستوى الحكومتين والهيئات الرسمية فقط.

مثلا تركيا تربطها علاقات دبلوماسية بإسرائيل منذ 1949، لكن لا أحد يتحدث عن تطبيع بينهما. كما بدأت مصر وإسرائيل علاقات سياسية مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، عام 1978، لكنها لم تتحول لتطبيع حتى الآن.

أقام المغرب علاقات رسمية مع إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، بعد اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنه أغلق مكتب الاتصال بتل أبيب عام 2000، في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

كما يرتبط المغرب بعلاقات تاريخية مهمة مع الطائفة اليهودية، منذ استقباله اليهود الفارين من محاكم التفتيش الإسبانية.

مقابل ذلك أكد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، أمين عام حزب “العدالة والتنمية”، استمرار دعم الرباط للقضية الفلسطينية. ويترأس المغرب لجنة القدس، التي تأسست عام 1975، بتوصية من منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حاليا).

** نشوء الحركات الإسلامية

أدى سقوط الخلافة العثمانية وإخفاق الأيديولوجيا القومية العربية، بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل، إلى بروز قوى إسلامية منظّمة تدعو للحفاظ على الهوية الإسلامية، لكن بنظرة عصرية جديدة.

وتسعى تلك القوى لتحرير السلطة في الدول العربية والإسلامية من هيمنة سياسات التبعية للغرب، وترى ضرورة تفكيك حكومات الاستبداد التي عطلت طاقات أفراد الأمة، وأزاحت المجتمع العربي والإسلامي من دائرة الفعل الحضاري.

فتلك الحكومات تستمد قوّتها واستمرارها من تحالفاتها الاستراتيجية مع القوى العظمى، التي تضمن بقاءها. وأُطلق على تلك القوى الوليدة اسم الحركات الإسلامية.

** العلاقة مع أنظمة الحكم

بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين قطر وآخر، إلا أن علاقة أنظمة الحكم في البلاد العربية والإسلامية مع الحركات الإسلامية، اتسمت عموما بالتأرجح.

فهناك دول منحت الحركات الإسلامية هامشا من الحركة، عبر السماح لها والتغاضي عن نشاطاتها، بل وبناء تحالفات سياسية معها.

بينما ذهبت دول أخرى للمنع المطلق والملاحقة والتنكيل بأفرادها، وعاملتها كتنظيمات خارجة عن القانون.

في جميع الأحوال اتسمت العلاقة بين الأنظمة الحاكمة والحركات الإسلامية بغياب الحوار الهادئ ضمن الشراكة الوطنية، بسبب فقدان الثقة بينهما، وترجيح الأنظمة للمعادلات الصفرية، مع أو ضد، والضيق ذرعا بوجود الآخر.

وأدت تلك العلاقة الملتبسة مع السلطة إلى بروز تيارات فكرية مختلفة داخل الحركات الإسلامية، تراوحت بين تكفير الحاكم والخروج عليه، وبين التصالح معه والعمل على إيجاد أرضيات للتعاون وقواسم وطنية مشتركة تخدم مصلحة الجميع.

هنا تحديدا برزت حاجة ملحة لوجود قيادات إسلامية تجيد العمل السياسي، تتمسك بأفكارها دون أن تصطدم بالنظام. ومن هنا أيضا ظهرت ضرورة فصل المسار السياسي عن المسار الدعوي.

** أحزاب من رحم الحركات الإسلامية

ثمة أدبيات وحدود تحكم العمل الدعوي الإصلاحي وتضبط أداء الحركات الإسلامية. بينما تكاد الضوابط والمحددات تتلاشى في العمل السياسي. فـ”المصلحة” فقط هي المرشد والمحدد لبوصلة العمل السياسي.

هنا تحديدا ينشأ الفصام بين المبادئ والمصالح، وفي هذه المساحة يتأرجح الأداء السياسي للحركات الإسلامية، حيث النقص في الخبرة السياسية، وضغط المحيط والقاعدة الشعبية، التي تنظر للحركة بقدر كبير من الطهورية الخيالية في أحيان كثيرة.

فترى خليطا متناقضا من الأفعال وردود الأفعال، يختلط فيها التصلب عند بعض الشعارات والنصوص، مقابل مرونة وبراغماتية زائدة في مواقع أخرى. وهذا يوَلد عند شركاء الإسلاميين في العملية السياسية شكوكا في النوايا والمصداقية.

برز ذلك جليا أثناء تعهد جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعدم تقديم مرشح للرئاسة، عقب ثورة 25 يناير 2011، ثم ضربوا بذلك الوعد عرض الحائط. كما نفى إخوان سوريا مرارا صلتهم بحزب “العدالة والدستور” (وعد)، ثم انتخبوا رئيسه المؤسس، محمد وليد، مراقبا عاما للجماعة.

تكمن الإشكالية في أداء الأحزاب السياسية، التي ولدت من رحم الحركات الإسلامية، في اضطرارها للتوفيق بين واقعية العمل السياسي الوطني وطهورية/خيالية الشعارات الإصلاحية التي تبنتها ورددتها على مدى العصور.

في البلاد التي تحكمها الديمقراطية ثمة تفاهم بين السياسي والناخب، بحيث يسمح الثاني للأول بهامش من خيالية الطرح خلال الاستحقاقات الانتخابية، لكن يعاقبه إن تمادى.

بينما ينتفى ذلك في الحالات المشابهة في البلاد الإسلامية، فما قاله السياسي، أثناء مسيرته الدعوية، يعتبر وعدا قطعيا ونصا مقدسا لا مهرب من تطبيقه، وإلا فسهام الصديق تنهشه قبل الخصوم.

ثمة أسباب تزيد من معاناة الإسلاميين أثناء عملهم السياسي، أبرزها أنهم يخوضون غمار السياسة بمنطق الدعوة وأدواتها، دون الاستعداد لتحمل تبعات السياسة.

لذلك كان طبيعيا أن نرى النقد الأشد قساوة للأداء السياسي لحركة “النهضة” بتونس، و”العدالة والتنمية” بالمغرب، يأتي من الإسلاميين أنفسهم، بينما تبدو الأصوات خافتة وخجولة عند نقد إسلاميي مصر، الذين أخلوا الساحة لخصومهم بسبب تعثر أدائهم السياسي. وكذلك الحال بالنسبة لإخوان سوريا، الذين يعيشون حياة المهجر منذ أربعة عقود.

يبقى الفرق الجوهري بين السياسي والدعوي أن العمل السياسي والمنطق السياسي يعتمد على المصلحة المبنية على تحقيق النتيجة، عبر موازين وحسابات الربح والخسارة، بينما في العمل الدعوي تتلاشى أهمية النتيجة أمام التضحيات مهما كانت جسيمة.

** الربيع العربي وامتحان التطبيع

أظهر الربيع العربي مدى عطش الشعوب العربية للحرية والكرامة واستعدادها للتضحية من أجلهما. وهبت رياحه بما يتوافق مع تطلعات الحركات الإسلامية، التي نالها القسط الأكبر من جور الأنظمة الحاكمة.

لذلك كان طبيعيا أن نجد تلك الحركات، على اختلافها، في مقدمة الثائرين والمناضلين المنخرطين في ثوراته، كما منحتهم خبرتهم بالتنظيم والعمل الجماعي أولوية في قيادة الأحداث.

لكن رياح الربيع العربي اصطدمت برغبة واشنطن في إعادة تشكيل العالم وفق رؤيتها ومصالحها كإمبراطورية تقود العالم بمفردها.

في كتابه “عالم ما بعد أمريكا” يُشير الدكتور فريد زكريا إلى أن نهوض العالم ما هو إلَّا نتيجة للأفكار والسلوكيات الأمريكية، وأن العالم يسير بالضرورة على نهج الولايات المتحدة، لتصبح الدول أكثر انفتاحا وديمقراطية، والموضوع لا يتعلّق بوجود أو انعدم النوايا الشريرة، بل بـ”فلسفة إصلاح العالم”، فالولايات المتحدة تنظر إلى العالم الخارجي بوصفه جزءا من أمنها الداخلي، لذلك تتّجه لتوسيع سلطتها السياسية والاقتصادية، وتضغط لتغيير النظام الدولي لتضمن أمنها ومصالحها المتسعة دومًا.

واجه الإسلاميون، كما الربيع العربي، عائقين أساسيين، الأول هو الثورة المضادة التي أشرف عليها النظام العربي المؤسس. أما الثاني فبرز عبر سعي واشنطن وغيرها من القوى الإمبريالية لتطويع ثورات الشعوب العربية بطريقة تخدم مصالحها، التي قد تتقاطع مع تلك الثورات في بعض المشاكل، لكنها تختلف في الهدف النهائي.

وهذا ما أجبر الثورات على خيارين أحلاهما مر. فإما التفاهم وتقديم تنازلات لبقايا الأنظمة القديمة التي أطاحت بها، أو الدخول في حرب أهلية بالوكالة عن القوى الاستعمارية العالمية.

ولأن التطبيع فُرض على دول عربية فرضا من إدارة ترامب بالطريقة الترامبية الخشنة، اضطرت الحكومات والأحزاب المنضوية في العملية السياسية، أيا كانت اتجاهاتها وانتماءاتها، للتوقيع على مذكراته.

يدرك الجميع استحالة نفوذ التطبيع إلى الشارع العربي، لكن الإسلاميين اختاروا الدخول في حرب جدلية بينية أثبتت مرة أخرى البون الشاسع بينهم وبين الممارسة السياسية الواقعية.

سياسيا، مثلا، ثمة تشابه بل تتطابق بين الظروف والدوافع والموجبات التي أجبرت المرحوم نجم الدين أربكان على التوقيع على قرارات 28 شباط 1997، وتلك التي أجبرت العثماني على التوقيع على مذكرة إعادة العلاقات مع إسرائيل، وكذلك تلك التي دفعت حركة “حماس” لبناء علاقات تعاون مع إيران، التي تقود مشروعا مدمرا للوجود العربي بالمنطقة.

فجميعها ظروف استثنائية اضطرارية فرضتها الحاجة الماسة. لكننا شاهدنا حملة ضد العثماني؛ لتوقيعه المذكرة.

الذين هاجموا العثماني لم يبدوا أي اعتراض على توقيع أربكان على قرارات 28 شباط، ولم يطالبه أحد وقتها بالاستقالة. قد يتفهم الإسلاميون السوريون علاقة حركة “حماس” الملتبسة بطهران، لكن من العسير عليهم هضم قيام قيادي بالحركة الفلسطينية بمغازلة بشار الأسد، الذي يصفونه بـ”سفاح العصر”.

رأينا أبناء المدرسة الواحدة قدموا وصفات مختلفة لحالات متشابهة ومتطابقة، مما ساهم في إضعاف مصداقية الإسلاميين في الساحة السياسية.

** خصوصية الحالة التركية

دوما، شكلت الحالة التركية مصدر إلهام للدول الإسلامية ونموذجا حضاريا يحتذى به، سواء على صعيد علاقة الإسلاميين الأتراك مع دولتهم وإسهاماتهم في تطوير العملية الديمقراطية، أو مشاركتهم في قيادة دفة الحكم وإدارة الدولة والسلطة بكفاءة ونجاح شهد به العدو قبل الصديق.

ما يهمنا هنا ليس نمط ونموذج الأداء السياسي التركي، حيث تختلف الآراء والتفسيرات حوله. إنما التركيبة التنظيمية للقوى والأحزاب السياسية، من حيث تلبسها بالايدلوجيا وبعدها عنها.

يرى كثيرون، وخصوصا بالعالم العربي، أن حزب “العدالة والتنمية” التركي الحاكم حاليا ولد من رحم حركة “المللي جروش”، التي أسسها أربكان، وبالتالي فهو ينتسب للمدرسة الإسلامية. لكن واقع الحال غير ذلك.

صحيح أن الأسماء الثلاثة الأوائل الذين أسسوا “العدالة والتنمية” جاؤوا من خلفية إسلامية، إلا أن غالبية الكوادر الهامة الأخرى من رجال الدولة المخضرمين، الذين ساهموا في صعود الحزب ونموه ونجاحه في إدارة الدولة والسلطة، كانوا سابقا بصفوف “حزب الوطن الأم”، الذي أسسه المرحوم تورغوت أوزال، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مما شكل فرقا جوهريا بين الأداء السياسي لـ”العدالة والتنمية” قياسا بحزب “السعادة” وقبله “الرفاه”، الذي كان يقوده أربكان.

في الانتخابات، لا تتجاوز أصوات الأحزاب الأيدلوجية ما بين 5% و10%، في أحسن الأحوال. بينما الأحزاب الخدمية هي التي تكتسح الساحة، عندما تتوفر لها شروط النجاح الثلاثة، القائد الكاريزمي، والكادر الحزبي الكفء، والمشروع الوطني الذي يلامس حياة المواطن ويلبي تطلعاته. بالإضافة للظرف السياسي المناسب.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى